سعيدي المولودي
الحوار المتمدن-العدد: 2342 - 2008 / 7 / 14 - 08:42
المحور:
الادب والفن
في الصمت الحسير، تهبط الدمعة على جذوع الساحة القديمة، تزرع بردها في الأنفاس، وتقسو. ثمة عربة متآكلة تأكل طريقها، وتفرغ فراغها الحمولة في ساحة القلب. الدمعة لا ترسو، والعربة تتقدم في خوفها النابت في امتداد الشارع المسكون بظلال حروب لا مرئية صغيرة. ثمة رجل وامرأة أو كلاهما معا، يتبادلان فصول الأمن المرابط بينهما.
قالت المرأة ( لها ):
ـ من يفترسني ؟ يفطر على عشبي، ويمسح يديه على تكة الصدر...
قال الرجل ( له ):
ـ أنا غريق هذه الصحراء الباسقة، من يسكن دمي ؟
في العربة نفسها، لاشيء يمت بصلة للصلة، عربون كابوس عريق يشد أضلاع العجلات، ويسري هواؤه نحو قامة الرجل الذي كانت يداه ترتعدان كشمعدان عتيق، حتى حينما فكر في أن يشعل سيجارة أحس بثقل جبال تمشي على ذراعيه، وتستقر على حافة الشفتين... ومضت لحظات خافتة بطيئة. ولهذه المرة الأولى يحول عبوة البصر صوب المرأة التي تجلس بالمحاذاة منه، وأحيانا كان يحس وكأنها تجلس عليه. تأمل عرصاتها جيدا، هذه المرة فقط، واستعرض ظلال ذكريات تهاطلت على جدار وحدته، ونام لحظة أو لحظتين، ثم استفاق، أخرج بالقوة صندوق الدخان وأضرم فيه النار، وبدأ يحصي كبوة الأنفاس، وأذيال الدخان، السراب المتناثر في سمائه. كانت المرأة تتضايق من خيمة الدخان، وضعت سلة يديها على الوجه، وهربت بدفتيه نحو ربعة الفراغ، وارتفع في داخلها برج الاختناق..
قالت المرأة ( لها ):
ـ إيخ...خ...خ..كأنما هذا الخليج جيفة، أو هذا المحيط ميتة... من يحفر هذا القبر في وجهي؟
في عز اللحظة أخرجت من جوف حقيبتها منديلا أبيض تماما، وطفقت تشوش به على مسارب الدخان وتقتل ذرات السراب...
وكان الرجل صخرة لا يبالي، أتى على قضيب الدخان، وبقايا النار فيه، نفث من برج الصدر آخر النفثات، وأحدث قعقعة باردة، تنفست المرأة إثرها ريح الصعداء. وصعد الكلام بينهما.
قال الرجل لها:
ـ وقفت في حلقي غصة الهروب. هاهي المرات تقفوني، أصل إلى قعر الليلة، وأنام على صفيحة النهار، من زمان وأنا أغرس خطوي في لجة العربات، أمشي بين كفة الأسرار، كاظم الغيظ، ولا أصل إلى ملتقى الضوء من خواء الشوارع والمسافات...
أقول:
" هذا أوان الشد". ما لهذه العربات تخون سيرها.تلهث الساعات ورائي، وأنا ألهث على السهل المقوس، أتقوس، وأشد رحالي نحو سواحل الضياع..آواه. يا قبرتي، اقتلعتني أودية الحضور، وها أنا الخارج ـ الداخل في درب الحيازة، التصقت أكثر بخلاخل العمر، هكذا كانت تدكني حوافر الرغبة، أفرغ جسدي في فقيع العشب وأنام على مزرعة من حرائق تشد أغصاني، وأنا أقرع الطبول، والطبول. ما لهذه العربات تخون سيرها...
إني أتمسح خيل الموج. كانت الرغبة وحدها في أسناني تصطك، تتمسك بخرير الأعماق، وتظلل قدي كجناحي غراب صريع. صدقيني هذه المرة، فأنا أحبك، لا أحبك، أو أحبك. وقبل هذا الوقت وقفت أمام المرآة، كانت المرآة في سرة الجدار، والجدار يمتد امتدادا، ويطاول الجغرافية الشائكة بين المحيط والخليج، فلا المرآة كانت، ولا الجدار كان...
آواه. يا قبرتي، إني أضرب سيفي في عشق التاريخ فينبو... ما لهذه العربات تخون سيرها... سأسند بالمرة راياتي لهذا الكوكب المضيء، وأنتظر لحظة تحديق كبرى على شأفة السفر الدائم نحو المدى، والصوت الذي يلوح بالشارات والأغصان، وينام على شط بندقية عذراء..
