هربرت ماركيوز (1898-1979)
هربرت ماركيوز (Herbert Marcuse) فيلسوف ألماني، فرّ من البطش النازي وعاش في أمريكا بعد عام 1934. كان ماركيوز عضواً في مدرسة فرانكفورت (Frankfurt School) وقد تبنى فكرة التغيير الاجتماعي ودافع عنها دفاعاً كبيرا،ً ولهذا كان في الستينات رمزاً لليسار الجديد، وللعديد من الثوريين في ألمانيا وأوروبا. لقد شكل كتابة "الأيروس والحضارة" (Eros and Civilization)، الذي نشر في عام 1955، محاولة واضحة من قبله للدمج بين أفكار فرويد وماركس.
وقد كان ماركيوز ملتزماً بقضية التحرر الجنسي للاشعور من طغيان العقل الواعي كالتزامه بالتحرر الثوري للجماهير من السيطرة السياسية والاقتصادية للطبقة الرأسمالية الحاكمة.
وقد أشتهر ماركيوز بشكل خاص بسبب تحليله لطبيعة طغيان المجتمع الحديث، حين يكون رأسماليا، كما هو ظاهر في كتابه "الرجل ذو البعد الواحد" (One-Dimensional Man)، الذي صدر في العام 1964، أو شيوعياً كما ظهر في كتابه "الماركسية السوفيتية" (Soviet Marxism) 1958.
وفي المقالة المقتبسة في هذا الكتاب فإن هربرت مركيوز "يعيد النظر في مفاهيم الثقافة وتعريفاتها، ليكشف جانب العنف الخبئ تحت رمزياتها الاستعمالية، من اجل إعادة نظر جديدة في تعريف حقيقي للثقافة يتطابق فيها كل من الدلالة والممارسة، في ظل مجتمع التقنية والاستهلاك، ويجب ألا يغرب عن بالنا أن هذا الفيلسوف وجه نقده خاصة للمجتمع الأمريكي باعتباره النموذج الأعلى لحضارة التقنية المعاصرة. وهو لذلك عندما يتعرض لنقد الأنظمة التربوية والجامعية، فهو يقصد بالطبع تلك السائدة في أميركا حوالي منتصف هذا القرن. ونذكر هنا أن أفكار هذا الفيلسوف كانت ميثاقاً لثورة الطلاب والمثقفين التي أسقطت عصر فيتنام في أمريكا وتسببت في تغيرات واسعة في شؤون الثقافة والأنظمة الجامعية، وكانت شعارات كذلك لثورة الجامعيين في أحداث أيار- مايو 1968 في باريس وفيما سمي بثورة الطلاب في الغرب كله".
ماركيوز : ملاحظات حول تحديد جديد للثقافة
إنني أنطلق من تعريف قاموس وبستر (Webster) الذي يقول إن الثقافة هي مجموعة معينة من الاعتقادات والآراء، والفتوحات والتقاليد، التي تؤلف "خلفية" مجتمع ما. وتُستثنى عادة من المفهوم التقليدي "فتوحات" مثل التدمير والجريمة، كما تستثنى "تقاليد" مثل القسوة والتعصّب. وسأقتصر على هذا الاستعمال، على الرغم من أن إعادة إدخال هذه الصفات في التعريف قد تبدو ضرورية. وسيدور كلامنا حول العلاقة بين "الخلفية" (أي الثقافة) و"الأساس": هكذا تبدو الثقافة كمجموعة من الأهداف الأخلاقية والجمالية والفكرية (أي قيم) التي يعتبرها المجتمع غاية تنظيم العمل وتقسيمه وإدارته، أي "الخير" الذي يريد أن يصل إليه بإتباعه نمطاً معيناً في الحياة. فنمو الحريات الفردية والعامة، وتقهقر الظلم الذي يعيق تطور "الفرد" والشخصية، ووجود إدارة فاعلة وعقلانية، كل هذا يمكن اعتباره "قيماً ثقافيةً" تمثل مجتمعاً صناعياً متطوراً (الشرق والغرب على حد سواء لا ينفيان عنها رسمياً صفة القيم).
ونحن لا نُقر بوجود ثقافة (سابقة كانت أم حاضرة) إلا عندما تتحقق أهداف هذه الثقافة وقيمها التمثيلية في الواقع الاجتماعي أو عندما تكون في طور تحققها فيه. ومن الممكن أن توجد فروقات هائلة في أهمية ترجمة هذه القيم في الواقع وملاءمتها له، ولكن الأنظمة العامة المعمول بها في مجتمع معين والعلاقات بين أفراده لا بد لها أن تنطوي على تجانس يسهل كشفه بينه وبين القيم التي ينادي بها هذا المجتمع. فينبغي لها أن تكون قاعدة لتحقيقٍ محتملٍ لهذه القيم. وبعبارة أخرى، ان الثقافة هي أكثر من أيديولوجيا بسيطة. فإذا أمعنا النظر في الأهداف التي تنادي بها الحضارة الغربية وفي توقها إلى تنفيذها، لاستطعنا تعريف الثقافة بأنها عملية "أنسنة" (humanization) تمتاز بالسعي المشترك نحو دوام الحياة البشرية، وتهدئة الصراع من أجل الحياة، أو على الأقل حصره في حدود يمكن مراقبتها، وتدعيم نظام المجتمع الإنتاجي، وتنمية القدرات الفكرية عند البشر، وتخفيف التعديات والعنف والبؤس وإعلائها (sublimation)(1).
