فى ثلاث مدن ، فى ثلاث قارات ، وفى اسبوع واحد تقريبا .. عبرت البشرية باختلاف اطيافها عن نفسها وعن خططها المتضاربة وطموحاتها المتلاطمة.
المدن الثلاث هى واشنطن الامريكية ، ودافوس السويسرية وبومباى الهندية.
ومن القارات الثلاثة : امريكا وأوروبا وآسيا .. قالت المدائن المشار إليها كلمتها ، وادلت بشهادتها فى دفتر احوال العالم – حسب زاوية رؤية كل منها ، ووفقاً لمصلحتها.
فمن العاصمة الامريكية واشنطن ألقى الرئيس جورج بوش الخطاب الرئاسى السنوى عن "حالة الاتحاد" ، معبراً عن رأى ، ورؤية ، فريق المحافظين الجدد واليمين الأصولى المتسطرف الممسك بزمام الأمور فى البيت الأبيض. وجاء الخطاب مغرقاً فى التبسيط المخل وازدواجية المعايير ، ومعبراً عن عنجهية المخطط الامبراطورى ، الامبريالى ، الرامى لتغليظ الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم ، سياسياً واقتصادياً.
وبتكرار ممل أعاد "بوش" اجترار مفرداته التقليدية التى أصبحت كالأسطوانة المشروخة ، ابتداء من "الأرهاب" – الذى يضم الرئيس الأمريكى تحت عباءته كل المتناقضات ويضع القرصنة والبلطجة على قدم المساواة مع المقاومة الوطنية المشروعة وكفاح الشعوب من أجل التحرر الوطنى، وانتهاء بالتغنى بـ "الديموقراطية" التى ابتذلها بوش وحولها من عملية تاريخية وكفاح شعبى نبيل إلى ذريعة للتدخل الأجنبى الفظ فى شئون خلق الله وفرض الوصاية الأمريكية عليهم حتى لو جاءت هذه الديموقراطية المزعومة محمولة على الدبابات وأسلحة الدمار الشامل . ولم يكن غريباً فى ظل هذه الرؤية الأمبراطورية أن يتجاهل الرئيس بوش الشعب الفلسطينى وحقوقه الوطنية المشروعة تجاهلاً مطلقاً ، وان يتناسى الاشارة – مجرد الاشارة – إلى معاناة الفلسطينين من جراء السياسة الإسرائيلية الاستعمارية الغاشمة المدعومة أمريكياً بالمال والسلاح والمظلة السياسة والتواطؤ المكشوف.
أروقة دافوس
وفى منتجع دافوس أعلى بلدة فى أوروبا تقع على ارتفاع 1560 متراً فوق سطح البحر، فى منطقة معزولة وسط واد تحيط به الجبال من كل جانب .. اجتمع 2200 مشارك من 94 دولة، منهم ديك تشينى نائب الرئيس الأمريكى ، ورؤساء دول ورؤساء حكومات ، منهم رئيس الوزراء الليبى فى أول حضور ليبى لهذا المنتدى منذ أكثر من عشرين عاماً ، تقديراً للخطوات التى اتخذتها "الجماهيرية" مؤخراً لتطبيع العلاقات مع العواصم الغربية ، وبخاصة واشنطن ، بعد عقود من الحروب الكلامية الحامية الوطيس التى أمطرتها بها طرابلس.
وحرص منتدى دافوس – كالعادة – على اضفاء جو من الحميمية والألفة البعيدة عن الرسميات فى أروقته ومنابره ، حيث فرض غرامة قدرها 5 فرنك سويسرى على كل مشارك يتم ضبطه مرتدياً رابطة عنق (كرافات) ، ويتم دفع هذه الغرامة إلى اليونيسيف.
ورغم ان منتدى دافوس كان فى العادة أداة لواشنطن فى المقام الأول، وعنواناً للعولمة "المتوحشة" ، أى الطبعة الأمريكية للعولمة التى تستهدف أمركة العالم ، فانه هذه المرة وضع مسافة – ولو قصيرة – بينه وبين سياسة الإدارة الأمريكية ورؤيتها "الأصولية" المتطرفة للعالم، بل ان العين لا تخطئ هذه السنة رؤية نبرة "انتقادية" لهذه الرؤية التى يتبناها فريق بوش.
