IGNACIO RAMONET
اطلقت بعض وسائل الاعلام الباريسية نقاشا حول السؤال الآتي: هل يجب المشاركة في معرض الكتاب في هافانا والذي يستضيف فرنسا هذه السنة؟ ادعى البعض ان من شأن هذه المشاركة اضفاء الصدقية على النظام الكوبي. لكن الا تساهم مقاطعة المعرض في تعزيز الحصار المضروب على الجزيرة، وتقديم الدعم عمليا للأطروحات المناهضة لعملية انتقال داخلية سلمية للسلطة وتطبيع العلاقات مع كوبا؟
منذ اكثر من اربعين عاما تفرض الولايات المتحدة حصارا اقتصاديا مدمرا على كوبا يعوق نموها الاقتصادي الطبيعي ويؤدي الى نتائج كارثية على سكان الجزيرة. كما تقود واشنطن حربا ايديولوجية واعلامية دائمة ضد هافانا من خلال اذاعة "مارتي" وتلفزيونها المتمركزين في فلوريدا واللذين يغرقان بامكاناتهما الكبيرة جزيرة كوبا بالبث الدعائي كما في زمن الحرب الباردة... إضافة الى أن فلوريدا تستضيف عددا من المنظمات الارهابية المعادية للنظام الكوبي وهي تملك معسكرات للتدريب وتستفيد من تواطؤ السلطات الاميركية السلبي لترسل باستمرار مجموعات كوماندوس مسلحة تنفذ اعتداءات ضد الجزيرة.
هكذا تواجه كوبا منذ اربعة عقود اعتداءات متعددة الشكل من جانب الولايات المتحدة. ورغم هذه الحرب الكامنة، استطاع هذا البلد الصغير المتمسك بسيادته من تحقيق نتائج استثنائية على صعيد التنمية البشرية: القضاء على العنصرية، تحرير المرأة، ازالة الامية، خفض كبير في نسبة الوفيات عند الولادة، ارتفاع في المستوى الثقافي العام... اما على مستويات التربية والصحة والرياضة فحققت كوبا نتائج تجعلها ضمن مجموعة الدول المجلية (1) .
ليست الامور مرضية على صعيد الحريات وهذا ما لم تتأخر "لوموند ديبلوماتيك" في الاشارة اليه (2) . ويحصي احدث تقرير لمنظمة العفو الدولية (3) حول كوبا "13 شخصاً على الاقل تعتبرهم المنظمة من سجناء الرأي في نهاية العام 2000". انه امر خطير (ولو ان منظمة العفو الدولية تشير الى ان "الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة لا يزال ساري المفعول" و"يقر بأن هذا التدبير يضاعف من الصعوبات التي يواجهها هذا البلد ويساهم اضافة الى عوامل اخرى في تفاقم المعاناة التي يعيشها المساجين") لكنه بعيد عن "الغولاغ" الذي تصفه الدعاية. فالتقرير لا يشير الى اعمال تعذيب او "خطف" او اغتيال. لا يلحظ ولو حالة واحدة من هذا القبيل. بينما في "الديموقراطيات" القريبة مثل غواتيمالا وهندوراس وحتى المكسيك او البرازيل، ما زال النقابيون والمعارضون اليساريون والصحافيون (4) والكهنة ورؤساء البلديات يتعرضون للاغتيال ويفلت المجرمون من العقاب... يضاف الى ذلك في هذه البلدان انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ووفيات الاطفال والامية والتشرد واحياء الصفيح وتسول الاولاد والمخدرات والجنوح... هناك ما تقشعر له الابدان عند قراءة تقارير منظمة العفو الدولية حول هذه الدول.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والانظمة التسلطية في اوروبا الشرقية التي كانت كوبا تحقق معها القسم الاساسي من تجارتها الخارجية، اعلن العديد من خبراء السياسة التافهين الانهيار القريب للنظام الكوبي. كان في ذلك جهل لطبيعة هذا النظام كونه يضمن قبل كل شيء الاستقلال الوطني. ذلك ان النظام تغير كثيرا بعدما تخلى عن جوانب كاملة من الاشتراكية المتشددة. فقد تم تعديل القوانين الزراعية وجرى الاعتراف بالمبادرة الاقتصادية الخاصة وتشجيع السياحة (مع ما تحمله من نتائج سلبية كانتشار البغاء...) ومضاعفة الشركات ذات الرأسمال المختلط وتنشيط الحياة الثقافية... فكوبا بلد منفتح اليوم اكثر بكثير مما كان عليه قبل عشر سنين.
