|
الوعي القبلي في مواجهة المجتمع المدني
نجيب غلاب
الحوار المتمدن-العدد: 2339 - 2008 / 7 / 11 - 11:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
القبيلة بقيمها وثقافتها التقليدية، عندما يتم أخراجها من معاقلها، وبعث وعيها بهدف إدارة الصراع السياسي، فإنها تعمل على خلق وعي وسلوك تدميري لفكرة الدولة ورديفها المدني، أما عندما تصبح القبيلة ضعيفة وتحاول بعث نفسها في سياقات الصراع السياسي المؤسس على قيم الديمقراطية فإنها لا تتحول إلى حلف فضول كما يعتقد الأصولي، بل تقاوم الوعي الجديد المؤسس على قيم إنسانية مدنية آخذة في النمو، وتعمل على تأسيس وعي تقليدي مناقض للعصر، متوافق مع سياقات الوعي الأصولي بصورته المؤدلجة. وشيخ القبيلة عندما يمارس السياسة باسم القبيلة، فإنه يقود المجتمع نحو التشظي وتفكيك لحمته، والسير به في اتجاهات صراعية من أجل الغنائم، بما يعني بطبيعة الوعي والهدف إفراز نزوع استبدادي متجاوز للمجموع الشعبي ولمفهوم الدولة العامة الشاملة، لتصبح الدولة نظام سياسي متسلط قاهر للمجموع ومتمحور حول نخبة قبلية لا همّ لها إلا مصالحها. وبعض القوى السياسية وأشياعها من المثقفين السطحيين من يعملون جاهدين على دعم القبيلة، باعتبارها حسب طرحهم مكون طبيعي وأساسي وجوهري في بنية المجتمع اليمني، وانه لا يمكن تجاوزها، وليس أمامنا إلا قبولها، وأنها تعبير عن الشخصية اليمنية وأصالتها، ولابد من الحفاظ عليها، فهي روح المجتمع، وهي القادرة على الحفاظ على هويته، وحمايته من أعدائه، وهي القادرة على كبح جماح الاستبداد السياسي. هذه التبريرات رغم منطقها الشكلي، إلا أنها تعبر عن خلل في الرؤية للماضي والحاضر وطبيعة المستقبل، ومؤسسة على معرفة تقليدية، لذا يتم أحيانا الاستناد إلى مرجعية أسلامية، وهذا التأصيل للقبيلة من داخل الإسلام يعبر عن جهل بالعصر وتطورات الدولة الحديثة، كما أنها قراءة مرتهنة للماضي، ومن الواضح أنهم لم يقرؤوا الإسلام برؤية معرفية عميقة، واعتمدوا على منهجية مؤسسة على الوعي القبلي، فالبعض مازال غير قادرا على استيعاب دور القبيلة التخريبي في تاريخ الحضارة الإسلامية ابتدءا من حروب الردة ووعي الخوارج القبلي، مرورا بصراع الطوائف، وليست طالبان إلا آخر طبعة للإسلام بتأويلات الوعي القبلي. وبعض هذا البعض محكوم بعقلية مشتته بين الجديد والقديم، ونتيجة العجز عن الفاعلية بالاعتماد على المجتمع المدني، يلجئون إلى القبيلة بوضعها الراهن على مستوى الشكل والثقافة والوظيفة، ويعتقدون بإمكانية ان تقوم القبيلة بوظيفة المجتمع المدني، وهذا الفهم يعبر عن عدم أدراك لطبيعة القبيلة ووعيها ومنطق هذا الوعي، فالقبيلة تختلف كليا بل هي نقيض المجتمع المدني ونقيض الدولة الحديثة ـ وأنا هنا لا أتحدث عن أعضائها ـ وإنما عن الوعي والوظيفة كما هي في بنية العقل والتي تتجسد بوضوح في صورة الشيخ التقليدي. وان كان هناك تشابه ظاهري فيما يخص الدفاع عن الأعضاء وحمايتهم، ولكن هذه الوظيفة مؤسسة على قيم عصبوية محكومة بثقافة القبيلة التقليدية، أما المجتمع المدني فهو تعبير عن ولادة جديدة، وقطيعة كلية مع التكوينات العصبوية، والتي تشكل جوهر مشاكلنا ليس الراهنة بل والحضارية على امتداد التاريخ الإسلامي. من جانب آخر وهذه حقيقة لابد من الاعتراف بها، المجتمع المدني صناعة حداثية فريدة، يتسم بنزعة