ورغم أن المشاركين فى دافوس لم ينكروا الدور "القائد" لأمريكا فى الاقتصاد العالمى والسياسة العالمية ، فان بعضهم حرص فى هذه الدورة على نقد ضيق أفق الأجندة التى تستميت واشنطن لفرضها على الجميع ، وكذلك نقد بعض الآليات والسياسات التى دأبت إدارة بوش على استخدامها فى الآونة الأخيرة ، وبالذات سياساتها الحمائية وقيودها المتغطرسة على حرية التجارة.
وعبر السكرتير العام للأمم المتحدة ، كوفى عنان، عن هذا النقد من خلال كلمته أمام المنتدى الاقتصادى العالمى التى قال فيها أن "الوقت قد حان لاعادة التوازن إلى الأجندة العالمية" ، مضيفاً أنه مهما كان تركيز الدول الغنية على القضايا الأمنية مبرراً بعد أحداث 11 سبتمبر، إلا ان هذا لا يعنى تراجع هذه الدول عن التزاماتها نحو الدول الفقيرة.
حتى كلاوس شواب ، المسئول رقم واحد عن تنظيم منتدى دافوس والذى دأب الكثيرون على النظر إليه باعتباره حليفاً لصيقاً للأمريكيين – وهذه أكثر الصفات تهذيباً - اضطر فى لقاء هذا العام إلى المشاركة فى النقد المبطن للسياسة الإمبراطورية الأمريكية التى تعتبر الهاجس الأمنى قدس الأقداس فى مواجهة عدو غير واضح المعالم تسميه الإرهاب . فقال بدوره أننا "نعيش فى عالم هش وغير مستقر .. وأنه أصبح واضحاً أنه بدون الأمن لا أمل فى تحقيق نمو اقتصادى مستدام ، وبدون ازدهار اقتصادى لا أمل فى تحقيق الأمن. وأن السلام ضرورى من أجل الحصول على الأمن والازدهار معا" ، مدللا على ذلك بأن القبض على الرئيس العراقى صدام حسين لم يضع حداً للاضطراب الذى يجتاح العالم . وأضاف أن الارهاب ليس هو العدو الوحيد للأمن والازدهار وأن هناك النزاعات العرقية والاقليمية والدينية ، والفقر ، والنقص فى المياه والخدمات الاساسية ، وتدهور البيئة ، والأوبئة .
واستنتج من كل هذا أن هناك ضرورة إلى توزيع الأدوار وتقاسم المسئولية بين رجال السلطة ورجال الاعمال.
صرخة بومباى
وعلى عكس هذا الانتقاد المبطن ، والناعم ، للإدارة الأمريكية فى المنتدى الاقتصادى العالمى المنعقد فى منتجع دافوس السويسرى المحاط بالجليد والبرودة ، كان الانتقاد المدوى والمباشر للسياسة الأمريكية هو السمة الرئيسية للمنتدى الاجتماعى العالمى الذى عقد فى نفس الوقت فى مدينة بومباى العاصمة الاقتصادية الهندية.
ومن المعروف أن هذه هى السنة الرابعة التى ينعقد فيه هذا المنتدى الاجتماعى العالمى الذى تشارك فيه عشرات الآلاف من الهيئات والمنظمات التى تنتمى الى المجتمع المدنى . وهذه التيارات المتعددة يجمعها تيار واحد عريض هو معارضة العولمة "المتوحشة" من خلال إرساء دعائم ما يمكن تسميته بـ "العولمة البديلة". ولذلك استهدف منظمو هذا المنتدى ان يكون نقيضا لمنتدى دافوس الذى يحضره رؤساء الدول والحكومات ورؤساء الشركات متعددة الجنسيات واقطاب ما يسمى بـ "النيوليبرالية".
