بشكل مفاجيء و بدون مقدمات تذكر ، كعادة الموت ، مات عبد الرحمن منيف
لم يكن عبد الرحمن منيف كثير الظهور في المحافل العامة فقد حافظ على مسافة متوسطة ما بين الظهور و الانزواء . لكنه ملأ فضاء الرواية العربية منذ أواخر السبعينيات و خلال عقد الثمانينات ، حيث اكتمل مشروعه الروائي بظهر خماسية مدن الملح التي تعبر المدماك الأساسي الذي قام عليه المشروع الروائي للكاتب . أما ما قبله و ما بعده ، رغم أهميته ، فهو يدور حول المركز (( مدن الملح )) .
أعطى الراحل السرد الروائي التقليدي دفقة جديدة من الحياة و قد ظن الكثيرون أن القص التقليدي قد انتهى مع نجيب محفوظ و دخول تأثيرات موجات الرواية الغربية الحديثة . لكن مدن الملح أعادت الاعتبار للقص بوصفه متعة قائمة بذاتها ، أعاد الروائي الاعتبار لنسق علاقة شهرزاد و شهريار حيث القص يعني الحياة و التوقف عنه يعني الموت ، و حيث الحكاية تولد من الحكاية . و حيث المتعة حاضرة في كل لحظة . كما أضاف الكثير لعلاقة التاريخ بالرواية . فأدخل التاريخ بكل تفاصيله بشكل فني . و رغم أن الكثيرين حاولوا بهذا المجال على أنهم لم يصيبوا النجاح الذي أصابه و ذلك لأنه لم يتخل عن الشرط الفني بحجة انه يرصد مرحلة تاريخية . فتجد شخصيات مدن الملح منسوجة بعناية و دقة لا يوجد ثغرات في بنائها الدرامي تؤدي دورها و تنسحب بهدوء حتى أن شخصية (( متعب الهزال )) بطل الجزء الأول لمدن الملح تداخل عبرها الوهم بالحقيقة فتحولت إلى رمز يعبر عن طريقة تفكير أبطال الزمن الغابر في الوقت الذي ظنها الناس شخصية من لحم و دم .
سخّر عبد الرحمن منيف حياته الروائية ، التي بدأها متأخراً ، لرصد التطورات التي عصفت بالمشرق العربي ، شرق السويس ، فسجل تاريخ ظهور النفط بالجزيرة العربية و التبدلات الاجتماعية الهائلة التي صاحبته بدقة فنية مذهلة . كما سجل فنيا سمة أساسية من تاريخ المشرق في القرن الماضي ، هي سيرة السجن السياسي فكتب روايتين (( شرق المتوسط )) و (( شرق المتوسط مرة أخرى )) و ما بين النفط و القمع و ما بينهما من وشائج ، مر على تاريخ إيران و ثورة مصدق و عاد إلى التاريخ فكتب عن حاضر العراق بلغة الماضي . و بين النفط و القمع حاول أن يشبع غريزته كفنان ، أو ربما ليقول للناس أستطيع أن اكتب عن الحب أيضاً فكانت (( قصة حب مجوسية ))
هناك الكثير مما يمكن قوله عن عبد الرحمن منيف . فقد ترك وراءه عدداً كبيراً من الأعمال ساهمت في تشكيل وعي جيل كامل .