ولا بد لنا الآن من أن نوجه انتقادين اثنين:
1.كان "إلزام" الثقافة دوماً خاصية محصورة في "عالم" محدد يتكون من هوية عرق أو أمة أو دين أو نوع آخر من الهويات (الاستثناءات هنا محكوم عليها ان تبقى في حيز الأيديولوجيات).ولقد وجد دائماً عالم "غريب" لم تكن الأهداف الثقافية بالنسبة له ذات قيمة: فمفاهيم العدو، والآخر، والغريب، والمبعد لا تنطبق بادئ الأمر على الأفراد، بل على الجماعات والأديان وأنماط الحياة والنظم الاجتماعية. وتُوضع الثقافة "بين مزدوجتين" أمام العدو (الذي قد يبرز أيضاً من داخل العالم ذاته) وهي قد تُمنع عنه حتى، فتجد بذلك البربرية لها طريقاً مرسوماً بشكل تام.
2.لا يمكن تعريف الثقافة بعملية "الأنسنة" إلا إذا استبعدت القسوة والتعصب والعنف غير "المستعلي" (non sublime). غير أن هذه القوى (ومؤسساتها) يمكن أن تؤلف جزءاً مكوناً للثقافة، لدرجة أن بلوغ أهداف الثقافة أو الاقتراب منها يتم عن طريق القسوة والعنف.
هذا ما يفسر التناقض في كون "الثقافة الغربية العليا" احتجاجاً رفيع المستوى ضد الثقافة، واتهاماً لها وإنكاراً، ليس فقط من جراء ترجمتها البتراء في الواقع بل بسبب مبادئها الداخلية وبسبب مضمونها أيضاً.
إن اختبار ثقافة معينة في هذه الظروف ينطوي على طرح سؤال حول العلاقات بين القيم والأفعال، وذلك ليس لكونه مسألة منطقية أو متعلقة بنظرية المعرفة فحسب، بل لأنه مسألة تتعلق بالبنية الاجتماعية: ما هي العلاقة بين إمكانات المجتمع والأهداف التي يسلم بها؟ ان الأهداف محددة في الظاهر "بالثقافة العليا" المقبول بها (اجتماعياً). وهي تمثل بذلك قيماً يجب أن تتجسد على نحو وافٍ في المؤسسات والعلاقات الاجتماعية. ونستطيع إذن ان نصوغ سؤالنا بكلمات أكثر وضوحاً:
ما هي العلاقة بين أدب مجتمع ما وفنه وفلسفته ودينه وبين الممارسة العملية لها في المجتمع؟ نظراً لضخامة هذه المسألة لن نستطيع مناقشتها إلا في إطار بضع فرضيات تستند إلى بعض نزعات التطور المعاصر.
لقد اتفقت الآراء بشكل واسع في المناقشات التقليدية على أن العلاقة بين الأهداف الثقافية والوسائل الفعلية ليست متطابقة تماماً (ولا تستطيع أن تكون كذلك؟) وأنها نادراً ما تكون متآلفة. ولقد اتضح هذا الرأي في التمييز بين "الثقافة" و"الحضارة" : فالثقافة تعود إلى مستوى عال من استقلال الإنسان وتكامله في حين تخص الحضارة ميادين الحاجة والعمل والسلوك التي يقتضيها المجتمع والتي لا يكون الإنسان فيها فعلاً منسجماً مع ذاته متحداً مع جوهره الخاص، بل على العكس من ذلك يكون الإنسان فيها تبعياً (heteronomous) متعلقاً بالظروف والحاجات الخارجية. ثم إن ميدان الحاجة قد يكون مصغراً (وهذا ما يقع غالباً). فمفهوم التطور لا ينطبق في الواقع إلا على التقدم الحضاري. ولكن تطوراً كهذا لم يلغ التوتر القائم بين الثقافة والحضارة. بل يحتمل ان يكون قد قوى هذا التفرع الثنائي، لأن الإمكانات الهائلة التي يقدمها التطور التقني تتناقض اكثر فأكثر مع إنجازاتها المحدودة والمشوهة. لأن الثقافة تُدمج بشكل منظم مع الحياة اليومية والعمل، لدرجة أنه يمكننا التساؤل ما إذا كنا نستطيع ان نحافظ على التمييز بين الثقافة والحضارة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الميول المسيطرة في المجتمع الصناعي المتقدم؛ وبشكل اكثر دقة، يمكننا التساؤل ما إذا كان التوتر القائم بين الهدف والوسيلة، بين قيم الثقافة والواقع الاجتماعي، قد أبطله امتصاص الوسائل للأهداف. ألم تنصهر مرة الثقافة والحضارة انصهاراً سابقا لأوانه وقمعيا وعنيفا، انصهارا ساهم في إضعاف القوى التي كانت تنجح في كبح جماح الميول التخريبية؟ إن دمج الثقافة بالمجتمع يجعل المجتمع "تسلطياً" (totalitarian)، ولو أنه لا يزال يحتفظ بأشكال ومؤسسات ديمقراطية. ونستطيع أن نبين على الشكل الآتي بعضاً من العلاقات الضمنية بين الثقافة والحضارة:
ثقافة حضارة
عمل فكري
عمل مادي
يوم راحة
يوم عمل
وقت الفراغ
عمل
ميدان الحرية
ميدان الضرورة
فكر
طبيعة
تفكير غير عملياتي
تفكير عملياتي