آواه. يا قبرتي. إني مثل الأسى ألبس نخيل الذكرى، وأمسح عباب الساحات لمنتهى الفرح، لبوابات الوعد، يطلق مهاويه على الصدر، يرتد النير للقلب، ومدار الرحى يطول، يطول... من فرط الحلم تأسرني القارعة، وما من نكبة إلا وأنا صيحتها..
قالت المرأة له:
ـ أواه. يا "خطي". كأنما أحط دمي على الجدار، وأسند رأسي للغبار، وحيدة أشق المسافات البيضاء. هكذا تقتلني الخطوط الدائرة، مشيت على حر الجمر، وتمليت بهاء الغابات الشديدة، وأكاليل الذراع الممتد نحو فتنة الفراغ. أصب الكأس في منتهى الكأس، ولا أصل... ما لهذه العربات تخون سيرها... حقائبي تتراكم على الرصيف، والذكريات تمر مر السهاد، والحنين إلى دفاتر الليل يشاكسني، وأنا أعبر النهر مرتين، في انتظار أن يسقط الجدار. لماذا يظل الوقت صامتا هكذا.
أواه. يا"خطي". تتعب الكلمات في غربة المدى، وتنهار العربات على حافات هذه الساحات، فأعطني فرصة، سأصرخ في وجهك قليلا، وصدقني، فأنا لا أحبك، بالمرة والمرات، لكم أبغض هذا الهدوء، وموت الطيور بنفس الهدوء. ها أنت تسافر، قد تعود أو لا تعود، لكنني سأشد الأرض إلى دورتها، وأغرس حلمي في جلدها. فلا تبتعد. كأنما أسمع وقع أقدام يلاحقني أو يناديني، فاقترب... ما لهذه العربات تخون سيرها.
أواه. يا "خطي". إني أشد حزامي على ضفاف القهر، كأن شيئا ما يهزني، أقترف هذه الغربة، وأعانق الوهج في تعب المساءات، استهواني القارب إلى هذه المدينة، تتحلق الأوصاب في بدء الغرفة. ها هي سيرة العيث: هذا الوقت من دمي، زرقاء كالمسافات، أعشش في برودة الأرض، مخارج الريح آصرتي، تجري خلف الأمام، أضع يدي في هبوط الفيء. فما لهذه العربات تخون سيرها...
صدقني هذه المرة، يا"خطي"، بالأمس فقط زارتني عمتي الغريرة، ذرعت بصبرها الجنة النائمة في وجهي، واقتعدنا سويا على مائدة العشاء، حدثتني عن قمرها القديم، وهواها الهارب لمجد النسيان، كانت تضع يديها على فخذيها المفتوحين، وتضغط على صكوك الأحداث.قالت لي عن " خطها"، كيف كانت تمشط الأيام والليالي تحت قدميه، يعبدها، تعبده، وانقضى زمان تطاول فيه الليل على النهار، وافترق " الخطان"، بكت عمتي كسحابة محمولة بالمزن والريح. قالت:
ـ أي واقع لا يقتلني ليس مني.
لا أنكرك، يا"خطي" أننا قضينا الليلة معا، كأني بعمتي تعرفني للمرة الأولى. كان حديثها يندى في ثنايا الليل ويهدهدني كمفاتيح صغيرة، حتى نامت، نام التاريخ في صدرها، وظللت أنا أفكر في موت الذي لا يموت.
ودعتها صباح اليوم التالي ـ يا "خطي" ـ وقفنا مليا قبل طقوس الوداع بمحاذاة الشارع الذي كان يشدني للجزار، وهو يتأملنا، تسافر عيناه في قامتينا كأشعة شمس خريف نافذة، تصلنا قاسية كالخوف. حطت العربة، وافترقنا أنا وعمتي، وكانت نظراته تعشوشب في انكسار على خطواتي التي كانت ترتعش في اتجاه الباب.أواه. يا"خطي"، أو تدري، كم أنا أبغض كل جزار عنيد.. فما لهذه العربة تخون سيرها..
قال الرجل لها:
ـ هذا خوفي منك، عليك. لا شيء يبقى من ملكوت هذا الحلم، كأني أقترب منك، تترقبني أعراف كاسدة. الإصابة وحدها في شباك العمر، فإلى أين يهرب الصحابة ؟
قالت المرأة له:
ـ تحدوني الرغبة في الكلام، فهل تكون الصدى الذي يملأني.
وساد صمت عابر بينهما. وسرعان ما انتفض الرجل أو المرأة أو كلاهما معا. قالت المرأة:
ـ من يضع هذه العربة قبل الحصان.
قال الرجل:
ـ أنا الحصان، فهل تكونين العربة ؟
قالت المرأة:
ـ أنا طروادة، فهل تكون الحصان ؟
#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