توقفت هافانا منذ زمن طويل عن تصدير ثورتها وواصلت جميع دول اميركا اللاتينية علاقاتها الديبلوماسية معها. وشكلت زيارة يوحنا بولس الثاني في 1998 منعطفا في هذا الاتجاه وقد طالب البابا في حينه "ان تنفتح كوبا على العالم وينفتح العالم على كوبا". كذلك قام الملك الاسباني بزيارة الجزيرة والاجتماع مع السيد فيدل كاسترو. فحتى لو تعرض بعض الناشطين للاعتقال والتنكيد فإن المنشقين الرئيسيين احرار ويستقبلون في صورة رسمية غالبية المسؤولين الاجانب الذين يأتون الى الجزيرة. وحتى اكثر اعداء كوبا شراسة يقرون بأن "الازمنة تبدلت، فالكوبيون ينتقدون كل شيء والبلد يعج بالاجانب ويمكن احيانا الالتقاء بأحد المعارضين من الداخل فيتكلم..." (5)
من جهتها، استخلصت الديبلوماسية الغربية العبر من فشل عمليات الانتقال من نظام الى نظام في دول اوروبا الشرقية. فقد جاء تدهور الوضع الانساني في روسيا وغيرها من البلدان الشرقية اضافة الى الحروب الاتنية في البلقان والقوقاز مع ما اوقعته من مئات ألوفف القتلى لتبرهن ان الغرب لا يملك وصفة سحرية لضمان العبور الناجح الى الديموقراطية. خصوصا ان هذه الديموقراطية تسببت في خيبة امل في العديد من البلدان بعدما ترجمت في زمن العولمة الليبيرالية بعمليات خصخصة متوحشة وإهدار لموجودات الدولة وتدمير القطاع العام وانهيار الابداع الثقافي وظهور المافيات وشبكات الجنوح وتعميم ظاهرة الفقر...
في 11 ايلول/سبتمبر 2001، سارع السيد فيدل كاسترو الى استنكار الاعتداءات معربا عن تضامنه مع الشعب الاميركي كما انه لم يعترض على اقامة معسكر اعتقال لاسرى "القاعدة" فوق شاطىء غوانتنامو. من جهته، لم يصنف السيد جورج والكر بوش كوبا بين بلدان "محور الشر"...
ورغم ان الحصار التجاري المجحف ما زال يطبع العلاقات الاميركية ــ الكوبية فإن هذه العلاقات تطورت في شكل بناء خلال ولايتي الرئيس بيل كلينتون. فهناك اليوم رحلات جوية مباشرة يستطيع بواسطتها المنفيون الكوبيون زيارة اهلهم. كما يمكن هؤلاء المهاجرين ان يحوّلوا النقد النادر من الولايات المتحدة مباشرة الى عائلاتهم. حتى ألوف السياح الاميركيين يعودون... (6) . من الواضح ان واشنطن تراهن على عملية انتقال سلمية للسلطة في كوبا وتخشى زعزعة مفاجئة تدفع بالالوف من اللاجئين بحرا الى شواطئ فلوريدا التي ستشهد اختلالا في توازنها الديموغرافي...