لقد وجدت هذه التفرعات لدى الجامعيين ما يعادلها في التمييز بين العلوم الطبيعية وجميع العلوم الأخرى كالعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، الخ.: إن علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية وحتى العلوم الإنسانية تتقارب في مناهجها ومفاهيمها. ويُسهل هذا التقارب انتشار التجريبية الوضعية، والصراع ضد كل ما يدعى "ميتافريزقية"، وتطبيق " النظرية الخالصة" تطبيقاً مباشراً، وقبول جميع الأنظمة ترتيباً يتفق مع المصالح القومية والنقابية. ويتفق هذا التغيير في التربية مع التغيرات البنيوية التي طرأت على المجتمع الحالي والتي تطرح مشكلة التفرع الثنائي المذكور آنفاً: إن الحضارة التقنية تميل إلى إلغاء أهداف الثقافة المغايرة (للأهداف الاجتماعية القائمة) وأيضاً إلى إلغاء العوامل أو العناصر الثقافية التي تبدو معاكسة لأشكال الحضارة القائمة أو غريبة عنها. ولا تدعو الحاجة هنا إلى تكرار النظرية القائلة بأن دمج العمل مع الراحة، والزهد مع التسلية، والفن مع تدبير المنزل، وعلم النفس مع إدارة المشاريع، يغير عمل هذه العناصر التقليدي: فهي بذلك تتخذ قيمة "إيجابية" (إثباتية)، أي أنها تساعد على تدعيم نفوذ العالم القائم على الفكر (هذا العالم القائم نفسه الذي جعل منافع الثقافة سهلة المنال بالنسبة للإنسان)، كما أنها تساهم في تعزيز موقف ما هو كائن بالنسبة إلى ما يمكن أو يجب أن يكون. وهذه القضية ليست إدانة: إذ ان احتمالات أوسع للوصول إلى الثقافة التقليدية وخاصة إلى أعمالها الأصلية أفضل من التمسك بامتيازات ثقافية تنعم بها دائرة مغلقة مبنية على الغنى والمحتد. ولكن لكي نحفظ القيمة المعرفية لهذه الأعمال لا بد من موهبة ذكاء ووعي فكري لا يرتبطان بصيغ التفكير والسلوك التي تستوجبها حضارة البلدان الصناعية المتقدمة.
إن تقدم الحضارة في شكلها الحالي ونزعاتها، تتطلب وسائل في التفكير عملياتية أو إجرائية (operationalistic) تحول إلى سلوك معين. وهذه الوسائل قادرة على تقبل العقلية المنتجة للأنظمة الاجتماعية القائمة، وعلى الدفاع عنها وتحسينها. ولكنها غير قادرة على دحضها. بيد ان مضمون هذه الثقافة العليا (الذي غالباً ما كان متستراً) يكمن في معظمه في هذا الدحض: فهي كانت تدين التخريب المؤسسي للقدرات البشرية كما كانت مسؤولة عن المحافظة على أمل تعده الحضارة القائمة طوباوياً وترفضه. صحيح ان الثقافة كانت دائماً في أشكالها العليا ذات طابع تأكيدي، نظراً لأنها كانت بعيدة عن ميدان العناء والبؤس اللذين تكبدهما أولئك الذين كانوا يخلقون المجتمع بعلمهم والذين كانت الثقافة ثقافتهم والذين أصبحت الثقافة بهم أيديولوجيا المجتمع. ولكنها كانت منفصلة عن المجتمع لكونها أيديولوجيا. وهذا الانفصال كان يعطيها الحرية في المعارضة والاتهام والرفض. انّ وسائل الاتصال اليوم كثيرة تقنياً وسهلة جداً، وهي غاية في الغزارة، ولكن مضمونها قد تغيّر.
سأحاول الآن، فيما يخص استبعاد مضمون الثقافة الذي كان معارضاً في الماضي، ان أبرهن ان الأمر لا يتعلق بمثل أعلى رومانطيقي (أيا كان) وقع ضحية التقدم، ولا بدمرقطة الثقافة المتزايد، ولا بتعادل الطبقات الاجتماعية، بل على الأغلب بإغلاق الفسحة الحيوية أمام نمو الاستقلال والمعارضة. ولا أستطيع هنا أيضاً إلا أن ارسم الخطوط الكبرى لهذه المسألة، وسأبدأ بالوضع في الميدان الجامعي.
إن التقسيم بين علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية (أو علوم السلوك) والعلوم الإنسانية يبدو سطحياً جداً، خصوصاً أن التفريق بين مواضيعها، وفي أضعف الإيمان بين مواضيع العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، مشكوك في أمره إلى أبعد حد. والمشاكل الجامعية في هذا الميدان ليست إلا مرآة تعكس هذا الوضع العام. فهناك في الواقع تقسيم في المادة بين العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، أو بالأحرى بينها وبين ما كان يجب أن تكون عليه العلوم الإنسانية في السابق: أعني بذلك معرفة ظواهر الطبيعة البشرية (humanities) التي لم تترجم بعد في الواقع. والمقصود بذلك خاصة طرق التفكير والتمثيل والتعبير المفارقة (transcendence) غير العملياتية (non operationalistic). فهل يتطلب تحليل المجتمع والتصرفات الاجتماعية، وحتى الفردية منها، في عصرنا هذا ان نتجاهل الطبيعة البشرية؟ وهل يستبعد وضعنا الثقافي ومجموع تصرفاتنا الاجتماعية علوم الطبيعة وهل تغض من شأنها؟ هل تبعدها إلى مستوى العلوم "التي لا تتعلق بالسلوك"، والتي تكون بذلك "غير علمية"، والتي تخص القيم الشخصية والعاطفية والميتافيزيقية والشعرية، والتي لا تصبح "علمية" إلا إذا دونت بكلمات علمانية؟ ولكن العلوم الإنسانية إذا قامت بمثل هذا العمل تتخلى عن ماهيتها وتترك الحقائق غير العلمانية لتتعلق بالقواعد التي تسوس المجتمع القائم. ذلك لأن المقاييس التي تستعملها علوم السلوك هي ذاتها مقاييس المجتمع الذي ترتبط هذه العلوم بدراسة سلوكه.