إنسانية عقلانية، وهذا ما جعله قابل للاستنبات والقابلية للتطور رغم الصعوبات التي يواجهه في بيئتنا المحلية، بما يعني أنه لم ينبثق من أشكال تقليدية بل هو قيمة جديدة كليا تعمل بتناغم مع الدولة الحديثة التي هي بدورها وبشكلها المعاصر صناعة إبداعية للعقل الأوروبي، ولا علاقة لها بمفهوم الدولة كما تطور ونشأ في تاريخنا العربي، ومن لم يقتنع فعليه دراسة التاريخ بعقله لا بعاطفته، وفشل بناء الدولة بمفهومها الحالي في بلادنا العربية احد أسبابه الرئيسية الوعي القبلي. وهذا يجعلنا نرى انه لا وجود لأي أمكانية بان تتحول القبيلة إلى مكون طبيعي في بنية المجتمع المدني، إلا بتغيير بنية القبيلة ووعيها أولا، وتأسيسها على القيم الحديثة، أما والحال كما يعرف الجميع، فأننا نرى ان إخراج القبيلة من معقلها الاجتماعي والزج بها في السياسة يجعلها تسحب ثقافتها إلى المجال العام، لتصبح ثقافتها ووعيها قوة طاغية تفرض نفسها ووعيها العصبي وثقافتها المغلقة على الحياة المدنية الأخذة في النمو والتطور. والرهان على القبيلة في وضعنا الراهن وتطوير المجال العام بأدوات حداثية وفق تصورات الوعي القبلي وفهمه وسلوكه وطريقة تعامله مع الأشياء والخاضع كليا للثقافة التقليدية، رهان خاسر لان البناء المدني الذي تعمل من خلاله لا يؤسس لمجتمع مدني، ولكنه يبني مؤسسة مشوهة ووحش قوي يكتسح البناءات الحداثية للمجتمع المدني؛ أي انه يسعى لتدمير نقيضه وبذكاء شديد. فالوعي القبلي في حركته يؤسس للانقسام والتشظي بين ابناء الوطن الواحد، كما أن القبيلة كيان مغلق على نفسه، يحاصر أعضائه بوعي القبيلة التاريخي، مما يؤدي إلى أنتاج سلوك تكراري مستسلم لعرف جامد مناقض للعصر وخانق للفرد وفرديته وحريته، وتفقده انسانيته لانها تحاصر حريته في وعيها، ويصبح الفرد رقم داخل مؤسسة سلطوية، تحكمه آليات عقل يستند على وعي قبلي ينتج التخلف، ويكرر نفسه عبر التاريخ، وهذا يفسر جمودها وقدرتها على تحوير أي فكر لصالح وعيها، فقد استطاعت أن تهضم رسالة إنسانية عظيمة كالإسلام في بنيتها وإعادة صياغتها وفق وعيها.
وخلاصة القول أن المجتمع المدني وحده لا غيره هو القوة القاهرة للتخلف، والقادر على أحداث قطيعة مع الثقافة التقليدية، وتجاوز التكوينات الدنيا القائمة على العصبية والفئوية والمناطقية والعرقية والمذهبية، وهو لا ينفيها بل يعمل على تأسيس هذه التكوينات الطبيعية كأوعية للتعارف والتعاون، ويحافظ على هويتها الأولية، بعقل مفتوح، ويتجاوزها لصالح هوية أكبر هي قيم لعيش المشترك، لتصبح هي أصل الولاء والانتماء والتي تتجسد في الدولة ودستورها وقيمها الحديثة. وخيار المجتمع المدني خيار تقدمي لأنه يؤسس لآليات فكرية وقانونية تقنن الصراع وفق قيم عليا يشكل الحوار وقبول الآخر والحفاظ عليه والدفاع عن حقوقه ومصالحه وقبول التنوع أهم تلك القيم، والمجتمع المدني لا ينمو ويعيش إلا في السلم، وأعضائه لا يرفعون البندقية، ولا مرافقين لديهم لأنهم لا يخافون من أحد، ولا ثأر لديهم ، لان أصل تكوينهم الفكري مؤسس على احترام الإنسان وحقوقه، نضالهم من أجل أخيهم الإنسان أيا كان موقعة في الحياة، والقانون هو الحامي لهم لا القبيلة. والمجتمع المدني ليس ضمان للعيش المشترك فحسب، بل هو روح الدولة، فالدولة لا يمكنها ان تعمل وتقوى إلا بالمجتمع المدني، مما يجعل المجتمع المدني مرتكزا جوهريا