ولا تنقطع زيارات عشرات الشخصيات الاميركية الى هافانا ، من اعضاء مجلس الشيوخ والنواب والجامعيين والعلماء والصحافيين ورجال الاكليروس. فالسادة جيسي جاكسون وتيد ترنر وفرنسيس فورد كوبولا وروبرت ردفورد كما السيدة جاين فوندا يترددون على الجزيرة في شكل دائم. وفي شباط/فبراير الفائت امضى فيها المخرج اوليفر ستون اسابيع عدة في صحبة السيد فيدل كاسترو لتصوير فيلم وثائقي عنه... كما يمر في كوبا عشرات الشخصيات الاميركية اللاتينية والاوروبية (إيطالية وفرنسية واسبانية وبرتغالية في صورة خاصة) والجميع يعتبر ذلك طبيعيا.
باستثناء حفنة من منظّري الصالونات المفجوعين على ما يبدو بزوال العداء للشيوعية والساخطين بسبب خطأهم في التنبؤ قبل عشر سنين بالسقوط "الحتمي" للنظام الكوبي. واذ يتجاهلون مجددا الظروف الجيوسياسية فإن هؤلاء المقاتلين القدامى من زمن الحرب الباردة عمدوا الى انتقاد مشاركة شخصيات فرنسية (وخصوصا مشاركتي) في معرض هافانا للكتاب.
فانطلاقا من مقال في صحيفة "ليبيراسيون" (7) مليء بالاخطاء ودون تكبد مشقة التأكد من المعلومات (8) ، قدم بعض قضاة التحقيق الكسالى (9) البرهان مرة اخرى على ان وسائل الاعلام تكرر بعضها مثل طيور الببغاء...
ضمن اطار سياستها الجديدة لاصدار كتب لا تتطابق مع خطها السياسي (10) ، ارادت مؤسسة الكتاب الكوبي نشر كتابي "دعايات صامتة" (11) . كيف لا اوافق؟ جميع الذين قرأوا كتابي يعرفون انه لا يمكن ان يخدم اي نظام كان (12) . فمن ضمن الرؤية المتمردة لمعلمي مدرسة فرانكفورت (ادورنو، بنجامن، ماركوز)، يقدم الكتاب نوعا من "العدة" المبدئية تحول دون اي تلاعب بالعقول سواء من اليمين او من اليسار.
وقد تلى تقديم الكتاب في هافانا نقاش صريح ومفتوح مع مثقفين وصحافيين وطلاب، ليس فقط في حضور السيد فيدل كاسترو (13) بل ايضا في وجود شخصيتين اميركيتين كبيرتين هما روبرت موندل وجوزف ستيغليتز الحائزين جائزة نوبل في الاقتصاد.
وقد اشرت خلال هذا النقاش الى ان "الاتحاد السوفياتي خسر الحرب الباردة بالضربة القاضية" وان علينا استخلاص العبرة التالية من هذه الهزيمة: "ان نظاما من دون ديموقراطية واقتصادا من دون سوق يقودان الى الكارثة". واكد السيد فيدل كاسترو انه لم يعد هناك من وجود لنموذج يحتذى في السياسة وان لا احد يدرك اليوم ماذا اصبح يعني مفهوم "الاشتراكية" (14) . واضاف ان شرعية مناهضة العولمة الليبيرالية لا تبرر اي لجوء الى العنف...
اكثر من مليون شخص زاروا معرض الكتاب في هافانا (وهذا رقم قياسي عالمي...) ووزعت في هذه المناسبة خمسة ملايين نسخة في هذا البلد الصغير حيث لا يزال الشغف بالقراءة مزدهرا. وعقدت مئات الندوات حول الموضوعات المختلفة وتمكن الناشرون الفرنسيون من عرض كتب معارض النظام بكل حرية (كابيرا انفانته، رينالدو اريناس، خيسوس دياز، خوسه تيرانا، راوول ريفيرو الخ) (15) . لم تمارس السلطات رقابتها على اي كتاب وهذا ما يؤكد مرة اخرى ان العداء البدائي لنظام كاسترو هو بمثابة الموقف الليبيرالي للبلهاء...