ولكي أتجنب أي تفسير رومانطيقي خاطئ، أود أن أكرر أن الثقافة كانت دائماً امتيازاً لأقلية صغيرة كما كانت قضية ثروة ووقت وحظ. أما الكتلة الشعبية المحرومة، فقد كانت "القيم العليا" بالنسبة لها دائماً كلمات فارغة أو مواعظ أو أوهاماً مجردة من المعنى، وكانت في أحسن الحالات أمالاً وأمنيات لم تتحقق. ووضع الثقافة المميز جعل من الحفرة التي تفصل بين الحضارة المادية والثقافة الفكرية، وبين الحرية والحاجة، سبباً لإبقاء الثقافة غير العلمية تحت شعار "الميدان الخاص" (reserve domain). لقد كان بمقدور الأدب والفن ان يصلا في هذا الميدان إلى قيم كانت في الحقيقية مرفوضة أو مكبوتة أو محولة إلى مفاهيم ومقاييس تفيد المجتمع. وكان بمقدورهما أن ينقلا هذه القيم كذلك. من هنا استطاعت الفلسفة، الدين، ان تعبر عن ضرورات أخلاقية عالمية غالباً ما كانت تتناقض بوضوح مع أخلاق المجتمع السائدة. من وجهة النظر هذه نستطيع القول إن الثقافة غير العلمية كانت أقل تسامياً من الشكل الذي أخذته في ترجمتها إلى قيم وتصرفات اجتماعية واقعية. وكانت بالتأكيد أقل تسامياً من الأدب الذي لم يكبته عصرنا. ذلك لأن أسلوب هذه الثقافة العليا الموزون والمصقول كان يعبر سلباً عن حاجات الإنسان وآماله غير المشروطة والتي يجسدها الأدب المعاصر مثلما تتحقق في المجتمع، أي مشبعة بأشكال القمع القائمة.
هذه الثقافة العليا ما زالت موجودة. وهي يسيرة المنال اكثر من أي وقت مضى. وهي الآن يقرأها الناس أو يرونها أو يستمعون إليها اكثر بكثير من السابق. ولكن المجتمع أغلق منذ وقت طويل الميادين الفكرية التي تستطيع هذه الثقافة ان تفهم فيها ضمن محتواها الإدراكي الخاص وحقيقتها الأصلية. ان الميول العملياتية في التفكير والسلوك تُبعد هذه الحقائق إلى دائرة الشخصية والذاتية والانفعالية. وهي في هذه الحالة تستطيع ان تتوافق بسهولة مع العلم القائم: فجانب الثقافة المتعالي والنقدي والنوعي يُلغى، في حين يُدمج الجانب السلبي بالإيجابي. وهكذا تفرغ عناصر الثقافة المعارضة: تأخذ الحضارة الثقافة على عاتقها، فتنظمها وتشتريها وتبيعها؛ وتحول الأفكار غير العملياتية أو المرتبطة بالسلوك إلى أفكارا عملياتية تتبع السلوك. وليس هذا التحول عملاً منهجياً وانما تراتب اجتماعي. ونستطيع التعبير عن فعل هذا التراتب الأساسي بالصيغة التالية: إن دمج قيم الثقافة بالمجتمع القائم يلغي انتماء الحضارة إلى الثقافة ويقلل بذلك من التوتر القائم بين "الواجب" و"الكينونة" (وهو توتر تاريخي واقعي)، وبين الممكن والحاصل، والمستقبل والحاضر، والحرية والضرورة.
وينتج عن ذلك ان مضامين الثقافة المستقلة والنقدية تتحول إلى غايات تربوية بناءة ضمن عناصر الانفراج، وتصبح بذلك وسيلة هذا التكيف.
كل عمل أصيل في الأدب والفن والموسيقى والفلسفة يتكلم لغةً شاملة، تنقل أفعالاً وظروفاً تختلف عن تلك التي تنقلها اللغة المبنية على السلوك؛ وهذا ما يفسر وحدة مادتها واستحالة ترجمتها. بيد أن هذه المادة التي تستحيل ترجمتها أصبحت على ما يبدو في طريقها نحو الزوال. إذ أنها تضيع الآن عبر عملية انتقال وتبديل لا تتعرض "للفوبشري" (superhuman) ولا للفوطبيعي (supernatural) (الدين) فحسب، بل لمضامين الثقافة البشرية والطبيعية كذلك (الأدب، الفن، الفلسفة): ذاك ان الصراع العنيف الشديد بين الحب والكراهية، والأمل والخوف، والحرية والحاجة، والسبب والمسبب، والخير والشر، يصبح الآن صراعاً واضحاً وطبيعياً واكثر مرونة، أي أكثر ملاءمة للسلوك.
وليس الأبطال والآلهة والملوك والفرسان، الذين يبكّون عالمهم من عالم المأساة والرواية والأغاني والأعياد، ليسوا وحدهم الذين اختفوا، بل اختفى أيضاً العديدُ من الألغاز التي لم يستطيعوا حلّها، والمعارك الكثيرة التي خاضوها والقوى المتعددة والأهوال التي خضعوا لها. إن نسبة متزايدة من القوى التي لم تقهر (ولا تقهر) تحدّ منها الآن العقلانية التقنية والعلوم الطبيعية والاجتماعية. وأن عدداً كبيراً من المسائل النموذجية أصبحت اليوم تابعة لميدان تشخيص علماء النفس والاجتماع والسياسة وفي متناول علاجاتهم. وإذا كان تشخيص هذه المسائل وعلاجها سيئين، وإذا كان مضمونها الذي ما يزال يحتفظ بصلاحيته مشوهاً أو محجماً أو مقموعاً، فإن ذلك لا يمنع إمكانية حصول هذا التطور الجذري. وبكلمة مختصرة نستطيع القول ان البشرية وصلت إلى مرحلة تستطيع فيها تقنياً أن تبين عالم السلام، عالماً يخلو من الاستغلال والبؤس والخوف. وعندئذ لا بد أن تصبح الحضارةُ ثقافةً.
إن تفكك مادة الثقافة العليا المفارقة على يد التقنية الحديثة سلب منها وسائل التعبير والاتصال الملائمة، وأدى إلى زوال الأشكال الأدبية والفنية التقليدية، وإلى تعريف جديد وعملياتي للفلسفة وإلى تحول الدين إلى رمز تشريعي. وقد وجدت الثقافة في الوضع القائم تعريفاً جديداً لها: إن كلمات الأعمال (الأدبية) التي صمدت، وأصواتها وألوانها وأشكالها بقيت كما هي ولكن معانيها فقدت من جوهرها وصلاحيتها. فالأعمال التي كان تعارضها مع الوضع القائم يثير فضيحة في الماضي أفقدها تأثيرها اتخاذها شكلاً تقليدياً. ولم تحتفظ بطابعها الغريب عن المجتمع لوقت طويل. فالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع تسيطر فيها تجريبية مزيفة تردّ مفاهيمها ومناهجها إلى تجربة الإنسان المحدودة والمقموعة في عالم مشوش، وتنتقص من المفاهيم التي لا تقتفي السلوك وتردها إلى مستوى البلبلة الميتافيزيقية. وهكذا فإن أفكاراً مثل الحرية والمساواة والعدل والفردية كانت قيمتها التاريخية، طيلة الوقت الذي لم تزل فيه مضموناً غير محقق، تكمن في كونها لا تستطيع ان تتناسب مع الواقع القائم. وهذا الواقع لم يكن قادراً على تأييدها لأنها كانت تتنافى مع عمل المؤسسات المنوط بها تحقيقها.
وكانت هذه الأفكار نموذجية غير عملياتية، لا لأنها ذات طابع ميتافيزيقي وغير علمي فحسب، وإنما لأن المجتمع كان مؤسساً على العبودية وعدم المساواة والظلم والتسلط. وتميل وسائل التفكير والبحث المعمول بها في الثقافة الصناعية المتقدمة إلى مطابقة المفاهيم النموذجية وتحقيقها الفعلي في المجتمع؛ أو هي تأخذ قاعدتها من الطريقة التي تتحقق فيها هذه المفاهيم في الواقع. وهي كذلك تكتفي في أفضل الحالات بتحسين هذه المطابقة. أما ما لا يمكن مطابقته (نقله إلى الواقع) فإنها تعده ضرباً من النظريات البالية.
إن التناقض واضح بين الأصل والنقل، وهو جزء من تجربتنا اليومية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الصراع بين الممكن والواقع يصبح اكثر حدة مع التقدم الصناعي ومع إمكانيات المجتمع المطردة في التغلب على التفاوت والخوف والأعمال القاسية. ولكن هذا التقدم نفسه وتطبيقاته تضع حاجزاً أمام فهم أسباب هذا الصراع وفرص حله (فرص تهدئة الصراع من أجل الحياة)، أكان هذا الصراع فردياً أم اجتماعياً، ضمن إطار الأمة أم على الصعيد العالمي. ففي ميادين الثقافة الأكثر تطوراً، يضاعف الإنتاج الفائض للنظام القائم رغبات الشعب ويشبعها بواسطة إدارة شاملة تسهر على جعل حاجات الأفراد حاجات تقوي النظام وتديمه. إن الأسس المعقولة لتغيير نوعي تتلاشى فتتلاشى معها الأسس المعقولة لبناء حضارة قد تصبح ثقافة.
إذا كان تبدل العلاقة بين الثقافة والحضارة نتاج المجتمع التقني الجديد، وإذا كان بقاء هذه العلاقة متعلقاً دوماً بهذا الأخير، فإن تعريفاً ثانياً وجديداً (للثقافة)، مهما كانت طريقة معالجته، يبقى أكاديمياً لأنه سيذهب في اتجاه معاكس للنزعات المسيطرة. ولكن، هنا أيضا يمكن لُبعد الجهود النظرية ونقائها وضعفها الجلي أمام الواقع أن تتحول إلى مصدر قوى إذا لم تتخل عن تجريدها بالخضوع إلى الوضعية والتجريبية المخادعة. ذلك لأن هاتين الطريقتين في التفكير ترتكزان على تجربة ليست في الواقع الا قطاعاً هزيلاً من التجربة عُزل عن العوامل والقوى التي تحددها. إن اندماج الثقافة الإداري في الحضارة هو نتيجة الاتجاه المعاصر للتطور العلمي والتقني، وهو نتيجة خضوع الإنسان والطبيعة المطرد لقوى تنظم هذا الخضوع وتستغل ارتفاع مستوى المعيشة لأجل ترسيخ نمطها في الصراع من أجل الحياة ولأجل تخليده.
وتتجلى فعالية هذا النظام اليوم في تعبئة الرجال بشكل دائم لاحتمال وقوع حرب نووية وفي تعبئة النفوس بالعداء والكراهية التي تغدو ضرورة اجتماعية ضمن أشكال الحقد الذي يولده الصراع من أجل البقاء في "حضارة الرخاء". هذا هو العالم الذي يحدد التجربة في ميادين الحضارة الصناعية الأكثر تقدماً والذي يحدها بحجب البدائل الحقيقية وغير الطوباوية. هناك البدائل النوعية، لان تهدئة النزاع من أجل الوجود وإعادة تعريف العمل كتحقيق حر لحاجات الإنسان وقدراته، لا تستلزمان وجود مؤسسات مختلفة جوهرياً فحسب، بل تتطلبان كذلك رجالاً تغيروا تغيراً جذرياً، رجالاً ليسوا ملزمين بعمل مستلب لكسب قوتهم. في شروط كهذه، يعني تحول اتجاه التقدم الموجود تبدلاً أساسياً في المجتمع. ولكن لكي يتحقق التبدل الاجتماعي يفترض ان توجد حاجة حيوية له وان يمر الإنسان في تجربة الحلول الأخرى والظروف التي لا تطاق. وهذه الحاجة وهذه التجربة هما بالضبط ما يمنع نمو الثقافة. وليكون بمقدورهما التحرر لا بد من إعادة بناء البعد الثقافي الضائع، هذا البعد الذي كانت سلطة المجتمع الشمولية تحافظ عليه من قبل: ذلك لأنه كان يكون البعد الفكري للاستقلال.
إن التربية وفق أساس الاستقلال الفكري والفردي تبدو هدفاً معترفاً به عالمياً. والأمر هنا يتعلق في الواقع بمنهاج مخرب يتضمن انتهاكاً لبعض أقوى المسلمات الديمقراطية "المقدسة". ذلك لأن الثقافة الديمقراطية المعمول بها تشجع التبعية تحت غطاء الاستقلالية، وتعرقل تفتح الرغبات (والحاجات) متظاهرة بتشجيعها، وتقّيد الفكر والتجربة بحجة توسيعهما ونشرهما إلى ما لا نهاية. إن معظم الناس ينعمون بحرية التصرف عندما يتعلق الأمر بالبيع والشراء، بالبحث عن عمل أو اختيار عمل آخر. وهم أحرار في تحركاتهم ويستطيعون ان يعبروا عن آرائهم. ولكن أراءهم لا تذهب في أية لحظة إلى أبعد من النظام الاجتماعي القائم الذي يحدد لهم حاجاتهم واختياراتهم ومواقعهم. إن الحرية نفسها تعمل هنا كوسيلة حصر وتصويب. وتلازم هذه الميول القمعية (والرجعية) تحّول المجتمع الصناعي إلى مجتمع تقني، وذلك تحت شعار المسؤولية الكاملة عن الإنسان. وتصيب هذه التحولات المتلازمة في طريقة العمل وذهنية الشعب وعمله السياسي، أسس الديمقراطية إصابة بالغة. وسنكتفي هنا بسرد بعض الظواهر المعروفة.
لابد بادئ الأمر من ملاحظة سلبية الناس المتزايدة أمام الجهاز السياسي والاقتصادي الموجود في كل مكان، وخضوعهم لإنتاجه الغزير و "لفوقيته"، ووجود حاجز بين الأفراد وينابيع السلطة والإعلام التي تحول الناس إلى أشياء مشوشة. إن حاجات المجتمع القائم تتحول إلى حاجات فردية ويصبح السلوك والرغبات التي فرضها المجتمع تلقائية. ولا تتطلب هذه المعادلة العامة في مراحل التطور الأكثر تقدماً أي لجوء إلى الإرهاب أو إلى إلغاء قواعد اللعبة الديمقراطية.
على العكس من ذلك، فإن الرؤساء المنتخبين يخضعون شيئاً فشيئاً إلى ناخبيهم الذين يمثلون رأياً عاماً مكوناً بدوره من المصالح السياسية والاقتصادية الغالبة. وسلطتهم كما يبدو هي سلطة العقلانية الإنتاجية والتقنية. والناس يقبلون بها ويدافعون عنها لأنها كذلك، فيجعلون منها قضيتهم المشتركة. وينتج عن ذلك ولادة روابط عامة ومتبادلة من التبعية تحجب الطبقية الحقيقية. وهكذا نرى ان التبعية المتعددة الجوانب مقبولة تحت ستار العقلانية التقنية وعبر أشكال الحريات والتسهيلات التي يقدمها "مجتمع الرخاء". إن خلق (أو إعادة خلق) ملجأ للاستقلالية الفكرية في مثل هذه الظروف لا يمكن إلا أن يأخذ شكل تراجع وعزلة واعية وأن يؤدي إلى ولادة "نخبة مفكرة". وغني عن البيان أن عملية إعادة تعريف الثقافة في حالة حصولها تسير ضد ميول معروفة جيداً. وهي تحرر الفكر والبحث والتعليم والدراسة من مجموعة القيم والتصرفات الموجودة؛ كما أنها تكون مناهج ومفاهيم قادرة على ان تتخطى عقلانياً إطار القيم والأعمال القائمة. وهذا يعني بالنسبة للعلوم الجامعية انتقال محور أعمالها إلى النظرية "الصرفة"، أي في اتجاه العلوم الاجتماعية، والعلوم السياسية، وعلم النفس والفلسفة النظرية، الخ، وكلها علوم تجريدية. وتكون النتائج أكبر في مجال تنظيم التربية: فهذا الانتقال يتسبب في خلق جامعات "للنخبة". ويكون أحد شروط إنشائها الأولى الاستقلال المالي: فالقضية اليوم قبل كل شيء قضية الدعم المادي ومصادره.
فأي مشجع للعلوم لا يستطيع بمفرده وبشكل شخصي ان يمول تربية يُقدَّر لها ان تهيئ ولادة سلم من القيم والقوى مختلفة نوعياً. ولا تستطيع تربية كهذه إلا أن تكون ربيبة حكومة تنوي (وتقدر) أن تواجه بها التيار السياسي القائم. ويكفي ان نصوغ هذا الشرط حتى نتبين مدى طوباويته.
ثم إن فكرة وجود جامعة مخصصة للنخبة المثقفة مرفوضة اليوم لكونها ضد الديمقراطية، على الرغم من أن ما يشدد عليه هو صفة "المثقفة"، وأن مفهوم "النخبة" يعني ان مجموعة من طلاب المدارس والمعاهد يجري انتقاؤها وفق مقياس الجدارة، أي وفق ميلهم للتفكير التجريدي واستعدادهم له. هذه الفكرة هي في الواقع ضد الديمقراطية، في حال اعتبرنا ان ديمقراطية الشعب، بما فيها نظامها التربوي، هي في توافقها مع أشكال الحرية والمساواة الممكنة تاريخياً. ولا اعتقد أن هذا ينطبق على حالتنا. فالفكر السلوكي والموضوعي السائد حالياً لا يعمل في الغالب إلا لينتزع من الفكر البشري جذور الاستقلال الذاتي، هذا الاستقلال الذي يعني اليوم (كما في السابق) وجود بعد نقدي بين الفرد وعالم التجربة القائم. ويفقد الطالب بفقدان ان نقد التجربة هذا، الوسائل والأدوات الفكرية التي تسمح له بفهم مجتمعه وثقافته من خلال الاستمرارية التاريخية التي يحقق فيها هذا المجتمع، أو يشوه أو يرفض، إمكاناته الخاصة ومستقبله.
إن الاحتجاج ضد السلوكية الخانقة يوجد بشكل غير عقلاني في المدارس الفلسفية العديدة كالوجودية والماوراء نفسية واللاهوتية الجديدة. وكلها تعارض الميول الموضوعية. ولكن معارضتها مشكوك في أمرها ووهمية. فهي تساهم بدورها في انحلال الفكر الناقد.
فمفاهيم الفكر الناقد هي في الوقت ذاته فلسفية واجتماعية وتاريخية. وهي بفضل هذا التفاعل ونظراً لسيطرتها المتزايدة على الطبيعة والمجتمع، تكون حوافز الثقافة الفكرية: فهي تقدم إمكانية فكرية قد تستطيع أن تصل إلى خلق مشاريع تاريخية جديدة واحتمالات جديدة للحياة. هذا البعد النظري للفكر يحطم اليوم بشكل منظم. وإذا كنا نشدد هنا على عودة هذا البعد وتوسيعه فلأن ثقافتنا ولدت وتحددت حتى في ظواهرها الأكثر عملية مع العلم والفلسفة والأدب، وذلك قبل ان تصل إلى نضوجها وتصبح واقعاً منظماً.
إن إعادة تنظيم الثقافة التي تكلمت عنها في الصفحات السابقة تنال من موقف العلم أيضاً. وأنا استعمل قصداً عبارة "تنظيم" البشعة في هذا السياق لأن الثقافة أصبحت موضوع تنظيم. وما انتزاع الثقافة من الإدارة القائمة إلا إعادة لتنظيمها وإخلالاً به. يجب الا يقيم دورُ العلم في الثقافة القائمة بناءً على الحقائق العلمية وحدها (من غير المعقول إنكارها أو الإنقاص من قيمتها)، ولكن بالاستناد إلى تأثيرها على وضع الإنسان كذلك. فالعلم مسؤول عن تطور الإنسان: ولا تقع المسؤولية الأخلاقية والفردية على العالم بحد ذاته، ولكن على عمل المنهج وعلى المفاهيم العلمية نفسها. ويجب ان لا يُفرض على العلم أية غائبة (teleology) ولا أي هدف غريب عنه: فالعلم له أهدافه التاريخية المتأصلة فيه التي لا يمكن لأية "علموية" (scientism) أو حيادية أن تحل محلها.
والعلم هو نشاط فكري، وهو قبل أي تطبيق عملي وسيلة للصراع من أجل الحياة، صراع الإنسان مع الطبيعة وصراع الإنسان مع بني الإنسان. ونظرياته الكبرى ونماذجه وتجريداته هي وليدة هذا الصراع. فهي تسبق أو تحفظ أو تبدل ظروف هذه المعركة. ومن الممكن القبول بأن هدف العلم الحقيقي هو تحسين هذه الظروف، ولكن في هذه الحال يكّون العلم نفسه والحقيقة قيماً. وقد سلمنا بهذه القمعية عندما تكلمنا على "الحضارة"- التي اعتبرناها تطبيقاً تراتبياً لها ومرهقاً. وقد لعبت هذه القيمة دوراً أساسياً في العلاقة بين العلم والمجتمع وزادت إمكانيات العلم المادية في الصراع من أجل الحياة. فنظرية غاليليو الداعية إلى مفهوم للطبيعة تجهل الأهداف الموضوعية، والى انتقال البحث العلمي من "اللماذا" إلى "الكيف". ومن النوعية إلى الكمية، واستبعاد أي ذاتية لا تحدد من العلم، هذا المنهج كان الشرط الأساسي لأي شكل من أشكال التقدم المادي والتقني المعروف منذ القرون الوسطى. به نشأت مفاهيم الإنسان والطبيعة العقلانية وهو الذي ساهم في خلق الظروف الملائمة لولادة مجتمع عقلاني، وساعد في الوقت ذاته على تطور وسائل التدمير والسيطرة (العقلانية)، أي الوسائل التي تمنع البشرية من تحقيق ذاتها. إذ ان التدمير كان منذ البدء مواكباً للبناء، وكانت الإنتاجية مرتبطة باستعمالها لغايات قمعية، وكان السكون (أي عدم الإنتاجية يعتبر عدواناً).