وفى السنوات الثلاث الماضية عقد المنتدى الاجتماعى العالمى فى مدينة بورتو الليجرى البرازيلية . وبانتقاله هذا العام إلى بومباى الهندية استهدف المنظمون له توسيع نطاق حركتهم التى كانت المشاركة الأمريكية اللاتينية والأوروبية هى السمة الاساسية له منذ نشأته.
واختاروا أن يكون الانتقال من أمريكا اللاتينية إلى آسيا التى يسكنها نصف سكان العالم . وبالفعل فان منتدى بومباى قد هرع للمشاركة فى أعماله اكثر من مائة ألف شخص ينتمون إلى منظمات وهيئات غفيرة.
ومثلما كان الحال فى بورتو أليجرى .. تحولت بومباى إلى منبر للهجوم الشديد على السياسات "الأمبريالية" الأمريكية ، وادانة الاحتلال الأمريكى للعراق، وكذلك إدانة السياسات العنصرية الصهيونية ضد الشعب الفلسطينى ، وإدانة محاولة أمركة العالم تحت مظلة العولمة ، وإدانة هذه الهيمنة الأمريكية على نظام عالمى يكرس اللاعدالة، حيث ارتفع عدد الجياع فى العالم إلى أكثر من 800 مليون شخص ، بينما يعانى حوالى 500 مليون من سوء التغذية يومياً ، ويموت 17 مليون طفل فى المرحلة الابتدائية ، ولا يحتكر العالم الثالث الآثار السلبية لهذا النظام المفتقر للعدالة ، بل أن هناك أكثر من مائة مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر فى الدول الصناعية الكبرى ، وفى أمريكا وحدها يوجد حوالى 47 مليون شخص بدون تأمينات ، وفى لندن أكثر من 400 مليون شخص بدون مأوى ، وفى الدول "المتحولة" ، أى بلدان أوروبا الشرقية ، زاد عدد الفقراء من 14 مليون إلى 19 مليون شخص.
ولم يكتف منتدى بومباى بالتنديد بالنظام العالمى الذى تهيمن عليه واشنطن حاليا وتفرض أجندتها عليه ، بل ذهب إلى القول بأن "عالما آخر أمر ممكن".
غياب عربى معتاد
وبينما حرص كبار المسئولين العرب على المشاركة فى منتدى دافوس، لا نكاد نلمس اهتماما عربياً يذكر – على أى مستوى – بمنتدى بومباى رغم أنه الأكثر تعبيراً عن همومنا.
ولم نسمع عن أصوات عربية ارتفعت بقوة فى أروقة منتدى بومباى ، اللهم سوى الزعيم الجزائرى التاريخى أحمد بن بيلا والدكتورة نوال السعداوى التى دعت النساء إلى عدم استخدام مستحضرات التجميل!
المهم .. وبدون الدخول فى تفاصيل .. كان الاسبوع الماضى مناسبة فى مطلع عام 2004 كى يعبر العالم عن نفسه . وقد جاء هذا التعبير بالغ الدلالة. ففى مقابل إصرار الإدارة الأمريكية – التى أصبحت مرتعاً للأصولية والتطرف والغطرسة وإحياء الظاهرة الاستعمارية – تعاظم رفض الغالبية الساحقة من البشرية – كما عبر عنها منتدى بومباى – لهذه الرؤية الامبراطورية . وفى المسافة الساشعة الفاصلة بين واشنطن وبومباى ابتعدت دافوس – سنتيمترات او حتى ملليمترات - عن وصاية البيت الأبيض ، أو على الأقل فانها لم تعد متطابقة مع الإدارة الأمريكية بنسبة مائة فى المائة وتجاسرت – هذ العام – لتسجيل بعض الانتقادات ، مهما كانت هينة ، للرؤية الامبراطورية الأمريكية.
لذلك .. يمكن القول – باختصار – أن النجاح الكبير الذى حققه الرئيس جورج بوش هو أنه وضع أمريكا فى مواجهة العالم بأسره . وان عصر الانبطاح أمام غطرسة هذه الإدارة الأمريكية الأكثر يمينية والأكثر تطرفاً وعدوانية .. بدأ فى الانحسار.