حينما كتبت الجزء الأول من مقالتي واستعرت العنوان من شعار الصحفية السعودية الأخت هالة الناصر التي ترشحت لمجلس إدارة هيئة الصحفيين تحت هذا الشعار , وحيث أعجبتني شجاعة هذه المرأة التي فسرت بشعارها تجارب الشعوب وتأريخها منذ بدء الخليقة حتى يومنا هذا بكلمتين , وربما لم تقصد الأخت هالة الناصر أن تذكـّر الناس بهذا التأريخ وهذا المجد للمرأة عبر سني بناء الحضارات البشرية الأولى وقد تكون أرادت ذلك فعلا فكانت بارعة باختصار واختيار المفيد من الكلام بأقله ِ .
المهم أن ما دعاني لكتابة الجزء الثاني هو أن الكثير من الناس بعثوا لي بالرسائل إعجابا بالمقال, ولكنني سمعت من وجد أن من الضروري أن نقول أن الحضارة رجل وامرأة , هنا لا بد لي من الدفاع عن وجهة نظري وهو حتما دفاع عن شعار الأخت هالة الناصر.
إننا عندما نتحدث عن الحياة نقول - وهذا هو الصواب- أن الحياة رجل وإمرأة , نعم ونحن لا نختلف على هذا إذ لا يمكن ان تستوي الحياة بدون وجود رجل وإمراة يسويانها ويبنيان نطفها واستمراريتها , وقلت في مقالات سابقة أن الرجل هو سرّ جمال المرأة وحنانها الخلاق , كما أنها سر قوته وعطاءه, وهذا أمر طبيعي , إذ أنني لا أدعو الى الخروج على طبيعة الخلق, وأرى أن العلاقات البشرية لابد وأن تكون على أساس من الحب بين المرأة والرجل , وما أجمل هذا الرابط المقدس . ولكنني في ذات المقال تحدثت عن الحضارة وليس عن مجرد الحياة , فالحياة عملية خلق فيسيولوجية تتكون بين الذكر والأنثى إن كان من البشر أو من البهائم, ليس للإنسان قدرة على التدخل بها أوإتخاذ القرار بشأنها , أما الحضارة فهي شيء آخر , الحضارة قيم وأخلاق , مُـثل ٌ تصنع المنطق والفلسفة والفن والتأريخ, تصنع العدل والحقوق والعيش الرضي للجميع , الحضارة ليس بناية من الأسمنت والكونكريت المسلح , وليست طريقا معبدا أو سكة حديد, ولا حتى مركبة فضائية ,إن ما يصنعه الإنسان من تطور تكنولوجي وثورة صناعية , لا يكفي بأن يسمى حضارة أبدا , وأن تسميته بالحضارة يعتبر تجاوز إن لم يرافقه عدل ومساواة وأخلاق, الحضارة هي بناء الإنسان , سلوكه , مبادئه وتوجهاته , التي تبين إن كان إنسانا فعلا أم كان من الدواب التي ترعى بالمراعي , وهنا يأتي دور المرأة التي لا بد وأن تكون واعية , مثقفة , حرة , شجاعة ,واثقة بقدرتها على التربية والعطاء, مستندة على قوانين تنصفها وتعلي من شأنها كما أعلت الأديان السماوية من شأنها ولا أدل من الكلمات المنيرة ( الجنة تحت أقدام الأمهات).
فلكي نحصل على جيل ٍ يستطيع أن يميز الحق من الباطل , جيل لا ينشغل بتوافه الأمور ويضيع الأوطان والحقوق, أن يكون هناك جيل لا يركض وراء الملايين بكل الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة ليتسلط, ويأمر, ويعيث بالأرض فسادا , هنا أستشهد بأبيات الشاعر- وأظن إن لم تخني الذاكرة- هو أمير الشعراء حيث يقول:
الأم مدرسة إذا أعددتها ×××× أعددت شعبا طيب الأعراق
نعم , إن دور المرأة هو بناء الإنسان الذي يبني الحضارة, والحضارة أخلاق كما قال شاعرنا:
وإنما الأمم الأخلاق مابقيت ×××× فإن هم ُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
لقد عرف شاعرنا بفطنته التي لا تنكر كيفية الوصول بأسهل الطرق وأوضحها للحضارة , فأكد على دور المرأة التي تبني الأجيال وعلى الإهتمام بوعيها وثقافتها, لذا أطلب من قاريء مقالاتي أن يميز بين التطور الحديدي من مواد بناء المدن وثورة الإتصالات والفضائيات ومراكبها , وبين الحضارة كسلوك إجتماعي يبني الإنسان وهو الأهم إذ بدونه ينهار كل بناء , وهاكم الحروب التي تعصف بالعالم والصراعات والنزاعات وغمط الحقوق , مع أن العالم قد بلغ تطورا هائلا بالتكنلوجية والمعلومات والإتصالات ,لكننا لم نر اليوم شخصية واحدة مؤثرة بالناس على مستو عالمي , زاهدة بالحياة , صادقة بالحب للخير والسلام, كما كان السيد المسيح (ع) أوالنبي محمد (ص) أو الإمام الحسين (ع) أو المهاتما غاندي أو بوذا وسواهم من العظماء الذين أصبحوا مـُثـلـنا العليا, فحضارة الأخلاق هي التي تنتج هذه القيم والشخصيات , وهي التي تجعل أضعف بناء أصلب من أن يسقط بسرعة كما سقطت أبراج نيويورك , وإن كانت هناك شخصية في حاضرنا الراهن تستحق أن تكون مثالا أعلى لنا , نراها حتما تـُحارب من قوى الشر والطامعين بالمال والسلطة والجاه, وهم للأسف الأقوى والأكثر تأثيرا , منذ بدأ الإنسان التفكير بحضارة الحديد والمال دون الأخلاق فمنذ ذلك الزمان والحق – للأسف وفي أكثر الأحيان- مهزوم مغلوب على أمره .
من هنا يكون من الضروري التركيز على دور المرأة , بتربية جيل يبني الحضارة على أساس الحق والعدالة , وحينما تجهل المرأة دورها بالتربية والبناء , وتكون مذعورة , مرتبكة , لا حقوق لها , غير واثقة مما تفعل , خائفة من أبيها وأخيها وزوجها وأبنها وكل من غلظ جسده وثخن صوته, تفقد قدرة البناء والمشاركة على صعد عدة , وفاقد الشيء لا يعطيه, خاصة وأن علماء النفس يؤكدون بأن شخصية الطفل تتكون كسلوك إجتماعي , في الأعوام السبعة الأولى, السنوات التي يلتصق بها الطفل بإمه , يتشبث بأذيالها ليأخذ عنها ما وعت وما هي عليه , هذا لا يعني أن الأب لا دور له, بل أن الطفل يقضي معظم وقته مع أمه, فهي تشكل شئنا- أم أبينا - الأثر الأهم والأكبر ببناء الشخصية التي نريدها سوية, تبني حاضرنا ومستقبلنا على أساس متين من الأخلاق , الذي هو أساس الحضارة الحقيقية التي نتمنى .
ومن هنا أكون واثقة أكثر لأ رفع بدوري نفس شعار الأخت هالة الناصر "الحضارة إمرأة" .
لاهاي 24-1-2004
* شاعرة وناشطة حقوقية عراقية مقيمة في هولندا