--------------------------------------------------------------------------------
(1) انظر التقرير حول التنمية البشرية الصادر عن الامم المتحدة للعام 2001.
(2) اقرأ Francoise Barthelemy, “La culture malgre la crise. Cuba entre solitude et fierte”, le Monde diplomatique, Sept. 2001.
(3) من التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية حول كوبا 2001.
(4) يشير المعهد الدولي للصحافة الى اغتيال 55 صحافيا في العام 2001 عبر العالم. لا يذكر اي عملية اغتيال في كوبا.
(5) Liberation 25/2/2002
(6) Le Monde, 1er février 2002.
(7) يراكم المقال الاحكام المبتذلة حول كاسترو مطلقا عليه لقب "ليدر ماسيمو" (القائد الاكبر) وهي عبارة اخترعتها وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية ولا يستعملها الكوبيون ابدا. كما يتكلم عن كتابي "دعايات صامتة" من دون ان يكون قد قرأ منه سطرا واحدا اضافة الى انه يجهل ان يومية "غرانما" لا تصدر يوم الاحد...
(8) انطلاقا من معلومات غير مؤكدة قدم الصحافي في "لوموند" (17 شباط/فبراير 2002)، جان ميشال كارويت غير الموجود في هافانا "وصفا تفصيليا" انطلاقا من سانتا دومنغو لنشاطاتي في كوبا ويعرف عني خطأ بصفتي احد "منظمي المنتدى الاجتماعي العالمي في بورتو اليغره" كما يبتدع محادثة خيالية بيني وبين كاسترو حول بوروتو اليغره...
(9) لوران جوفران في "لو نوفيل اوبسرفاتور"، 21 شباط/فبراير 2002، فيليب سولرز في "لو جورنال دو ديمانش"، 24 شباط/فبراير 2002، الان جيرار سلاما على اذاعة "فرانس كولتور"، اول آذار/مارس 2002، الان فينكلكروت ومن جديد لوران جوفران على اذاعة "فرانس كولتور" في اليوم التالي، فرنسوا رينارت في "لو نوفيل اوبسرفاتور"، 28 شباط/فبراير 2002. وكان هؤلاء من دعاة العولمة الليبيرالية وهم غاضبون لانهم فوتوا على انفسهم اليقظة المواطنية المتجسدة في "اتاك" وسياتل وبورتو اليغره مثلا...
(10) ..Françoise Barthélémy, … La culture malgré la crise. Cuba entre lassitude et fierté î, op. cit
(11) منشورات غاليله باريس، 2000. وقد بيع منه 20 الف نسخة في فرنسا وهو مترجم اليوم اضافة الى كوبا في كل من البرتغال والبرازيل وايطاليا واليونان والمانيا وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة واوستراليا.
(12) حتى ان الكتاب يحتوي في الصفحات 193 و195 على نقد للنظام الكوبي.
(13) انتقدني الكثيرون على هذا الاقتراب من فيدل كاسترو لكني شاركت بعد اسبوع في مدينة برن في حوار حول العولمة الى جانب نائب رئيس الاتحاد السويسري ووزير المالية فيه السيد باسكال كوشبان. فهل تحولت بذلك الى "مبرر للمصارف السويسرية الكبرى"؟ اقرأ Le Temps, 22 février 2002 et Le Courrier de Genève, 23 février 2002
(14) كشف السيد كاسترو في تلك المناسبة ان الاحزاب اليسارية في اميركا اللاتينية قررت خلال المنتدى الاخير المنعقد في ساو بالو عدم استخدام كلمة اشتراكية بعد اليوم لانها "تحولت سببا للتفرقة..."
(15) ان عدم توافر كتب الروائية زويه فالديس يعود الى عدم اهتمام دار النشر "اكت سود" بعرضها، وخلافا لما أكدته صحيفة "ليبيراسيون" (15 شباط/فبراير 2002) فإن السلطات الكوبية لم تقدم اطلاقا على منعها.
http://www.mondiploar.com/
جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم