1-العولمة: سؤال العصر
خلال العقد الأخير من القرن العشرين انشغل العالم بثلاث قضايا كبرى هي:
قضية التحولات التي جرت في الاتحاد السوفيتي السابق ودول أوربا الشرقية مع صعود غورباتشوف واستلامه زمام السلطة في الاتحاد السوفييتي، وعرفت هذه القضية تحت عنوان البيريسترويكا.
وقضية الديمقراطية وحقوق الإنسان ، التي شكلت الشعار السياسي والأيديولوجي التي خاضت تحته الدول الغربية معركتها ضد الاتحاد السوفييتي وحلفاؤه.
أما القضية الثالثة فهي قضية العولمة.
وإذا كانت القضية الأولى قد أصبحت من الماضي مع انهيار الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية السابقة فإن القضية الثانية ؛أي قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان ،هي الأخرى في طريقها إلى التراجع من دائرة الاهتمام العالمي كقضية مستقلة ، مخلية الساحة لقضية العولمة.
ومما لاشك فيه أن سؤال العولمة ، هو سؤال العصر الراهن، العصر الذي يشهد التحولات الكبرى في الحياة المادية والفكرية للناس، عصر يزداد فيه العالم ترابطا بصورة لم يعرفها من قبل، ويحصل ذلك بوتائر سريعة غير مألوفة، إنه عصر الثورة العلمية والتكنولوجية،عصر عولمة الرأسمالية.
وكأي ظاهرة جديدة لم تأخذ أبعادها الكاملة بعد،ولا صورتها الحقيقية، تحاول العولمة نسج حقيقتها المعرفية، لذلك تختلف فيها الآراء وتتباين بصددها الأفكار ووجهات النظر ،وتتمايز تجاهها المواقف بين مؤيد ومعارض.
هناك من ينظر إلى العولمة وكأنها ظاهرة حيادية لاعلاقة لها بمصالح الناس وصراعاتهم مثلها في ذلك مثل التقدم التكنولوجي " كلاهما غيرمرتبط بنظام اقتصادي اجتماعي معين " [1،41] ، وليست بالضرورة " ظاهرة رأسمالية لأنها ليست تعبيراً عن نمط معين في تطور علاقات الإنتاج ، بقدر ما هي مرحلة عليا من تطور قوى الإنتاج " [1،40] ، لذلك لا يصح تحميل العولمة "وزر ما تستهدفه الرأسمالية من شرور وإفقار"[1،41].وعلى أرضية حيادية العولمة يسهل على الخيال أن يجنح ليحلق منطلقا بها خارج الكرة الأرضية فيعايرها بمعايير
* د. منذر خدام ؛دكتوراه في العلوم الاقتصادية، مدرس في جامعة تشرين –كلية الزراعة، له العديد من الكتب والأبحاث المنشورة. E – Mail : khddam @ scs- net .org
الفيزياء فتكون عولمة بحق عند " اختراقها جاذبية الأرض حيث الفضاء الكوني فحرية الإنسان الحقيقية التي تجسدها العولمة تبدأ " عند لحظة تجاوزه لجاذبية الأرض ، ففي هذه الجاذبية عبوديته وفي اختراقها حريته " [1،45] . وما دامت العولمة سوف تخرج الإنسان من عبودية الأرض إلى فضاءات الحرية الكونية فمن البديهي أن تتحول " هوية إنسان الأرض إلى هوية جديدة تماما هي الهوية الكونية، المجردة والمنسلخة تدريجيا عن تلك الولاءات والانتماءات التحتية "[1،45] .
من جهة أخرى هناك مواقف من العولمة لا ترى فيها إلا نزوعا غربيا نحو الهيمنة . فالعولمة حسب عبد الإله بلقزيزهي " الدرجة العليا في علاقات الهيمنة والتبعية الإمبريالية " [2،92] .ويؤيده في ذلك السيد روبرت كيهان المدافع الأشد عن وجهة النظر الأمريكية من قضية العولمة ، محاولا تقديم تفسير لذلك فيقول "إن الهيمنة تخلق الاستقرار بواسطة احترام مجموعة من قواعد اللعب " [3،55] . وبصورة أكثر تخصيصاً يربط بعض الباحثين ولادة العولمة بالمشروع " السياسي الأمريكي الجديد "[3،55] ، فهي " تشير في جوهرها وحقيقة أمرها إلى أمركة العالم (العولمة = الأمركة) " [4،4-5] وإن عملية أمركة العالم أو تغريبه لا تكون إلا باختراقه.فحسب محمد عابد الجابري العولمة " هي طموح، بل إرادة لاختراق ((الآخر)) وسلبه خصوصيته، وبالتالي لنفيه من العالم " [5،14-22]. ولا يكون اختراق الآخر وبالتالي نفيه من العالم إلا بتفتيته وإحالته إلى وحدات وجوده الأولى من عشائرية وقبلية وعرقية ولغوية؛ أي باختصار إلى كل ما هو سابق على الدولة القومية [6،35] ، لذلك فإن العولمة تجسد " إرادة الهيمنة وبالتالي قمع وإقصاء للخصوصي…إنها احتواء للعالم " [5،17]. من هنا كانت الحاجة إلى تبرير أيديولوجي يكرس هذا النزوع الإمبريالي نحو الهيمنة وإقصاء الآخر. لذلك فإن العولمة "ليست مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي ، بل هي أيضاً وبالدرجة الأولى أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم" [5،16] .
بين النظرة الأيديولوجية المتفائلة للعولمة والداعية إلى الانخراط فيها بفعالية خوفا من التهميش ، لأن الدولة التي" تتأخر لهذا السبب أو ذاك عن مسايرة ركب العولمة، وتعاند في اجترار مقولاتها وأعذارها وتصبح بعدئذ عبئا حقيقيا وذيلا متورما لعالم معولم " [1،48] ، لا تنفع معها إلا الجراحة فالعالم المعولم " يريد لبيئته أن تكون نظيفة وغير متسخة بتلك الأورام من جيوب ماضيه " [1،48] ، وبين النظرة الأيديولوجية المتشائمة للعولمة التي لا ترى فيها سوى نزوعا غربيا ، وأمريكياً ،على وجه الخصوص، نحو الهيمنة وتهميش الآخر وإلغاءه ، ثمة ظاهرة موضوعية ،عرفت وشاعت تحت أسم "العولمة" ،آخذة في التكونن على الصعيد العالمي تمثل في حقل الفكر إشكالية حقيقية.
من جهة لأن الظاهرة ذاتها فاجأت المفكرين والمشتغلين في حقل الدراسات المستقبلية، فلم يمهد لها الفكر ولم تبشر بها الأيديولوجيا،بل هما يلهثان وراءها في حركة نموها وتصيرها المتسارعة.
ومن جهة ثانية لأن أغلب الدراسات التي عالجت العولمة كانت تقف عند حدودها الخارجية لتسهب في وصفها وكأنها ظاهرة ناجزة ومنتهية،أو على الأقل لتسهب في وصف ما بدى من أثارها في مختلف الحقول الاجتماعية.لذلك فإن سؤال ما هي العولمة؟ لا يزال يبحث عن جواب.
2- العولمة:بحث في الصيرورة الموضوعية.
من بين المفكرين العرب الذين كتبوا حول العولمة يعتبر صادق جلال العظم أفضل من قارب الظاهرة .العولمة حسب رأيه هي وصول نمط الإنتاج الرأسمالي منذ منتصف القرن العشرين إلى مستوى من التطور أصبحت فيه جميع دوائر رواج رأس المال عالمية بما في ذلك الدائرة الإنتاجية . فظاهرة العولمة التي نشهدها هي " بداية عولمة الإنتاج والرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج الرأسمالية وبالتالي علاقات الإنتاج الرأسمالية أيضا ونشرها في كل مكان . بهذا المعنى العولمة هي رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره ،هي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء.." [7،8].
وبالفعل تمثل العولمة زمنا تطوريا رأسماليا، تجري خلاله مجموعة من العمليات المترابطة التي تشغل مساحة الكوكب بأثره فتوحده على أسس تفارقية في المجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ،متخطية الحدود القومية ومتجاوزة دور الدولة الوطنية ، محركها الدافع هو الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة . لنتتبع هذه العمليات في حقولها المختلفة.
2-1 –العولمة وتغيير التركيب العضوي لرأس المال.
في بحث ماركس حول " العمل المأجور ورأس المال " وفي العديد من دراساته الأخرى المتعلقة بطريقة اشتغال النظام الرأسمالي أشار إلى أن تطور الرأسمالية ينتج عنه موضوعيا نتيجتين متلازمتين: من جهة يزداد تركيز وتمركز رأس المال، ومن جهة ثانية تنمو الطبقة العاملة باستمرار لأنها من أخص منتجاته . كتب ماركس يقول " إن رأس المال لا يمكن له أن يتكاثر إلا إذا بودل بقوة العمل، إلا إذا خلق العمل المأجور… وهكذا فإن تكاثر رأس المال هو بالتالي تكاثر البروليتاريا ،أي الطبقة العاملة " [8،116].
مما لا شك فيه أن العمل هو مصدر كل قيمة، وان نمو الثروة الاجتماعية مشروط بالعمل المجمد فيها بغض النظر عن نوعيته وطريقة قياسه .ولقد لاحظ هذه الحقيقة المفكرون منذ زمن قديم وظهرت بصورة متسقة عند ابن خلدون، وفسرها ماركس في ظروف الرأسمالية التقليدية.غير أنه في الظروف الراهنة من تطور الرأسمالية جرت تعديلات جوهرية على هذه المقولة، فكيف حصل ذلك؟
يلاحظ ، في الوقت الراهن، وعلى نطاق واسع أن الثورة العلمية والتكنولوجية الحديثة تغير بصورة متسارعة وعميقة العلاقة بين العمل ووسائل الإنتاج (بين الجهد الحي والجهد الجامد) ؛ أي ما يسمى بالتركيب العضوي لرأس المال . فإنتاجية العمل المتزايدة باستمرار جعلت من الممكن لكمية من العمل متناقصة باستمرار أن تخلق كمية من الخيرات المادية متزايدة باستمرار. بمعنى آخر فإن تطور قوى الإنتاج أخذ يزيح بصورة واسعة وعميقة العمل من دوائر اشتغال رأس المال ، بل ومن الدوائر الاجتماعية الأخرى ، ويتحول نتيجة لذلك الفيض النسبي للقوة العاملة إلى فيض سكاني مطلق ، وان هذا الاتجاه الموضوعي في تطور الرأسمالية آخذ في التبلور والاستقرار بصورة متسارعة ،مما يؤسس لطور جديد وعصر جديد في تاريخ الرأسمالية. فإذا كان وجود " العامل الحر " هو السمة الأكثر جوهرية المميزة للرأسمالية التقليدية ( الوطنية) ، فإن وجود ( العامل الفائض غير الحر) هو السمة الأكثر جوهرية المميزة للرأسمالية العالمية.وعليه فإن مقولة ماركس السابقة الذكر لم تعد صالحة لمرحلة الرأسمالية العالمية، وأن نمو رأس المال لم يعد يتطلب نمو الطبقة العاملة، بل على العكس أصبح تقليصها شرط ضروري لنمو رأس المال.
وبالفعل ففي الولايات المتحدة الأمريكية خلال ثلاثين عاما (1950-1980 ) انخفضت نسبة " ذوي الياقات الزرق " بين القوى العاملة من (40 ) بالمائة إلى (32) بالمائة وقد ازدادت هذه العمليات باطراد خلال الثمانينات [9،136] . وخلال الفترة الواقعة بين عام 1979 وعام 1995 خسر نحو (43) مليون مواطن أمريكي فرص عملهم الدائمة بناء على حسابات صحيفة New York Times القائمة على الإحصائيات المقدمة من قبل وزارة العمل الأمريكية [10،-] . وحسب لستر تارو Thurow الاقتصادي في معهد MIT أن البطالة في أمريكا تبلغ نحو (14) بالمائة من مجموع السكان في سن العمل وسترتفع هذه النسبة إلى (28) بالمائة إذا أضيف إليهم أولئك الذين لا يعملون إلا من حين لأخر [11،126؛165؛166] . وحسب ما ذكرت جريدة New York Times في مطلع شباط/فبراير من عام 1996 فإنه يتعين على المستخدمين المكتبين في أمريكا والبالغ عددهم نحو (18.2) مليوناً أن يتوقعوا خسرانهم لفرص عملهم وإحلال زميلهم الكمبيوتر محلهم في العمل.وعندما سئل مدير شركة الكمبيوتر الأمريكية (ميكرو سيستمز) جون جيج John Gage عن عدد العاملين الذين يحتاجهم أجاب : "ستة لربما ثمانية " دون هؤلاء يتوقف عملنا بلا مراء.ومع أن عدد العاملين في الشركة يبلغ (16) ألفاً فإن " جل هؤلاء احتياطي يمكن الاستغناء عنه عند إعادة التنظيم " [12،25] .
وليس الحال في ألمانيا أفضل منه في أمريكيا، ففي عام 1996 كان هناك أكثر من ستة ملايين مواطن يرغبون في العمل إلا أنهم لا يجدون فرصة دائمة [12،28] . وفي العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ستلغى بناء على ما يتنبأ به استشاري المشاريع المعروف في ألمانيا رولاند برغر Roland Berger مليون ونصف المليون فرصة عمل على أدنى تقدير في القطاع الصناعي وحده." وهناك احتمال أن يلغى نصف السلم المتوسط في إدارة المشاريع" [13،-]. وفي ألمانيا أيضا ألغى عمالقة صناعة الكمبيوتر IBM و Digital Equipment و Nix Darl ما يزيد على عشرة آلاف فرصة عمل منذ عام 1991 [12،189] . وكان قد ضاع في القطاع الصناعي في الفترة الواقعة بين عام1991 وعام 1994 أي في ثلاث سنوات فقط ما يزيد على مليون فرصة عمل [14،-]. وفي شركة فولكس فاغن تتقلص فرص العمل بنحو (7) آلاف إلى (8) آلاف فرصة عمل سنوياً من جراء زيادة الإنتاجية [15،-].وانخفضت نسبة العمال في مؤسسات سيمنتس في ألمانيا خلال الفترة(1962-1982) من(67)بالمائة إلى(47) بالمائة [9،136] .
وفي النمسا ،خلال العشر سنوات القادمة ، يتوقع أن يرتفع معدل البطالة من (7.3) بالمائة إلى (18) بالمائة [12،198] . ويعلن المختصون أنه في كل عام تلغى في الصناعة عشرة آلاف فرصة عمل [16،-] . وعلى مستوى الاتحاد الأوربي سوف تهدد البطالة نحو (15)مليون عامل ومستخدم خلال السنوات القادمة [12،198] . وفي دراسة حول الخطط التي يزمع تنفيذها خمسون من أكبر المصارف في العالم، توصل هؤلاء إلى تنبؤ مفاده أن نصف العاملين في المؤسسات النقدية سيفقد فرصة العمل خلال السنوات العشر القادمة [17،-]. لقد أخذ الكمبيوتر نفسه ينافس العاملين.فحسب كارل شميتس (Karl Schmiz ) العمل البشري في قطاع برامج الكمبيوتر " ظاهرة مؤقتة..وإن استخدام الأجرة الجديدة سيمكن مبرمجا واحدا في المستقبل من تأدية ما ينجزه اليوم ماءة من زملائه " [18،-] . وحسب أنصار العولمة فإن( 20) بالمائة من السكان العاملين ستكفي في القرن الحالي للحفاظ على النشاط الاقتصادي الدولي. ويؤكد عملاق التجارة الدولي Washington Sicip Rifkin هذا الرأي إذ يقول " لن تكون هناك حاجة إلى أيدي عاملة أكثر من هذا " [12،25-26] . فالعمليات المتسارعة في عولمة الاقتصاد والتطور السريع في قوى الإنتاج والزيادة المطردة في إنتاجية العمل كلها عوامل تساهم في تغيير التركيب العضوي لرأس المال مما يعني تهديدا مستمرا ومتسارعا لفرص العمل. وبالفعل فحسب صحيفة رجال الأعمال Wall Street Journal Europe فإن " المنافسة في اقتصاد معولم لا تعرف الرحمة … وبالتالي فليست ثمة فرصة عمل آمنة " [19،-].
2-2 العولمة : توحيد للسوق العالمي في ظل هيمنة التقسيم الدولي للعمل داخل الفروع.
إن رأس المال لا ينمو لمجرد تكثيفه وتجميده للعمل في سلع وخدمات ، بل لا بد من أن تنغلق دوائر رواجه.أي لا بد أن ينتقل رأس المال من شكله النقدي إلى شكله الإنتاجي إلى شكله البضاعي ومن ثم يعود إلى شكله النقدي ،ليكرر هذه السيرورة بصورة مستمرة.ولكي ينجز رأس المال دوارنه الموسع عليه أن يوسع السوق وأن يخلق طلباً فعالاً عليه في شكله البضاعي.
من الناحية التاريخية مرت عملية توسيع السوق الرأسمالية في ثلاث مراحل متميزة:
المرحلة الأولى تمتد منذ بداية صعود الرأسمالية في الحقل الاقتصادي في أواخر القرن الخامس عشر بداية القرن السادس عشر، وحتى تحقيق انتصارها السياسي الناجز عند منتصف القرن التاسع عشر.تتميز هذه المرحلة الطويلة نسبيا بتوحيد السوق الوطنية ، وانتصار الرأسمالية التقليدية(الوطنية) وإزاحة البنى والعلاقات ما قبل الرأسمالية من المجتمع، وقيام الدولة القومية.
أما المرحلة الثانية فتمتد من منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. وتميزت هذه المرحلة بخروج الرأسمالية من الإطار الوطني إلى الإطار الدولي ،على قاعدة تقسيم العمل الدولي بين الفروع،حيث تخصصت الدول الرأسمالية المتقدمة بالحلقة الإنتاجية من رواج رأس المال في حين أرغمت الدول المتخلفة على التخصص بقسم من الحلقة التبادلية وخصوصا في حلقة استيراد السلع الجاهزة وتصدير المواد الخام.خلال هذه المرحلة الموصوفة بمرحلة الإمبريالية تم تقسيم العالم حصصاً بين دول المتروبول وتم استعمارها ونهبها هذا من جهة ،ومن جهة ثانية شهدت بالمقابل نمو حركات التحرر الوطني المناضلة في سبيل الاستقلال . خلال هذه المرحلة لم تسمح الدول الاستعمارية بنقل عوامل الإنتاج وخصوصا التكنولوجيا منها إلى البلدان المتخلفة.وحتى أن تصدير رأس المال توجه أساساً لإنتاج الخامات وتهيئة البيئة المناسبة لذلك.أما بالنسبة لقوة العمل فقد بقيت وطنية الانتماء والطابع تدور في الإطار الوطني.
المرحلة الثالثة ،وهي المرحلة المعاصرة، التي بدأت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية . تتميز هذه المرحلة على الصعيد السياسي بانتهاء عصر الاستعمار المباشر وتحول العالم إلى مناطق للنفوذ الاقتصادي والسياسي غير المباشر للدول الرأسمالية المتقدمة.وعلى الصعيد الاقتصادي تم الانتقال من قسمة العمل الدولي بين الفروع إلى قسمة العمل الدولي داخل الفروع ، مما أتاح لرأس المال أن يوسع من دوائر رواجه لتشمل العالم كله ،وبشكل خاص الانتقال بدائرة رواجه الإنتاجي من الإطار الوطني إلى الإطار العالمي.وحتى قوة العمل التي كانت وثيقة الصلة بإطارها الوطني خرجت إلى الدائرة العالمية بفضل الثورة العلمية والتكنولوجية الحديثة وانتشار الرأسمالية العالمية.
في إطار هذه المرحلة الجديدة من قسمة العمل الدولي تم تجزئة جميع حلقات رواج رأس المال وبشكل خاص الحلقة الإنتاجية فاحتفظت الدول المتقدمة لنفسها بالأقسام المسيطرة والمتحكمة منها مثل حلقة الابتكارات والتجديد وحلقة رأس المال المالي وبعض الأجزاء من الحلقات الإدارية والمعلوماتية .وبالمقابل فقد سمح بنقل التكنولوجيا إلى البلدان المتخلفة ، بل نقلت صناعات بكاملها إليها أو حلقات منها كانت حتى وقت قريب من المحظورنقلها.
يمكن تمييز المراحل السابقة أيضا من خلال تطور أدوات العمل. ففي المرحلة الأولى من تطور الرأسمالية سادت المانيفاكتورة بأدواتها البسيطة مع هيمنة العمل في التركيب العضوي لرأس المال.
أما في المرحلة الثانية فقد حصلت الثورة التقنية القائمة على أساس المحرك الانفجاري الداخلي وتغير التركيب العضوي لرأس المال لصالح هيمنة واضحة للجهد الجامد(وسائل الإنتاج) ، وبالتالي زيادة إنتاجية العمل بصورة كبيرة جداً بالقياس إلى المرحلة الأولى.لكن نمو رأس المال خلال هذه المرحلة من تطور الرأسمالية كان لا يزال يعتمد على نمو الطبقة العاملة ، ويتبادلان الاشتراط المتبادل.
أما المرحلة الثالثة فتتميز باختراع منظومات الإدارة الذاتية القائمة أساساً على ثورة المعلوماتية ومنظوماتها التقنية ،الأمر الذي أدى إلى حصول تغيير جوهري في التركيب العضوي لرأس المال لصالح الجهد الجامد ، وإزاحة كبيرة جدا للعمل الحي من جميع دوائر رواج رأس المال ، بل ومن الدوائر الاجتماعية المختلفة . لقد تحول الفيض النسبي في قوة العمل الذي كان سائدا خلال المرحلة الثانية من تطور الرأسمالية إلى فيض سكاني مطلق خلال هذه المرحلة الجديدة .
من الواضح أننا إزاء عملية موضوعية تمثل مرحلة متقدمة من تطور الرأسمالية، محركها الجبار هو التقدم العلمي والتكنولوجي ، تقودها المنافسة.وقد أكد هذه الحقيقة وزير مالية أمريكا السابق روبرت روبن في رده على مخاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الذي كان قد تخوف من تأثير العولمة على سيادة الدول،حيث قال " اعزرني محمد لكن على أي كوكب أنت تعيش؟ انك تتكلم عن المشاركة في العولمة وكأن ذلك يتضمن خياراً متاحاً لك. العولمة ليست خياراً وإنما حقيقة واقعة " [20،102].
لقد أصبحت العولمة من شدة تسارعها تشبه الزوبعة حسب رأي الرئيس الأسبق لمؤسسة " دايملر بينز " إدوارد رويتر Edward Reuter الذي كتب يقول " إن المنافسة في القرية المعولمة تشبه الزوبعة لا أحد يستطيع البقاء بعيداً عنها " [21،-]. وكرر القول ذاته رئيس مؤسسة سيمنز هنريتش فون بييرر Heinrich Von Pierer بعد ثلاث سنوات من ذلك حيث قال "لقد تحولت رياح المنافسة إلى زوبعة وصار الإعصار الصحيح يقف على الأبواب " [22،-ٍ] . وهذا ما سيتأكد لنا من خلال تتبع مظاهر العولمة.
3-مظاهر العولمة وأثارها.
لم تترك العولمة مجالا من مجالات الحياة الاجتماعية على الكرة الأرضية إلا ودخلته بدرجات متفاوتة وتركت أثاراً ملموسة فيه.
3-1 -عولمة رأس المال.
لقد أصبح رأس المال في عصر العولمة عالميا سواء من حيث انغلاق حلقات رواجه أو من حيث ملكيته أو أماكن توطنه ، وهو بذلك قد تخطى جميع العوائق أمام حرية حركته وانتقاله. فحسب إحصائيات منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD ) هناك ما يقرب من أربعين ألف شركة تمتلك مصانع في ما يزيد على ثلاث دول. وتهيمن الشركات العابرة للقارات على ثلثي التجارة العالمية [23،- ]. وفي إطار هذا الانتشار العالمي لرأس المال فإن العديد من الصناعات أصبحت تكمل دورة إنتاجها في أكثر من بلد. فعلى سبيل المثال فإن موديل السيارات Polo الذي تنتجه مؤسسة فولكس فاغن ، وإن كان يجمع في مصانع المؤسسة في مدينة ولف بورغ (Walf Burg ) ،يأتي ما يقرب من نصف معداته من الخارج..من تشيكيا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا ، وحتى المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية [24،-] . وتنتج تيوتا في ما وراء البحار أكثر مما تنتجه في اليابان .. ويمكن أن تنهار صناعة السيارات الأمريكية لو تعين عليها الاستغناء عن مورديها اليابانيين [25،- ].
ومع أن شركة باير ألمانية بحكم وجود مركزها الرئيسي في ألمانيا إلا أنها تحقق 80 بالمائة من مبيعاتها في الخارج ولا يزيد عدد الألمان لديها عن ثلث مجموع مستخدميها[12،233 ] . وإن ثلث أسهم شركة دايملر بنز و(43) بالمائة من أسهم المصرف الألماني Deutsche Bank ملك للأجانب [12،235] . وتبلغ مبيعات شل أويل في أمريكا (24.4 ) بالمائة من إجمالي مبيعات الشركة الأم. كما أن مبيعات هوندا الأمريكية تمثل (42) بالمائة من مبيعات هوندا اليابانية . ومبيعات باير أمريكا تصل إلى (25.3) بالمائة من إجمالي مبيعات الشركة الأم. أما سيجرام الكندية فإن مبيعات الشركة التابعة لها في الولايات المتحدة تصل إلى (80) بالمائة من إجمالي مبيعات الشركة الأم[26،12] .
وتشير الإحصاءات الدولية إلى أن عدد الشركات المتعددة الجنسية قد ارتفع من (11) ألف شركة تتحكم بـ (82) ألف شركة فرعية تزيد مساهمتها عن (25) بالمائة من حجم التجارة العالمية عام 1975 إلى (37.5) ألف شركة تتحكم بـ(207) ألف شركة فرعية وتتعامل بأكثر من حجم التجارة العالمية في عام 1990[ 27 ،- ] .
ومع أن المبادلات التجارية والتدفقات الاستثمارية المباشرة كانت تنمو خلال الفترة (1975-1985) بنسب متقاربة ، إلا أنه منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي أخذ تدفق الاستثمارات الخارجية يفوق نمو التجارة الدولية . لقد زادت التجارة الدولية خلال النصف الثاني من عقد الثمانينات من القرن الماضي بنسبة وسطية سنوية قدرها (9) بالمائة بينما زادت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة (34) بالمائة علما أن التدفقات الاستثمارية الخارجية إلى البلدان النامية فاقت ذلك بكثير حيث وصلت خلال الفترة (1991-1996) إلى نحو (50) بالمائة[28 ،29 ] . فعلى سبيل المثال ازدادت الاستثمارات اليابانية من (17) مليار دولار في عام 1980 إلى (217) مليار دولار في عام 1990.وارتفعت الاستثمارات الأمريكية من (110) مليار دولار عام 1980 إلى (206) مليار دولار في عام 1991 . وازداد حجم التعامل في البورصات المالية الدولية من (300) مليار دولار في عام 1980 إلى (1200) مليار دولار في عام1995 [27 ،-] . بالإضافة إلى ذلك فقد نمت التدفقات المصرفية بصورة خيالية بحيث وصلت قيمتها إلى ثلاثين مثلاً لمجموع قيمة التجارة العالمية بالسلع. فإذا كان مجموع قيمة التجارة السلعية على مستوى العالم هو ثلاثة تريلون دولار،فإن كتلة الاستثمارات المصرفية في البورصات والأسهم والسندات وفي النقود الإلكترونية أو في بطاقات الائتمان لا تقل عن (100) تريلون دولار[29،96] .
ومن المعروف أن عنصر العمل كان من بين جميع عوامل الإنتاج الأكثر التصاقا بإطاره الوطني ،إلا أنه فقد هذا الطابع في عصر العولمة وأصبح جزءا من الدوران العالمي لرأس المال. بالطبع لم يقتلعه رأس المال من وطنه بل جاء إليه على شكل مصانع ومؤسسات عالمية.وأكثر من ذلك أتاحت له ثورة المعلوماتية ومنظوماتها أن يمارس عملا في بلد آخر بدون أن يغادر وطنه ،ولا حتى بيته. فهناك مدراء لمصانع في أمريكا و في اليابان وفي غيرها من البلدان يديرون منشآتهم وهم قاطنون في الهند. لم تعد هناك حاجة للحصول على تأشيرات سفر للعاملين الأجانب. وكما قال مدير شركة الكمبيوتر الأمريكية (ميكرو سيستمز ) جون جيج John Gag " بمستطاع كل فرد أن يعمل لدينا المدة التي تناسبه،إننا لا نحتاج إلى الحصول على تأشيرات سفر للعاملين لدينا من الأجانب…وإننا نتعاقد مع العاملين لدينا بواسطة الكمبيوتر وهم يعملون لدينا بالكمبيوتر،ويطردون من العمل بواسطة الكمبيوتر"[12،24].
3-2 العولمة ومصير الدولة الوطنية.
إن مفهوم الدولة الوطنية الذي كان سائدا في مرحلة الرأسمالية التقليدية،بدأت تجري عليه تغيرات جوهرية في مرحلة الرأسمالية العالمية . لقد بدأت عمليات العولمة الجارية تقوض أسس هذه الدولة وخصوصا سيادتها على إقليمها وشعبها،و أصبح رأس المال وطواغيته هم الحكام الفعليون للعالم. لقد عبر عن هذا الواقع بدقة وزير مالية أمريكا السابق روبرت روبن كما ورد في مقالة الصحفي الأمريكي توماس فريدمان في رده على مخاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا حيث قال: " أهم حقيقة حول العولمة هي أن أحدا لا يسيطر،أسواق المال تشبه الإنترنت ، كل يوم تحكينا بدرجة أكثر إلتصاقا، ولا يوجد أحد في مركز السيطرة " وتابع الوزير تشخيصه للقوى الفعلية المسيطرة في العالم إذ قال " سوق العولمة عبارة عن قطيع إلكتروني من متاجرين مجهولين بالعملات والأسهم وسندات المشاركة، يجلسون وراء أجهزة الكمبيوتر وهؤلاء لا يعترفون بالظروف الخاصة (لأي دولة) وإنما يعترفون بقواعدهم وهي إلى حد بعيد متسقة.فهم يحددون نسبة الادخار التي يجب أن تحققها دولتك، ومستوى الفوائد، ونسبة عجز الموازنة للناتج المحلي الإجمالي ومستوى عجز ميزان المدفوعات الجاري.فالقطيع الإلكتروني يرعى في (180) دولة،لذلك ليس لديه الوقت لأن ينظر إلى وضعك بالتفصيل "[30 ،-]. وحسبما يتوقع الإيطالي ريكاردو بيتريلا المختص بشؤون المستقبل ستكون السلطة " في أيدي مجموعة متحدة من رجالات أعمال دوليين وحكومات مدن همها الأول هو تعزيز القوة التنافسية لتلك المشاريع والمؤسسات العالمية المستوطنة في مدنها" [31،21] .
في الظروف الجديدة تلعب بيوتات المال دور الشرطي لضبط انصياع الدول لقواعد العولمة.المسألة في غاية البساطة فإذا لم تلتزم الدولة المضيفة لرأس المال بالمعايير التي يمليها عليها فإنه يدفع الاستثمارات غير المباشرة والعديد من التوظيفات المتحركة للنزوح عن الدولة المتمردة مما يؤدي إلى انخفاض أسعار عملاتها وأسعار أسهمها وسنداتها وفي المحصلة يتسبب في انخفاض احتياطيات مصرفها المركزي مما يضطرها إلى الاستقراض من صندوق النقد الدولي وبالتالي الخضوع لشروطه التي هي بالضبط شروط ومعايير رأس المال المعولم. هذا ما حدث في المكسيك أواخر عام 1994 وما حدث في دول جنوب أسيا عام 1997 [12،102] .
وحتى أن مؤسسة تصنيف الأمم بناء على ملاءمتها المالية تقرر أحياناً مصير حكوماتها سياسيا من خلال بيان بسيط أو خبر يشير إلى تدني الملاءمة المالية للدولة المعنية فتهرب منها بعدئذ الاستثمارات المالية المتحركة فتنخفض أسعار عملاتها وأسهمها وتنتشر البطالة..الخ. هذا ما حصل لأستراليا عام 1990 ،ولكندا عام 1995 وللسويد عام 1996 .وكانت هذه الأخيرة قد أرغمت على التخلي عن برامجها الهادفة لتعزيز العدالة الاجتماعية فيها ،مع أن ذلك هو إلزام دستوري[12،135] . لكن إي قيمة للنصوص الدستورية في ظروف العولمة؟ ففي ألمانيا التي ينص دستورها في المادة (14) على أن " الملكية مسؤولية اجتماعية " وينبغي لها " أن توجه لخدمة المصلحة العامة "،بحسب اعتراف الخبراء فإنها لم تعد قابلة للتحقيق [12،234] .
إذاً ،ثمة عملية جارية لتهديم أساسات الدولة الوطنية من جراء عولمة رأس المال ،وقد بدأ التهديم يطال تلك الأساسات التي بدونها تعجز الدولة الوطنية عن القيام بوظيفتها العامة مثل التحكم بإقليمها وجباية الضرائب منه وصيانة بيئته ..الخ.
لقد لاحظنا في ظروف الرأسمالية التقليدية أن دور الدولة كان أساسيا في الحفاظ على إقليمها السياسي ضد المتدخلين من الخارج وكان لمفهوم الاستقلال الوطني دلالة واقعية.أما في ظروف العولمة فقد أخذت الدول التي طردت المستعمر من أراضيها يوما ،تتنافس في استجدائه للعودة إليها من خلال عودة رؤوس أمواله واستثماراته وتقديم كل التسهيلات لذلك ، وإن ما كان غير مرغوب به أصبح ضيفا عزيزا بل رب البيت المحترم.وبالفعل تشهد المرحلة الراهنة من تطور الرأسمالية منافسة حامية بين الدول لجذب الاستثمارات إليها من خلال خلق ما يسمى بالمناخات الملائمة للاستثمار مثل تخفيض الضرائب أو تقليص الإنفاق الحكومي وحتى التضحية بالعدالة الاجتماعية التي كانت تفاخر بها دول عديدة[12،123] . بل أخذ رأس المال يملي شروطه خصوصا ما يتعلق منها بالبنية التحتية الضرورية للاستثمار. لقد حصلت شركة سامسونغ الكورية من الخزينة البريطانية على مائة مليون دولار لقاء بناء مصنع لها في شمال إنكلترا بكلفة مليار دولار. وتحمل دافعوا الضرائب في فرنسا وفي باقي الدول الأوربية ربع تكاليف المعمل الذي بنته شركة مرسيدس بنز في منطقة لورين Lorraine .وفي ولاية ألاباما الأمريكية لم تتحمل الشركة نفسها سوى (55) بالمائة من نفقات بناء مصنعها الذي شيدته هناك في عام 1993 [12،357] .
وبدأت الدولة في عصر العولمة تفقد السيطرة على ضرائبها التي بدونها تفقد عنصراً هاما من عناصر قوتها ووظيفتها العامة.فالتهرب الضريبي سمة من سمات العولمة. فحسب أدنى التخمينات فإن ما تخسره ألمانيا من ضرائب يصل إلى(50) مليار مارك في السنة،وهو مبلغ يعادل ما تقترضه الحكومة الاتحادية سنوياً [12،127] . وإن المجموع الكلي للضرائب التي تخفيها الشركات الألمانية عن أنظار الحكومة الألمانية عبر أيرلندا اقترب من (25) مليار مارك في عام 1994 حسب تقديرات المكتب الاتحادي لشؤون المال [12،355] . وحسب المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية في برلين انخفض في ألمانيا متوسط الضريبة الفعلية على أرباح الشركات والعاملين لحسابهم الخاص منذ عام 1980 وحتى عام 1994 من (37) بالمائة إلى (25) بالمائة [12،355] . وإن إمبراطورية سيمنز التي لها فروع في 180 دولة، دفعت في عام 1991 نصف ربحها إلى الدول المضيفة على شكل ضرائب لكنها بعد أربع سنوات فقط انخفضت هذه النسبة إلى (20) بالمائة [12،356] . وإنها لم تدفع لألمانيا البلد الذي تنتمي إليه أكثر من مائة مليون مارك من الأرباح المعلنة في التقرير السنوي لعام 1994/1995 والبالغة (2.1) مليار مارك، وفي عام 1996 لم تدفع شيئاً [12،351] .
لقد أصبح التهرب الضريبي ظاهرة عامة في جميع الدول، وحسب إحصائيات صندوق النقد الدولي فإن الخسارة من جراء التهرب الضريبي تصل بالنسبة لمجموع دول العالم إلى (2000) مليار دولار [12،127] .
ولم تضعف سيطرة الدول على إقليمها من ناحية التهرب الضريبي فقط، بل لم تعد قادرة على السيطرة على الجريمة المنظمة فيه أيضاً.لقد صدق من قال " إن ما هو في مصلحة التجارة الحرة هو في مصلحة مرتكبي الجرائم أيضاً " [32،-] .
لقد انتشرت تجارة المخدرات وعمليات غسل الأموال وتهريبها وأصبحت المافيات العالمية حكومات ظل تتمتع بنفوذ كبير. فحسب تقديرات مجموعة خبراء شكلتها الدول السبع الكبرى اقتصادياً في عام 1989 ، ارتفع حجم المبيعات في السوق العالمية للهيروين حتى عام1990 إلى عشرين ضعفاً في خلال العشرين سنة الماضية، أما المتاجرة بالكوكائين فقد ارتفع إلى خمسين ضعفاً [33،-] . وتقدر الشرطة الاتحادية السويسرية حجم الأموال التي جمعت من روسيا بطرق غير مشروعة وهربت إلى الدول الغربية بنحو (50) مليار دولار حتى عام 1995 [34،-]
من منظور الخبراء أضحت اليوم الجريمة المنظمة عالمياً أكثر القطاعات الاقتصادية نموا إنه يحقق أرباحا تصل إلى (500) مليار دولار في العام [12،370] . وقد كشفت التحقيقات إن أربع منظمات للمافيا الإيطالية تمتلك ثروة تتراوح بين (150) و(200) مليار مارك لم تستطع الدولة مصادرة أكثر من (2.2) مليار مارك منها [35،-] .
ومن أخطر الآثار المترتبة على إضعاف دور الدولة الوطنية جراء عمليات العولمة الجارية،وخصوصا تزاحم رأس المال في سبيل تعظيم أرباحه هو تخريب البيئة.فحسب ما يقوله والتر ياكوبي من مؤسسة غيرلنغ ،كبرى المؤسسات المتخصصة بتامين المشروعات الصناعية في ألمانيا " فإن ارتفاع حرارة المعمورة و ما يفرزه هذا الارتفاع من عواصف
وفيضانات قد صار اليوم حقيقة تؤخذ بالحسبان " [12،71] . ويتوقع الخبراء أن ارتفاع سطح البحر أمر لا مفر منه نتيجة للمتبدلات المناخية وخصوصا ارتفاع حرارة الغلاف الجوي مما سوف يؤدي إلى غرق جميع المدن الساحلية حتى عام 2050 [36،-] .
وعلى عكس ما يؤكد برتراند شنايدر من نادي روما الذي قال " أما التهديد السائد اليوم فهو بلا وجه، إن العدو هو نحن أنفسنا "[ 37،15] . وهو بذلك يلقي اللوم على الجميع، فإن العدو معروف جيدا ويتمثل بطواغيت المال والشركات العابرة للحدود وبصورة أعم يتمثل بالدول المتقدمة،حيث يقطن "ربع سكان المعمورة الذي دمر جزءاً مهما من المعمورة في سياق سعيه لتحقيق مستوى معيشي أعلى " [38،-] .
3-3 العولمة ومصير الثقافة الوطنية.
ربما كان أخطر تحدي تواجهه الدولة الوطنية هو التحدي الذي تواجهه في ثقافتها،فعندما يفقد مواطنو دولة ما خصوصيتهم الثقافية وهويتهم الوطنية يتحولون إلى مجرد قطيع هائم في عالم اللاإنتماء والغربة. في الحقل الثقافي يتحدد مصير الدولة الوطنية إلى حد بعيد، كما أن نجاح العولمة في اختراقها للخصوصيات الوطنية يتوقف إلى درجة كبيرة على مدى اختراقها للثقافات الوطنية.
فالثقافة الوطنية بما هي " مركب متجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات " حسب محمد عابد الجابري، فهي التي تحفظ لكل أمة أو جماعة بشرية هويتها الحضارية، لأنها "المعبر الأصيل عن (خصوصيتها) التاريخية "[5،14]. ومع أن للثقافة جذور عميقة في تاريخ تكوين الأمم والشعوب إلا أنها مع ذلك ليست معطى جاهزاً ونهائيا، بل هي تصير وتطور مع الزمن .وفي سياق تصير الثقافة وتطورها تحاول العولمة تحقيق الاختراق، وأول ما تفعله هو محاولة إلغاء تجانس هذا المركب الذي يكون الثقافة الوطنية.في هذا المجال يلعب الإعلام المعولم دورا حاسماً في صوغ العقول والتحكم بها. وكما يقول هربرت شيلر في كتابه " المتلاعبون بالعقول " فإن " التحكم بالمعلومات وطريقة تداولها ونشرها يتم توظيفها لتحقيق الأثر المطلوب في مواقف الإنسان وسلوكه" [39،7].وكما يعتقد دعاة العولمة فإن" الإعلام يصنع الأحلام والأحلام تحدد الأفعال " [12،47] .
لقد استطاع الإعلام بفضل التكنولوجيات المتقدمة أن يتخطى الحدود الوطنية ويجعل الناس يهتمون بقضايا عديدة لم تكن تشغل بالهم أو ليست وليدة بيئتهم الثقافية وخصوصيتهم التاريخية.من هذه القضايا مثلا الانشغال بما يشكل الذوق الاستهلاكي وتقمص الشخصية الغربية في مظاهر السلوك والحياة.لقد أصبح ما يسمى بصرعات "الموضة" منتج ثقافي يحاول دعاة العولمة تسويقه باعتباره من أخطر ما يهدد الثقافة الوطنية التي ينظر إليها دعاة العولمة على أنها " السبب الرئيس للانقسام بين الشعوب " [40،78] . فهناك موضة في كل حقل من حقول الثقافة ، في الفكر والفنون والآداب ، كما هناك موضة في كل حقل من حقول الإنتاج المادي ، في المآكل والملبس والسيارة وحتى في النوم والزواج .الخ. ولا يخرج عن ذلك الانشغال الراهن بقضايا العولمة، ففيه الكثير من الموضة خصوصا من ناحية طريقة المعالجة و الإيهام الأيديولوجي.لقد تحولت الموضة إلى عامل هام من عوامل توسيع السوق وتنمية الأذواق وصرف الانتباه عن القضايا الوطنية والمحلية وعن القضايا العالمية أيضاً.لذلك يجري الحديث في الوقت الراهن عن خلق ما يسمى بالبيئة الثقافية للعولمة ، فالسرعة في تقبل العولمة يتوقف إلى حد بعيد على " إزالة التوترات بين القيم الثقافية المحلية والقيم الثقافية التي تنادي بها العولمة "[41،26] . وأن عناصر هذه البيئة الثقافية " أصبحت منتجا يتم تصنيعه في معامل أديسون أفنيو واستوديوهات هوليود ولاس فيغاس بالكلمة والصورة " [2،11] . لقد أصبحت الكلمة المنطوقة والصورة المرئية أهم أدوات العولمة الثقافية ، بفضلها تم تجاوز نخبوية الكلمة المقروءة وجديتها ،وتعميم ثقافة الصورة بما فيها من سطحية.لقد تحولت الصورة في عصر العولمة إلى " سلطة رمزية على صعيد الإدراك الثقافي العام … أصبحت المصدر الجديد الأقوى لإنتاج القيم والرموز وصناعتها وتشكيل الوعي والوجدان والذوق " [2،96] .فمن خلال تعويد الناس على مشاهدة أنماط معينة من الثقافة والتحكم بالمادة الثقافية وتوجيهها يمكن السيطرة على عقول الناس واستعداداتهم الشعورية " فالحالة الشعورية لسكان بلد ما لها دورها الملموس في تحديد سلوكهم الاجتماعي ونهجهم الثقافي " [12،206] .
إن منطق العولمة السائد يزعم أن العديد من أنماط التفكير وأنساق القيم العائدة إلى مرحلة الرأسمالية التقليدية وما قبلها تتسم بالجمود والانغلاق ورفض الاندماج، وبالتالي فهي تشكل عقبات كبيرة أمام رسملة العالم لا بد من إزاحتها. لكن واقع الحال لا يشير إلى استبدال هذه الأنماط من التفكير وأنساق القيم التي يعتبرها دعاة العولمة عقبة أمام اندماج العالم، بقيم أخرى عالمية الطابع إنسانية المحتوى. بل على العكس تماما تحاول العولمة تكريس معايير ثقافية جديدة " تكرس قيم النفعية والفردانية والأنانية والمنزع المادي الغرائزي المجرد من أي محتوى إنساني " [2،96] .
وفي ظل غياب ثقافة عالمية حقيقية، وهذه لن تكون إلا من خلال احترام ثقافات سائر المجتمعات والتفاعل معها ،سوف يسود بلا شك " الصراخ والزعيق الأمريكي بمفرده في العالم "[ 12،49] ، كما تنبأ العالم الأمريكي كورت روي ستون Curt Roy Ston .و أنه لمما يدعو إلى السخرية أن " صار العطش يرتبط على نحو مباشر بالحاجة إلى الكوكاكولا" [12،49] ، كما يقول الناقد الاجتماعي إيفان إليتش.
المراجع
1-البعاج، هشام " سيناريو أبستمولوجي حول العولمة : (اطروحات أساسية) " المستقبل العربي العدد(247) ،9/1999 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،1999) .
2-بلقزيز،عبد الإله "العولمة والهوية الثقافية :عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة؟ "المستقبل العربي،العدد(229)، 3/1998 (بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية،1998) .
3-الجميل،سيار "العولمة اختراق الغرب للقوميات الأسيوية-متغيرات النظام الدولي القادم: رؤية مستقبلية " المستقبل العربي،العدد (217) ،3/1997(بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،1997) .
4-حسن،حمدي عبد الرحمن " العولمة وآثارها السياسية في النظام الإقليمي العربي : رؤية عربية "،المستقبل العربي،العدد (258)،8/2000 ( بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية،2000). 5-الجابري،محمد عابد " العولمة والهوية الثقافية:عشر اطروحات "،المستقبل العربي،العدد(228)،2/1998 ( بيروت ،مركز دراسات الوحدة العربية،1998) .
6-يسين، السيد " نحو خريطة معروفة للعولمة "في مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام، التقرير الاستراتيجي العربي 1998،ج2 (القاهرة، المركز،1999) .
7-العظم ، صادق جلال "مفهوم العولمة " (ورقة بحثية )، ( تونس ، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم،1996).انظر أيضاً السيد يسين "في مفهوم العولمة"المستقبل العربي العدد(228)، 2/1998(بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية،1998) .
8-ماركس ، إنجليز، محتارات في أربع مجلدات ، المجلد (1) ، (موسكو، دار التقدم،1977).
9-مجلة الوقت ،العدد 8 (1989) ص 136 . انظر أيضا مجلة النهج العدد 26(1989) .
10-International Herald Tribune 6 . 3 . 1996.
11- Lester Thurow : The Future of Capitalism . New York 1996 p.p 126,165,166.
12-مارتين ، بيتر و شومان ،هارالد " فخ العولمة –الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية " ترجمة د.عدنان عباس علي ومراجعة د. رمزي زكي،سلسلة كتب عالم المعرفة ، الكتاب رقم 238 (الكويت ،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، تشرين الأول /أكتوبر 1998) .
13-صحيفة Wirtsch of Tsblatt الصادرة في 14/6/1996.
14- إحصاءات مكتب العمل الاتحادي ،نقلا عن صحيفة Die Zeit الصادرة في24/11/1995.
15- نقلا عن صحيفة Die Zeit الصادرة في 8/9/1995.
16- صحيفة Die Zeit الصادرة في12/1/1996.
17- Financial Times الصادرة في 28/3/ 1996.
18- صحيفة Die Zeit الصادرة في 3/11/1995.
19- Wall Street Journal Europe العدد الصادر في 12/ 3/1993.
20-مذكور في الأطرش ،محمد " العرب والعولمة-ما العمل؟ " المستقبل العربي العدد(229)،3/1998 (بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية،1998) .
21- من محاضرة ألقاها في Alfred Herrhausen Gesell Schaft في حزيران /يونيو 1993.انظر "فخ العولمة " مرجع سبق ذكره ،ص 199.
22- مجلة Der Spiegel عدد 4 من عام 1996.
23-United Nations Conference on trade and development, World Investment Report 1995 , New York , Genf.
24-بيانات المؤسسة نفسها المنشورة في مجلة Focus عدد 45 من عام 1995.
25- Frank Furter Allgemeine Zeitung العدد الصادر في29/5/1995. أنظر أيضاً International Herald Tribune الصادر في 29/2/1996.
26-عبد الله،إسماعيل صبري "الكوكبة:الرأسمالية العالمية في مرحلة ما بعد الإمبريالية " المستقبل العربي العدد(223)،8/1997 (بيروت ،مركز دراسات الوحدة العربية،1997) ص12.
27-الأهرام 11/9/1998.
28- International Monetary Fund ( I.M.F ),World Economic Outlook ( October 1997 ) Table No7,P 29
29- أمين ،سمير " في مواجهة أزمة عصرنا " ( بيروت ، مؤسسة الانتشار العربي،القاهرة ، سينا للنشر ،1997) ص 96.
30-Tomas L. Friedman, “ Excuse me Mohammed “ New York Times, September 1997.
31-New Perspectives Quarterly العدد الصادر في شتاء 1995،ص21.
32- تصريح لأحد قادة الأنتربول منشور في International Herald Tribune عدد30/8/1995.
33- Financial Action Task Force Working, Status Report, Paris 1990.
34- التقرير الذي قدمته في أكتوبر من عام 1995 المجموعة البحثية المختصة بشؤون" الأموال الشرقية " لدى وزارة العدل والشرطة السويسرية.أنظر فخ العولمة مرجع سبق ذكره ص125.
35-بناء على أقوال لجنة مكافحة المافيا التابعة للبرلمان الإيطالي يوم 3/6/1996.
36- World Resources (1996-1997) , New York ,Oxford 1996.
37- صحيفة Frankfurter Allgemeine Zeitung عدد 9/2/1990 ص15.
38- مجلة News Week الصادرة بتاريخ 9/5/1994.
39-شيلر،هربرت أ " المتلاعبون بالعقول " ترجمة عبد السلام رضوان سلسلة عالم المعرفة،الكتاب رقم (243) ط2(الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،1999 )ص7.
40- مصطفى عمر،أحمد "إعلام العولمة وتأثيره في المستهلك" المستقبل العربي العدد(256) 6/2000 (بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية،2000) ص78.
41-دافيد، روشكييف " في مديح الإمبريالية الثقافية " ترجمة أحمد خضر، الثقافة العالمية، (الكويت) العدد 85 تشرين الثاني/ نوفمبر، كانون الأول/ ديسمبر 1997،ص26.
42- بلقزيز،عبد الإله "العولمة والهوية الثقافية :عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة ؟ " المستقبل العربي،العدد(229) 3/1998 (بيروت ،مركز دراسات الوحدة العربية،1998 ) ً96.
الصراع الاجتماعي في ظروف العولمة
(2) د.منذر خدام
1- الداخلي والخارجي في الصراع الاجتماعي.
إن عمليات العولمة المتسارعة آخذة في دمج العالم على قاعدة تفارقية من التناقضات والصراعات. ففي جهة من العالم تتراكم الثروات وتتحسن باطراد مؤشرات الحياة لفئة من الناس، وفي الجهة الأخرى ينمو التخلف والفقر ويستعر الصراع الاجتماعي مع أنه يبدو مسدود الأفق تلجمه العمليات الاندماجية الجارية على الصعيد العالمي.لقد بدأت ملامح تلك المرحلة التي تحدث عنها ماركس قبل قرن ونيف من الزمن بالتميز والوضوح، حيث يتحول العالم من جراء اشتغال القوانين العامة للرأسمالية وحركتها الداخلية إلى عالم بؤس تسود فيه القطبية الحادة ، في مكان منه تتجمع ثروات كبيرة وفيض هائل من الإنتاج، وفي مكان آخر يتراكم البؤس والتخلف.فحسب مصادر الأمم المتحدة فإن (20) بالمائة من دول العالم تستحوذ على (84.7)بالمائة من الناتج الإجمالي العالمي ،وعلى (84.2) بالمائة من التجارة الدولية، ويمتلك سكانها (85.5) بالمائة من مجموع مدخرات العالم [1 ،- ] .
وحسب التقرير المتعلق بالموارد العالمية فإن الجزء الأعظم من العالم قد تحول إلى عالم بؤس، عالم غني ببضع مدن كبرى فقط وبأحياء فقر وجوع هي الأخرى كبرى أيضاً ويسكنها مليارات من البشر لا يسدون رمقهم إلا بالكاد [2 ، 3] . إن دولة الرفاهية التي كانت تباهي بها الرأسمالية التقليدية في أوربا وفي البلدان المتقدمة الأخرى قد " غدت تهديدا للمستقبل " حسب صحيفة فرانكفورتر ألجيماينه ،وبالتالي فإن " شيئاً من اللامساواة الاجتماعية قد أضحى أمراً لا مناص منه " [3 ، -].
كل شيء في عالم اليوم تحول إلى ضده. فبدلا من استخدام قدرات الإنسان الإنتاجية المتنامية في إشباع حاجاته ، تستخدم لإفقاره مادياً وروحياً، وبدلاً من أن يتسام الإنسان أخلاقياً وروحياً بفضل إمكانياته الثقافية والمعرفية،ينحط إلى أبشع حالات الدناءة والتكبر والاستهتار بمصيره.
عالم اليوم يعبر عن نفسه في مجال تخريب البيئة ، وفي مجال تكديس وتطوير الأسلحة النووية، وفي مجال تراكم الديون العالمية ونمو ما يسمى بالرأسمال الوهمي، وفي المجاعات المتكررة والحروب الأهلية ..الخ ، حتى كدنا نألفها كأشياء طبيعية في حياتنا.
لقد خلقت عمليات التكامل والاندماج الجارية عالميا مجموعة من الاشتراطات بين البنى المختلفة المكونة للنظام الرأسمالي العالمي، ترتب عليها أثار عميقة ليس فقط في مجال الاقتصاد ، بل في مجال السياسة والثقافة والفكر والأيديولوجيا..الخ. من الصعوبة في الوقت الراهن الفصل بين العوامل الخارجية والعوامل الداخلية للتطور الوطني،وأن مقولة أولوية العوامل الداخلية على العوامل الخارجية بدأت تفقد أهميتها. مع ذلك لا يجوز إغفال الفروقات الجوهرية بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية المتعلقة بتطور البلدان المتخلفة وتلك المتعلقة بالبلدان المتقدمة،فالعلاقة اللاتوازنية بين الموقع الذي تحتله البلدان المتخلفة وذاك الذي تحتله البلدان المتقدمة تتحكم به هذه الأخيرة.
بتكثيف نقول أن الصراع الاجتماعي الطبقي سواء من ناحية مهامه الملموسة أو ذات الطابع المستقبلي ( المشروع الأيديولوجي )، أو أدواته وأساليبه لا يمكنه الاعتماد على العوامل الداخلية فقط، بل لا بد له من أن يأخذ بعين الاعتبار وبنفس القدر من الأهمية استطالة العوامل الخارجية في الداخل الوطني. من هذه الزاوية نستبق فنقول أن الصراع ضد الآثار السلبية لعملية العولمة يكتسب طابعا وطنياً أكثر فأكثر.
2- العولمة وعمليات الاستقطاب على الصعيد العالمي.
لقد لاحظنا في ما سبق كيف أن العمليات الموضوعية الناجمة عن اشتغال القوانين العامة للرأسمالية تؤدي موضوعياً إلى المزيد من تركيز وتمركز لرأس المال،وإلى تغيير مستمر في تركيبه العضوي ، الأمر الذي يؤدي إلى خروج قوة العمل الحية من دائرة الإنتاج و الدوائر الأخرى لاشتغال رأس المال ،مما يتسبب بنمو متزايد للفيض السكاني.
لإلقاء مزيد من الضوء على حدة الاستقطاب الجاري عالميا تشير مصادر الأمم المتحدة إلى أن 358 مليارديرا يمتلكون معا ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان المعمورة، أي أنها تضاهي مجموع ما يملكه نصف سكان الأرض[ 4 ،- ].
وفي آخر إحصاء كشفه تقرير بريطاني عن النمو العالمي يتبين أن ثروة ثلاثة أغنياء أمريكيين تعادل أو تزيد ثروة 48 دولة من دول العالم الفقيرة وأن 225 ثريا يملكون ألف مليار دولار،وأن 48 شخصاً أمريكياً تزيد ثروتهم على ثروة الصين التي يصل عدد سكانها إلى 1.2 مليار نسمة ويصل ناتجها المحلي إلى (700 ) مليار دولار [5 ، 64].
وتجري عمليات الاستقطاب أيضا في داخل كل بلد لا فرق في ذلك بين بلد متقدم أو متخلف.ففي أمريكيا هناك نصف مليون مواطن أمريكي يمتلكون ثلث مجموع الثروة التي يمتلكها بقية السكان [6 ،216 ].
3- العولمة : تغيير في الدور التاريخي للطبقة العاملة.
لم تعد الطبقة العاملة في ظروف العولمة ذاك الفصيل الطليعي والصدامي الذي يواجه البرجوازية ، كما كانت في مرحلة الرأسمالية التقليدية.لقد طرأت عليها تغيرات جوهرية سواء من ناحية وجودها كطبقة أو من ناحية وضعيتها الطبقية.
لقد فقد مفهوم " الطبقة العاملة " دلالته التقليدية وأصبح يشير إلى شكل للوجود المجتمعي يضم جميع العاملين بأجر، دون أن يعني ذلك وضعية طبقية تؤدي إلى الصراع مع البرجوازية في سبيل تجاوز الرأسمالية. فالثورة العلمية التقنية قد وضعت "علامة استفهام على وجود الطبقة العاملة بالذات، بالشكل الذي تكونت فيه نتيجة الثورة الصناعية " [ 7 ، 135].
وقبل ذلك كان قد تغير مفهوم التناقض بين رأس المال والعمل المأجور،وبين الطبقة البرجوازية والطبقة العاملة، ليأخذ وضعية جديدة ذات طابع تكاملي وظيفي على قاعدة من التضاد الحقيقي.وتجلى ذلك في الحقل السياسي باصطفافات طبقية وفئوية مختلفة.فالطبقة العاملة لم تعد موحدة لا في وجودها ولا في مصلحتها،ويتجلى ذلك بوضوح من خلال دور مختلف شرائحها في الصراعات الاجتماعية الطبقية وهذا ما يمكن تميزه من خلال الملاحظات التالية :
أ- لقد ذكرنا سابقا أن تغير التركيب العضوي لرأس المال يزيح الجهد الحي من دوائر اشتغال رأس المال ويحل محله الجهد الجامد. يترتب على ذلك تناقص حصة الجهد الحي من القيمة المنتجة الجديدة بالقياس إلى حصة رأس المال. لكن من جهة أخرى تنمو بشكل مطلق حصة كل وحدة من الجهد الحي المنشغل في الإنتاج،الأمر الذي يجعل من الصراع الطبقي قضية غير جدية بالنسبة لبعض الفئات الاجتماعية وغير مفهومة في كثير من الأحيان.وأن بعض هذه الفئات أو أفراد كثيرون منها مثل العلماء والعاملين في مجال التطوير العلمي والتكنولوجي وكبار رجال الإدارة يبدي ميلا واضحا للتحالف مع البرجوازية في مواجهة الفئات المأجورة الأخرى وتلك العاطلة عن العمل ليس بالمعنى الموضوعي فقط (نظرا للاشتراك في الوضعية الاجتماعية ) بل بالمعنى السياسي المباشر أيضاً.
أضف إلى ذلك حل الصراع بدل التضامن بين أولئك العمال الذين على رأس عملهم وبين أولئك العاطلين عن العمل أو الباحثين عن عمل دفاعا عن فرصة العمل من الضياع.لم تعد البرجوازية بحاجة لوجود قسم من الطبقة العاملة في وضعية البطالة عن العمل من أجل الضغط على مستويات الأجور ومنعها من الارتفاع فهي تحقق ذلك بوسائل أقوى مثل الحرمان من العمل أو التهديد بنقل المنشآت إلى أماكن أخرى.فعندما أضرب عمال الصيانة في نيويورك بسبب تهديد أرباب العمل بتخفيض الأجر(40) بالمائة لجأت المشروعات المعنية إلى تشغيل (15) ألف عامل تحت جنح الظلام،كانوا على استعداد لطعن زملائهم في المهنة من الخلف لقاء اجر يبلغ (9) دولارات في الساعة[6،303].وفي معامل سكودا التشيكية المملوكة لشركة فولكس فاغن الألمانية ازداد الإنتاج ثلاثين بالمائة إلا أن الأجور لم ترتفع إلا بالكاد [6 ،239 ].وعندما طالب العمال التشيك بزيادة أجورهم رفض رئيس فولكس فاغن هذه المطالب قائلا " لا يجوز للعاملين لدى سكودا أن يدمروا بأنفسهم ما لديهم من ميزة وإلا فإنه سيتعين علينا بكل تأكيد التفكير حول ما إذا كان نقل الإنتاج إلى المكسيك، على سبيل المثال،أفضل "[8،- ].وفي مصانع كاتر بيلر Cater Pillar استمر إضراب العاملين لمدة ثمانية عشر شهراً، وفي النهاية رضخ العمال لشروط الشركة وهي تخفيض الأجور بنسبة (20) بالمائة والعمل ساعتين إضافيتين[6 ،210-211 ].وفي معمل مراجل التسخين(Viessmann ) كان إعلان الإدارة عن عزمها على نقل المشروع إلى التشيك كافياً لأن يوافق (96) بالمائة من العاملين على العمل ثلاث ساعات إضافية في الأسبوع بلا أجر،علما أن عدد العاملين في المعمل هو ستة آلاف عامل [ 9 ،- ] .
هذه حالة عامة على الصعيد العالمي، لذلك لم تعد الإضرابات وسيلة فعالة لزيادة الأجور خصوصاً بالنسبة للشركات عابرة الحدود، بل كثيراً ما تستغلها هذه الشركات ذريعة لنقل مصانعها ومؤسساتها إلى بلدان أخرى تحقق لها وفراً في نفقات الأجور.
في هذه الظروف الصعبة والمعقدة بالنسبة للطبقة العاملة ،ونجاح أرباب العمل في الوقيعة بين العمال أو التهديد بإغلاق المؤسسات أو نقلها، فقدت الطبقة العاملة دورها التاريخي الذي لعبته في مرحلة الرأسمالية التقليدية وكان له أبلغ الأثر في تطور الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للبلدان الرأسمالية المتقدمة.أما في ظروف العولمة فلم تعد النقابات قوة مؤثرة في مواجهة رأس المال ،لذلك أخذ العمال يتخلون عنها بإرادتهم.فقد خسر الاتحاد العام للنقابات الألمانية حوالي خمس أعضائه منذ عام 1991، وخسرت نقابة الحديد والصلب بمفردها (755) ألف عضو [ 6 ،240 ] .
إنه لمن سخرية القدر أن أصبحت الأممية شعار الرأسماليين على طريقتهم. ففي الساحة الدولية يوجد ما يزيد على (40) ألف شركة من كل الأحجام تبتز هذا العامل بالعامل الآخر، وهذه الدولة بالدولة الأخرى [6 ،31 ] . البرجوازية في عصر العولمة تعمل كطبقة عالمية، أما قوى التقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية فإنها تفقد أكثر فأكثر قوة تضامنها، ويتعمق تمايزها السياسي والأيديولوجي وتنمو لديها النزعات الانعزالية وتفقد وحدة الهدف.
ب- إن نمو القطاعات الثالثية يستدعي نقل قوة العمل من القطاعات الإنتاجية إليها،مما يؤدي إلى حصول تغير جوهري في طبيعة العمل المأجور ووضعيته الطبقية.فتشتت العمال بالإضافة إلى ظروف العمل في هذه القطاعات المتميزة بالراحة والمتعة والأجور العالية تضعف الروابط الطبقية التضامنية بين العمال،وتحد من ميلهم إلى النضال السياسي,
ج- إن قطاع العلم والتكنولوجيا(البحث والتطوير) في طريقه كي يصبح القطاع القائد في الاقتصاد،وهو،إلى جانب القطاع المالي سوف يوجهان مجمل العمليات الاقتصادية والاجتماعية، مما يمنح العاملين فيهما دورا متناميا باستمرار.من الصعوبة بمكان فهم الدور المتعاظم باستمرار للعلماء والمفكرين وغيرهم من ذوي الياقات البيضاء في الصراع الطبقي باستخدام أساليب الماركسية التقليدية في التحليل.في الواقع سوف يغلب على دور العلماء والمثقفين عموما في الصراع الاجتماعي الطبقي في الظروف المستجدة الطابع التسووي الملطف لحدة هذه الصراعات،يساعدهم في ذلك الموقع الذي يحتلونه في مجمل العمليات الاجتماعية.
ث- إن شروط التبادل اللامتكافئ بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة تفرض موضوعيا نوعاً من الائتلاف والتحالف بين بعض شرائح البرجوازية (الشرائح الوطنية) وبقية فئات الشعب، مما يخفف من حدة الصراع الطبقي في الداخل الوطني وينشطه مع الخارج،في إطار نوع من المساومة التاريخية.من هنا كان تحديد تلك الفئات البرجوازية التي لها مصلحة في تكوين تحالف طبقي واسع في مواجهة الخارج على أساس التضاد بين النزعة الوطنية الإنسانية المنفتحة ،وبين نزعة العولمة، بين تأكيد الذات وتطويرها والمساهمة في الحضارة العالمية الإنسانية وفق مبدأ التكيف المتبادل،أو بين العمل تحت يافطة العولمة في خدمة المشروع الإمبريالي العام.
إن التطور العام للمجتمع الإنساني يسير بصورة عامة في اتجاه واحد، لكن حركة مكوناته البنيوية تختلف ، فهي تتفارق في نفس الاتجاه. السبب في ذلك يكمن في أن التطور اللامتكافئ على الصعيد العالمي يعمق الهوة بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة، ويقوي في الوقت نفسه من علاقات التبعية والاشتراطات المتبادلة بينهما.إن جوهر الصراع الاجتماعي الطبقي في هذه الوضعية يكتسب طابعاً وطنياً عاماً موجها أساسا نحو الخارج.
4-العولمة ومصير الديمقراطية
1-4- المناخ العولمي للديمقراطية
بتكثيف شديد سوف نسترجع خلاصة ما توصلنا إليه في المباحث السابقة لتكوين صورة تركيبية للمناخ العام الذي يحيط بالديمقراطية في ظروف العولمة ويقرر مصيرها.
أ-تزايد عدد العاطلين عن العمل ،وحصول ما أطلقنا عليه اصطلاحا "الفيض السكاني المطلق" نتيجة للثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة ،الأمر الذي جعل من كمية من العمل الحي متناقصة باستمرار قادرة على إنتاج كميات من الخيرات المادية متزايدة باستمرار.
ب- إضعاف مستمر لسيادة الدول على إقليمها وسكانها ، مما تسبب في تغيير جملة من المفاهيم مثل السيادة الوطنية ،والاستقلال الوطني، والوظيفة السياسية للدولة،والمجال السياسي الوطني،وكلها مفاهيم وثيقة الصلة بالديمقراطية ، مرتبطة بها وظيفياً.وبالفعل فقد اخذ الناس في الدول الرأسمالية المتقدمة وفي غيرها يعزفون عن المشاركة في الحياة السياسية تحت دعاوى من قبيل :أن النتيجة معروفة مسبقا، أو أن لا فائدة ترجى من ذلك ، فالأوضاع القائمة سوف تستمر ..الخ.فالخضوع " لحكم أسواق المال ضربة للديمقراطية ..وإن ما يتحقق من وعود انتخابية يقرره الناخبون القائمون على إدارة الأموال " [6 ، 136 ].
ففي الولايات المتحدة الأمريكية التي تتباها بديمقراطيتها انتخب بيل كلنتون لمنصب الرئاسة في عام 1992 بـ (24.4) بالمائة من الأصوات فقط. وحتى في الحملات الانتخابية المشهورة كالتي جرت في عام 1960 بين جون كندي وريتشارد نيكسون لم يصوت سوى (60.7) بالمائة من مجموع عدد الناخبين الأمريكيين[ 6 ،314-315 ].
ت- تسطيح الثقافة و الوعي العام والسيطرة على إدراك الناس من خلال الإعلام المعولم مما خلق شخصية ثقافية جديدة تتميز بالأنانية والفردية ونمو نزعة اللاانتماء لديها.في ظروف العولمة يجري الحديث عن صناعة العقول وتوجيهها ،مما يجعل مفهوم الحرية خال من أي معنى ، وبدون الحرية الديمقراطية لا تكون .
ث- تعمق الاستقطاب على الصعيد العالمي وعلى الصعيد الداخلي في كل بلد من جراء تركيز وتمركز رأس المال، مما جعل مفهوم المساواة بلا دلالة حقيقية، وبدون حد معين من المساواة ، الديمقراطية لا تكون أيضاً.
ج-القضاء على تضامن الطبقة العاملة وتجريدها من أهم أسلحتها المتمثلة بتنظيماتها النقابية وأحزابها السياسية ، الأمر الذي جعل من حركاتها الاحتجاجية والمطلبية بلا جدوى.وكما هو معروف ما كان للديمقراطية أن تترسخ كنظام سياسي بدون نضالات الطبقة العاملة باعتبارها القوة الاجتماعية التي تقف في مواجهة البرجوازية.فالديمقراطية لا تكون إلا على قاعدة الاختلاف والتمايز في المصالح وفي فرص الدفاع عن هذه المصالح.
هذا هو باختصار ما نسميه بالمناخ العولمي المحيط بالديمقراطية . في ظل هذا المناخ جرت ولادة إنسان ثقافي جديد (إنسان عولمي) بطرازين مختلفين من ناحية الأدوار:
الطراز الأول يمثل إنسانا محبطاً وبائساً، تتدنى أجوره باستمرار، وتتراجع مستويات معيشته، يتسطح وعيه، تضعف روابطه الوطنية والإنسانية، تنمو لديه قيم الأنانية والفردية،وتضعف ميوله السياسية بما هي ميول تنافسية موجهة نحو السلطة باعتبارها وظيفة عامة لإدارة المجتمع والدولة ..الخ. إنسان من هذا الطراز هو بالضرورة إنسان عنفي.
الطراز الثاني هو الآخر يشارك الأول في العديد من سماته، غير أنه يفوقه في ضعف قيمه الإنسانية وهو المسؤول عن الطابع المتحوش للعولمة الجارية ، همه الأول تنمية رأس المال وغزو العالم وفتحه رأسمالياً، حتى ولو كان ذلك على حساب الدول والشعوب والموارد الطبيعية وحقوق الأجيال القادمة فيها،وعلى حساب البيئة وسلامتها..الخ. شخصية من هذا الطراز هي شخصية عنفية بامتياز أيضاً .وإن اللعبة الديمقراطية بالنسبة لها ليست سوى وسيلة لإخفاء طابعها العنفي، الذي يمكن أن تسفر عنه في كل لحظة عندما تتعرض مصالحها للخطر، أو يتجرأ أحد على الوقوف في وجه طموحاتها التوسعية. إن " الأصولية المؤمنة بقوى السوق ليست سوى أمية ديمقراطية " كما يقول عالم الاجتماع أولريش بيكر الذي تابع يقول " إن أولئك البشر الذين يتحقق لهم الحصول على سكن وعلى فرصة عمل مضمونة ، أي على مستقبل مادي مأمون الجوانب، هم أولئك المواطنون الذين يبنون الديمقراطية ويضفون عليها الحيوية المنشودة.إن كلمة الحق الصادقة تطرح بأعلى صوتها:من دون أمن من غوائل الدهر المادية لا حرية سياسية، أي لا تتحقق الديمقراطية " [10، -].
وهاهو أيضا رئيس اتحاد الصناعيين الألمان تل نيكر Tyll Nicher يحذر قائلاً: " إن العولمة تؤدي إلى تسريع التحولات الهيكلية التي لم يعد عدد متزايد من الأفراد قادراً على تحمل أعبائها ". ويتابع متسائلاً " كيف يمكننا التحكم في هذه التحولات مع بقاء الأسواق مفتوحة للجميع… " [6،384 ] . وإن مجتمعاً يقوم على أسس ديمقراطية " يضمن لنفسه الاستقرار فقط حينما يشعر الناخبون ويلمسون أن حقوق ومصالح الجميع تراع وتؤخذ بعين الاعتبار ،وليس حقوق ومصالح المتفوقين اقتصادياً فقط " [6،378 ] .
وهكذا بدلاً من انتصار الرأسمالية الذي تنبأ به فوكوياما في عام 1989 في كتابه " نهاية التاريخ" انهزم ذلك المشروع المسمى بـ" الحداثة ". وبالفعل ثمة تحولات بأبعاد عالمية تحصل " إذ لم يعد التقدم والرخاء، بل صار التدهور الاقتصادي، والتدمير البيئي، والانحطاط الثقافي هي الأمور التي تجثم على العالم " [6،69 ] .
من الطبيعي في مثل هذه الظروف أن يسلطن العنف .لقد حذر من ذلك بيرس بارنفليك رئيس عملاق إنتاج المكائن والآلات Asea Brawn Boveri وهي المؤسسة التي تمتلك ألف شركة موزعة على أربعين بلداً قائلاً :" إذا تجاهلت المشروعات الصناعية التحدي الذي يفرزه الفقر والبطالة، فستؤدي التوترات بين الأغنياء والفقراء إلى تصعيد العنف والإرهاب " [11 ، -]. وحسب العديد من أنصار العولمة ليس ثمة من خيار لمكافحة هذه النتائج " إلا بالأساليب القمعية،الأمر الذي يعني أن الدولة المتسلطة ستغدو الرد المناسب على عجز الدولة عن التحكم في الاقتصاد" [6،374] . وبالفعل أصبح " العنف هو إحدى سبل التعامل مع الإحباط ومع الصراع التنافسي"[6،6 ] . ولا غرابة بعد كل ذلك من أن " تنتشر النزعة إلى تأسيس النظم الاستبدادية كرد على التطبيق الزائد على الحاجة لليبرالية المحدثة، كالنار في الهشيم"[6،317 ]. وحسب كلاوس شغاب Klaws Schwab مؤسس المنتدى الاقتصادي في دافوس ،فإن العلاقات الناجمة عن العولمة قد بلغت " مستوى صار يشكل، على نحو لا مثيل له أبداً تحدياً لمجمل البناء الاجتماعي الذي تقوم عليه الديمقراطية " [12،-]. ولذلك فهو يقدم النصح لقادة السياسة والاقتصاد في العالم بأن عليهم " أن يبينوا أن الرأسمالية المعولمة الجديدة ستحقق النفع لغالبية السكان أيضاً وليس لمصلحة قادة المشروعات والمستثمرين " [12،- ].
أمام مخاطر تزايد الحركات الاحتجاجية العنفية لجأت مختلف الحكومات إلى التنصت على مواطنيها ولا يقتصر ذلك على البلدان المتخلفة ،بل أصبح ذلك ظاهرة منتشرة حتى في أرقى الدول[6،374]. ليس هذا وحسب فالتنصت لوحده لا يكفي لضبط الأوضاع ، خصوصا مع تنامي عجز الدول في ظروف العولمة عن النيل من " المجرمين الآخذين باقتصاد السوق " عثر السياسيون من مختلف دول العالم على ضالتهم في التوسع في أجهزة الشرطة " [13،- ]. ففي ولاية كاليفورنيا الأمريكية التي تعتبر القوة الاقتصادية السابعة في العالم بمفردها فإن " الإنفاق على السجون يعادل المجموع الكلي للإنفاق على التعليم" [14،- ]. وينفق الأمريكيون على حراسهم الشخصيين ضعف ما تنفقه الدولة على الشرطة [15،- ].
2-4-الديمقراطية في ظروف العولمة وسيلة للتدخل.
ثمة إجماع في الدول الغربية بمؤسساتها الرسمية وغير الرسمية وفي أوساط المفكرين والمثقفين على أن الديمقراطية ملازمة للنظام الرأسمالي فهي نمط حياته الخاصة.وبغض النظر عن الفجاجة التي تعرضها بها وسائل الإعلام ، أو وقاحة الخطاب السياسي الغربي وهو يدافع عنها،بل وبغض النظر عن النزعة الأكاديمية التي يتقمصها الخطاب الفكري الغربي وهو يعرضها ،فإن الديمقراطية بالنسبة للغرب عموما وسيلة للدفاع عن مصالحة الاقتصادية والسياسية تجاه الغير. فعندما تتهدد مصالح الدول الغربية من قبل نظام معين يتم العمل وبكثافة على إبراز طابعه الدكتاتوري حتى ولو كان يمارس نوعا من الديمقراطية كما كان حال دولة يوغسلافيا، وهي تغض الطرف عن أعتى الدكتاتوريات أو الأنظمة العضوية طالما أن مصالحها في أمان .وإن وقوف الدول الغربية إلى جانب الكويت ودول الخليج الأخرى ضد غزو العراق للكويت ،فيما أصبح يعرف بـ " حرب الخليج الثانية " لم تحل دونه طبيعة الأنظمة الحاكمة في الخليج العربي والتي هي بعيدة كل البعد عن الديمقراطية ، بل دفاعا عن مصالحها النفطية والاستراتيجية في المنطقة. ما يهم الغرب عموما وأمريكا على وجه الخصوص هو دوام الاستقرار الذي يحقق لها مصالحها وليس الديمقراطية بحد ذاتها.
إن حضور الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخطاب الغربي عموما وتحديدا في الخطاب السياسي الأمريكي ،هو نوع من التوظيف لهاتين القضيتين النبيلتين كأدوات في السياسة الخارجية الأمريكية (والغربية عموما) من اجل حماية المصالح الأمريكية في العالم . فإذا حققت الديمقراطية الاستقرار حسب المفهوم الأمريكي ، أي الاستقرار الذي يحافظ على مصالح أمريكا فلا بأس وإذا لم تحقق ذلك فلا ضير في دعم الأنظمة غير الديمقراطية.
إن زوال الانقسام العالمي السابق بين معسكر سوفييتي ومعسكر رأسمالي قلل كثيرا من مخاطر تعرض المصالح الغربية في العالم للخطر لذلك تميل الدول الغربية في الوقت الراهن إلى تشجيع نوع من التحول إلى الأنظمة التي تعيش قدرا من الديمقراطية، مع الحفاظ بالطبع على مصالحها وتنميتها. هذا ما حصل على نطاق واسع في أمريكا اللاتينية ولا يزال يحصل في أفريقيا ، لكنه غير مرغوب به في الوطن العربي .في الواقع لا يتحمس الغرب عموما ولا أمريكا على وجه للخصوص لإجراء تحولات ديمقراطية جدية في الوطن العربي نظرا لخوفها من صعود القوى الوطنية القومية والدينية التي يمكن أن تهدد مصالحها وتعيد خلط الأوراق في المنطقة حسب رأيها. لذلك فإن قضية الديمقراطية في الوطن العربي هي قضية الجماهير العربية ،فهي المدخل لخلاصها من التخلف والقهر الذي تعاني منه وتحقيق وحدتها القومية . لكن وبغض النظر عن خصوصيات المنطقة وحساسيتها من وجهة النظر الغربية ، فإن شعار الديمقراطية تحول بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى شعار للنظام العالمي الجديد الآخذ في التكونن وهذا بحد ذاته يشكل دعامة قوية للتوجهات المحلية نحو الديمقراطية [16،- ].
3 - ما العمل ؟
هل يسير العالم إلى حتفه؟ ألا يملك في داخله آليات تشتغل بصورة موضوعية تحول دون انهياره؟ وإذا كان ثمة من آلية ما فما هي؟
كنا قد أشرنا مرارا إلى أن آلية اشتغال القوانين الموضوعية للنظام الرأسمالي تؤدي موضوعياً إلى تغير التركيب العضوي لرأس المال الذي يعني بدوره إزاحة مستمرة للجهد الحي من دوائر اشتغال رأس المال لصالح نمو الجهد الجامد .وهذه العملية موضوعية فلا تستطيع البشرية إيقافها لأن لها مصلحة فيها ،فهي تسمح بتطور العلم والتكنولوجيا،وتزيد الإنتاج بوتائر لم تعرفها البشرية من قبل ،وتخلق فرص حقيقية لسعادة الإنسان…الخ.
لكن لو نظرنا إلى هذه العملية من جانب آخر لوجدنا أن إزاحة اليد العاملة من دوائر اشتغال رأس المال يعني عملياً إضعاف للقوة الشرائية المتاحة ، وبالتالي تقليص للسوق . ومن المعروف أن رأس المال لا يستطيع النمو إلا إذا انغلقت دائرة رواجه، وهذه تحتاج إلى المزيد والمزيد من الأسواق التي تتميز بوجود طلب فعّال فيها.فعلى المدى البعيد فإن لرأس المال مصلحة في أن لا تنخفض القوة الشرائية المتاحة لأن ذلك يعني الحد من نموه.
لقد عبر عن هذه الواقعة ،خير تعبير، مدير شركة فيات للسيارات ورئيس نقابة العمال فيها أثناء زيارة قاما بها لأحد معامل الشركة، حيث يتم تجميع السيارات بصورة آلية.سأل مدير الشركة رئيس النقابة ،وهو يشير إلى الروبوتات التي تقوم بتجميع السيارات: كيف تجد هؤلاء الأعضاء الجدد في نقابتك؟ وهو يريد أن يقول له أن نقابتك فقدت فعاليتها في الضغط على الشركة من أجل زيادة الأجور أو تحسين شروط العمل..الخ.فأجابه رئيس النقابة لاشك بأن هؤلاء الأعضاء الجدد شديدي الانضباط في العمل ، ويتقنوه جيدا، غير أنهم لا يستطيعون شراء السيارات التي ينتجوها .وقد فهم مدير الشركة مغزى جوابه،فأطرق برأسه وتابعا تجوالهما.
من جهة ثانية لا يستطيع هؤلاء الذين يلفظهم رأس المال ويبقيهم بلا فرص عمل وبالتالي بلا وسائل للعيش تكفي لحياة كريمة ،أن يظلوا مكتوفي اليدين . "إنه لمن قصر النظر السياسي الاعتقاد بإمكانية تسريح ملايين العمال دون توقع دفع الحساب يوماً ما" [6 ،36 ].
مما لا شك فيه أن الإنسانية لا تعرف الانهيار بالمعنى التاريخي، وأن خط تطورها وتقدمها صاعد دائما كاتجاه عام.وإذا ما ارتد يوما أو تباطأ فإن ذلك ليس سوى مقدمة لانطلاقة جديدة بزخم جديد. والبداية دائما تكون في تشخيص الواقع والوقوف على أسباب تدهوره، ومن ثم تكوين تصور للخروج من حالة التدهور كمقدمة للعمل في سبيل ذلك. ومن الطبيعي في ظروف تمايز المصالح الطبقية والفئوية والأيديولوجيات المصاحبة التي تقرا بها كل فئة مصالحها الاجتماعية أن تتعدد الرؤى فيما يتعلق بأسباب التدهور الحاصل وطرق معالجته.
فها هو جون ميجر رئيس وزراء بريطانيا السابق يرى أن السبب في التدهور الحاصل عالميا من جراء عمليات العولمة يكمن في حرية انتقال رؤوس الأموال دون أن تخضع للرقابة الحكومية، ويشتكي قائلاً: " لا يجوز ترك العمليات في أسواق المال تتم بسرعة وبحجم كبير، بحيث لم تعد تخضع لرقابة الحكومات والمؤسسات الدولية " [17،- ] . وأيده في ذلك رئيس وزراء إيطاليا السابق لامبرتو ديني وأضاف قائلا: " يجب منع الأسواق من تقويض السياسة الاقتصادية لبلد بأكمله" [17،- ].أما الرئيس الفرنسي جاك شيراك فإنه يرى أن القطاع المالي بأجمعه مدعاة للاستنكار، وقد سمى المضاربين فيه " وباء الإيدز في الاقتصاد العالمي " [18،- ].
لقد علقت مجلة الايكونوميست The Economist قائلة: " إن المعضلة العظمى التي تواجه جيلنا تكمن في أن نجاحاتنا في المجال الاقتصادي تتفوق على نجاحاتنا في المجال السياسي، على نحو جعل الاقتصاد والسياسة لا يسيران بخطى موحدة. فاقتصادياً أصبح العالم يتحرك كما لو كان وحدة واحدة شاملة، أما سياسياً فإنه ظل مقسما ومجزأً. ولقد تسببت التوترات الناجمة عن هذا التطور اللامتكافئ في عدد لا يحصى من الهزات والانهيارات في تعايش المجتمع الإنساني " [6،38 ]. ولذلك فإن استعادة الإرادة السياسية، اعني استعادة أولوية السياسة على الاقتصاد، هي المهمة المستقبلية الأساسية " [6،291 ]. وتكمن الخطوة الأولى على هذا الطريق في الحد من السلطة السياسية التي يتمتع بها الناشطون في أسواق المال [6،387]. ومن ثم القيام بخطوات أخرى مكملة في المجال الاقتصادي مثل فرض ضريبة على المتاجرة بالعملات الأجنبية وعلى القروض الخارجية وتخفيض أسعار الفائدة مما سوف يعزز فرص الاستثمار والنمو الاقتصادي والاستخدام [6،387 ]. يقف إلى جانب هذا التصور العديد من خبراء منظمة التجارة العالمية [19،- ] .
غير أن هناك من يرى في العزلة والانفصال والعودة إلى نهج السياسات الحمائية، خير وسيلة للابتعاد عن مخاطر العولمة [6،62 ] . وبالفعل فإن ظاهرة الانفصال والتشرزم تنتشر في أغلب دول العالم، وتتسبب في العديد من الحروب الأهلية والمجاعات دون أن تلقى اهتماما دوليا كافياً[6،63 ] . ومما يدفع في هذا الاتجاه السياسات الأمريكية غير المسؤولة.فمع أنها البد المسؤول عن إدارة النظام الرأسمالي العالمي،إلا أنها الأكثر استهتارا بمصير العالم. لقد وقفت ضد اتفاقية كيوتو بشأن الاحتباس الحراري،وشرعت في سباق تسلح جيد من خلال تطوير منظومة الدفاع الصاروخي، بل وقللت من فرص نجاح المؤتمر الذي دعت إليه منظمة الأمم المتحدة الخاص بالحد من التجارة في الأسلحة الفردية ، ولم توقع الاتفاقية الخاصة بمنع الألغام، وعارضت إنشاء محكمة الجنايات الدولية ولم توافق عليها إلا بعد أن استثني رعاياها من المحاكمة..الخ.وأكثر من ذلك فهي تزكي نار العديد من الحروب الأهلية والإقليمية ،أو تقف لا مبالية منها ،أو تعيق التوصل إلى حل لها من قبل الأطراف المعنية..الخ .وأخيرا وليس أخراً ، الحملة التي تشنها على العالم كله تحت شعار "مكافحة" الإرهاب…
من جهة أخرى فإن الحركات المناوئة للعولمة أصبحت ظاهرة عالمية وهي في تنامي وتصاعد مستمر . فقد وقعت (1200) منظمة عالمية من87 بلدا بيانا ضد منظمة التجارة العالمية [20،214 ].ولم تتخلف المنظمات الأمريكية عن ذلك ،بل كانت في طليعة المعارضين،واتهمت الرئيس الأمريكي بازدواجية المعايير، فمن جهة يتحدث عن " عولمة ذات بعد إنساني " وفي الوقت نفسه تساند إدارته مصالح رجال المال ،وتقدم الدعم للمؤسسات الأكثر عداءً للديمقراطية [21،100 ].
وفي لقاء جنيف ضمت المعارضة للعولمة نخبة من المفكرين من رجالات الاقتصاد والفكر والمال ،من بينهم :موريس دالاس (الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد) وسيزار جورج السياسي الأمريكي الذي يعيش في فرنسا ويرأس مرصد العولمة) والقانوني لوري ولاش المسؤول عن ((جمعية المواطن العام)) في اوربا، والمفكر وعالم الاجتماع السويسري جون زيغلر..الخ [21 ،100 ] .
يكاد لا يمر أي لقاء دولي دون أن تذكر المنظمات والحركات المناهضة للعولمة بوجودها ، بل أخذت تقدم الضحايا على هذا الدرب كما حصل خلال الاحتجاجات التي قامت بها ضد قمة الثماني الكبار في جنوا في إيطاليا في تموز/يوليو من عام 2001. ومن شدة تصاعد الاحتجاجات على العولمة اخذ يفكر زعماء الدول الرأسمالية الكبرى بالتخلي عن مثل هذه اللقاءات الدورية على مستوى القمة،وإذا كان لا بد منها ، فان تنعقد في إحدى الجزر النائية أو في الجبال العالية أو من خلال شبكة الاتصالات العالمية.
من الواضح أن قضايا العولمة بدأت تسيطر على الاهتمامات العالمية وتطرح تساؤلاتها التاريخية. غير أن الأجوبة على هذه التساؤلات ليست أبدا في الانعزال، أو في الحد من حرية انتقال رأس المال، أو في فرض ضرائب على تصديره إلى أخر هذه الحلول الجزئية التي يمكنها في الحد الأقصى أن تلطف من الآثار السلبية للعولمة.الجواب الحقيقي ذي الأبعاد التاريخية هو في تجاوز الرأسمالية إلى نظام اجتماعي مختلف جوهرياً يتساوق في داخله التقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية. في مثل هذا النظام الذي بدأت ملامحه ترتسم في الأفق،سوف تفتح أفاق لا حدود لها لتطور وتقدم العلوم والتكنولوجيا ،وسوف يتغير مفهوم العمل ونظرة الناس إليه ،وكذلك العلاقة بين وقت العمل ووقت الراحة ،وسوف يُلغى مفهوم القيمة الزائدة، ومفهوم البطالة عن العمل ، وتتعزز القيم الإنسانية…الخ.
غير أن الانتقال إلى هذا النظام الاجتماعي الجديد هو عملية صراع معقدة بين قوى التقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية من جهة وبين قوى الانعزال بمختلف ألوانها إلى جانب تلك الطغمة من الرأسماليين المعولمين الذين لا هم لهم سوى غزو العالم وفتحه رأسمالياً. في إطار هذه العملية أخذت القوى الاجتماعية والسياسية مواقعها وأعادت اصطفافاتها الطبقية والسياسية.
وفي مجمل الأحوال فإن الرد على نتائج العولمة الرأسمالية لا يكون إلا عالمياً وقد يأخذ أشكالا عديدة بدأ من الحركات الاحتجاجية إلى تنسيق السياسات على الصعيد العالمي إلى إنشاء منظمات دولية في إطار الأمم المتحدة أو مستقلة عنها تعنى بشؤون الأمن الاقتصادي والبيئة ،ومكافحة الجريمة، وإيجاد حلول عادلة للحروب الأهلية والإقليمية ،والحؤول دون حصول المجاعات ، وغيرها من المشاكل التي تعصف بالعالم [6،376].
يبدو أن فكرة ماركس القائلة بأن التاريخ يتقدم دائما من جانبه السلبي ، ثبت صحتها أيضا في الرأسمالية.وإذ يتقدم فهو يحقق ذاته بصورة ارتقائية،كمحصلة لجميع القوى الفاعلة فيه وذلك في نهاية المطاف.وان السرعة أو الإبطاء في حركة تغيره رهن بموازين القوى الاجتماعية الطبقية والسياسية،وبالمناخ العام الذي يحكم علاقاتها وتفاعلاتها مع بعضها. بكلام آخر فإن الديمقراطية الشاملة والشفافية هي هذا المناخ ، وهي طريق الخروج من المأزق التاريخي الذي وجدت البشرية نفسها فيه من جراء النظام الرأسمالي العولمي. إنه لمن الوهم أن نتصور إمكانية النجاح في النضال ضد العولمة الرأسمالية بصورة عامة ، وضد أثارها السلبية على بلدان العالم الثالث ،ومنها بلداننا العربية ، بدون الديمقراطية بمعناها الشامل.
المراجع
1- تقرير الأمم المتحدة عن التنمية في العالم الصادر في عام 1994. أنظر أيضا التقرير الصادر عن معهد التنمية الاجتماعية التابع لمنظمة الأمم المتحدة State Of Disarray 1995.
2- World Resources 1996-1997: The Urban Environment , Washington D .C .P3.
3- Frankfurter Allgemeine العددان الصادران في 29/1/1996 وفي 30/4/1996.
4- UNDR , Human Development Report 1996, New York حزيران / يونيو.1996
5-طرابلسي،فواز،في " الوطن العربي" (27 تشرين الثاني/نوفمبر 1999). أنظر أيضاً ميهوب غالب أحمد " العرب والعولمة: مشكلات الحاضر وتحديات المستقبل " المستقبل العربي العدد(256) 6/2000 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،2000)،ص64.
6- مارتين، بيتر و شومان ، هارالد " فخ العولمة – الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية " ، ترجمة د. عدناد عباس علي ، ومراجعة دز رمزي زكي ، سلسلة كتب عالم المعرفة ، الكتابرقم 238 ن ( الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، تشرين الأول/أكتوبر 1998).
7-مجلة الوقت ، العدد 8 (1988) ص135.
8- Frankfurter Allgemeine Zeitung عدد 13/10/1994.
9-Frankfurter Rund Schow العددان الصادران بتاريخ 13/10/1994 و16/10/1994.
10- Ulrich Becher , Kapitalismus ohne Arbeiten : Der Spiegel 20 1996.
11- Die Woche العدد الصادر في26/4/1996.
12- International Herald Tribune العدد الصادر بتاريخ 1/2/1996.
13- Frankfurter Allgemeine Zeitung العدد الصادر بتاريخ 15/5/1996.
14- Financial Times العدد الصادر بتاريخ 30/4/1996.
15- New York Times العدد الصادر بتاريخ 3/9/1995.
16-تشومسكي ،نعوم " إعاقة الديمقراطية : الولايات المتحدة والديمقراطية "( بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،1992).
17- International Herald tribune العدد الصادر بتاريخ 3/4/1995.
18-The Economist العدد الصادر بتاريخ 7/10/1995.
19-UNCTAD, Trade and development Report S,4-9 Genf.
20-البرنس ،عبير " ردود الأفعال حول مؤتمر سياتل وموقف البلاد المختلفة " السياسة الدولية السنة 36، العدد 139(كانون الثاني/يناير2000)ص214.
21-عبد الله، ثناء فؤاد " قضايا العولمة بين القبول والرفض " المستقبل العربي، العدد(256) 6/2000 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،2000)ً100.