في حماية الأمن القومي وحفظ كيان الدولة، أما القبيلة فأن طبيعة تركيبتها صراعية تجزئيية مغلقة متعصبة عنصرية عنفية، وهذه الصفات البنيوية في وعي القبيلة يجعلها متناقضة مع المجتمع المدني القائم على التسامح وقبول الآخر وعلى الإخاء والمساواة. وإذا احتلت القبيلة الدولة فإنها تلغيها وتقودها إلى حتفها، لأنها تؤسس للصراع والدمار والتنازع على أسس غير مدنية، وهذا يفكك المجتمع ويلغي الدولة ويدمرها ويجعل المجتمع فرقا شتى تتصارع على حق الحياة ليس إلا، والصومال مثال حيّ، والمذابح البشعة في راوندى تجعل من القبيلة في حالة تفجر وعيها حقيقة عنصرية، ووحش كاسر يأكل لحم المختلف ويدمر نفسه في الوقت ذاته، لان ابتلاع الآخر وعدم الاعتراف به، هو السم الزعاف الذي يقضي على النفس الشرهة التي لا تؤمن إلا بنفسها. من جانب آخر بناء المجتمع المدني وفق آلياته المتعارف عليها، يسهم في توزيع السلطة، بعكس القبيلة التي تسعى نحو تركيز السلطة بيد أشخاص بعينهم وفق آليات لا تخضع للكفاءة وتكافؤ الفرص والمساواة، والمجتمع المدني ينشر الأمن والاستقرار والإبداع، أما القبيلة عندما تعمل سياسياً فإنها تصنع التوتر والصراع والكراهية والتناقضات المؤسسة للعنف، والقبيلة نتيجة محاصرتها للفرد فإنها تخنق الإبداع وهذا يضعف المجتمع وتطوره بعكس المجتمع المدني الذي ينمي قدرات الفرد ويحرره من قيوده حتى يصبح قادرا على خدمة الانسان. والقبيلة تقوم على الجبر، والمجتمع المدني طبيعته تعاقدية، ومحاولة سحب تقاليد القبيلة إلى المجتمع المدني يمثل ممارسة فاسدة تخرب القبيلة بإعادة تفعيلها بصورة صراعية في العملية السياسية وتشوه المجتمع المدني وتعمل على تدمير تكويناته الناهضة القائمة على التعاقد وبالتالي تهديد كلي للدولة وقيمها المعاصرة، وهذا أعلى مراحل تهديد الأمن والاستقرار الاجتماعي. أني أدرك أن الوعي القبلي له سطوة وهيمنة على العقل تجعل صاحبه ينفي ما عداه، هو القوة القاهرة للفكر ولديه قدرة بحكم تعمقه التاريخي في الوعي المجتمعي ان يعيد تشكيل كل فكر وكل بناء وكل رؤية بما ينسجم مع أنساقه الثقافية، وهذا يجعلني أؤكد ان تفعيل هذا الوعي القبلي في مرحلتنا الراهنة يمثل قتل للثقافة المدنية والوعي الجديد الذي بدأ ينمو بقوة في بيئتنا اليمنية، بما يعني تهديد لمستقبلنا كله.
#نجيب_غلاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المثقف ودوره في إحداث التغيير
-
الدولة الوطنية وتناقض الأمركة مع العولمة
-
حُمى الجنس
-
الدين والسياسية .. المشكلة .. الحل
-
الاسلام السياسي وتناقضات الفكر والسلوك مع ديمقراطية
-
انثى من جنون
-
الاصوليه وخطرها على السلم الاجتماعي
-
ثقافة جديدة من أجل مجتمع حُر: الوعي التقليدي في مواجهة العصر
-
إشكالية السياسة في الايديولوجيات الأصولية
-
إشكاليات التحول الديمقراطي في اليمن
المزيد.....
-
وفاة الملحن المصري محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عامًا
-
مراسلتنا في الأردن: تواجد أمني كثيف في محيط السفارة الإسرائي
...
-
ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة بالضاحية الجنوبية؟
-
-تدمير دبابات واشتباكات وإيقاع قتلى وجرحى-.. حزب الله ينفذ 3
...
-
ميركل: سيتعين على أوكرانيا والغرب التحاور مع روسيا
-
السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|