وليست مسؤولية العلم المزدوجة هذه وليدة الصدفة: فالعلم في شكله المحدد والطبيعة في كمياتها المحسوبة (أي كعالَم رياضيMathematical Universe ) هما "محايدان" مستعدان لتقبل جميع الاستعمالات والتحويلات. وليسا محدودين إلا بحدود المعرفة العلمية ومقاومة المادة الخام. ويمكن للعلم من جراء هذا الحياد أن يُستعمل لخدمة غايات المجتمع وأن ينمو في كنفه.
وهذا المجتمع يصل إلى إخضاع الطبيعة من خلال إخضاع البشر، والى استثمار المصادر الطبيعية والفكرية من خلال استثمار الإنسان، كل هذا يتم في أشكال عدوانية وقمعية على جميع الأصعدة الفردية والوطنية والعالمية. ولكن العلم نفسه وصل إلى مرحلة من المعرفة والإنتاجية تضعه في موضع التناقض مع هذه الحالة: فالعقلانية العلمية "الصرفة" تدرك إمكانية محو العوز والظلم من العالم اجمع إدراكاً واقعياً. ولا يعني هذا العودة بالعلم إلى الوراء أو تحجيم دوره، بل تحريره من الأسياد الذين ساهم هو نفسه في تنصيبهم. وليس هذا التحرير حدثاً خارجياً لا يمس هيكلية المؤسسة الصناعية: فهو يتعلق بالمنهجية العلمية نفسها وبتجربة الطبيعة وإسقاطها العلميين. وللعلم وظيفة جديدة في المجتمع العقلاني والإنساني، وهي وظيفة قد تدعو إلى إعادة تنظيم المنهجية العلمية، ليس بالعودة إلى فلسفة الطبيعة النوعية (أي فلسفة ما قبل غاليليو)، بل بتحديد الأهداف الجديدة تحديداً علمياً، ينجم عن تجربة جديدة للإنسان والطبيعة. وهذه الأهداف تتوافق مع سلام البشرية العام.
ولكن لا بد من التساؤل عما إذا كان العلم قد فقد في "مجتمعات الرخاء" مقدرته على التحرير، وإذا كان في بحثه عن التدمير والتضليل قد عزَّز الصراع من أجل الحياة بدلاً من تلطيفه. ويصبح بذلك التمييز بين العلم والتقنية مشكلة. فإذا كانت اكتشافات الرياضيات الأكثر تجريدية واكتشافات الفيزياء النظرية تلبي حاجات شركة الـ (IBM) ولجنة الطاقة النووية (الأمريكية)، فإن الوقت قد حان للتفكير في أن احتمال وقوع هذا الاستعمال مرتبط بمفهوم العلم بحد ذاته. نحن لا نفر من هذا الواقع إذا فصلنا بين العلم الصرف وتطبيقاته واتهمنا هذه الأخيرة فقط: ذلك لأن "صفاء" العلم بحد ذاته هو الذي سهًّل دمج البناء والتدمير، الإنسانية والبربرية، كلما تطورت سيطرة الإنسان على الطبيعة. ومن المستحيل على أي حال وضع ميول العلم الهدامة مع ميوله البناءة كما يستحيل، ضمن ميدان البحث العلمي العام، التمييز بين القطاعات والمناهج والمفاهيم التي تتلاءم والحياة، والأخرى التي تؤدي إلى دمارها. فكلها تبدو متماسكة بروابط داخلية متينة. وقد خلق العلم ثقافته الخاصة، هذه الثقافة التي تستوعب جزءاً كبيراً من الخطوة. ومفهوم "الثقافتين" الذي يتكلم عنه سنو (G. P. Snow)هو مخادع ولكن محاولة الدفاع عن الظروف الحالية لتوحيدها خطأ أكثر فداحة.
إن للثقافة غير العلمية (وسأكتفي بوجهها الأدبي) لغتها الخاصة التي تختلف عن لغة العلم اختلافاً جوهرياً، فلغة الأدب هي لغة أخرى (متفوقة، مجاوزة) لا تنتمي إلى عالم الكلام الذي يدل على الأشياء الموجودة دلالة مباشرة. فهي تدلنا على "عالم آخر" يخضع لمقاييس أخرى ولقيم أخرى ولمبادئ أخرى. وهذا العالم الآخر يظهر في العالم القائم ويدخل في الاهتمامات اليومية وفي التجربة مع أنفسنا ومع غيرنا وفي المحيط الاجتماعي والطبيعي. ومهما يكن الأمر فإن الفارق بين هذين العالمين، يجعل من الأدب عالماً مختلفاً تماماً: وهذا الفارق يكمن في كونه نفياً للحقيقة القائمة. ولما كان العلم قد أصبح جزءاً لا يتجزأ من هذه الحقيقة، بل بالأحرى أجد عناصرها المحركة، فإن الأدب هو نفي للعلم كذلك.
ولا يوجد في الأدب الغربي الأصيل ما يقربه من الواقع العلمي حتى ولا في أعمال اميل زولا، فمجتمع الإمبراطورية الثانية الذي يقدمه هذا الروائي هو في الحقيقة نفي لواقع هذا المجتمع.
إن الهوة التي تفصل اليوم بين الثقافة العلمية والثقافة غير العلمية يمكن أن تحمل نتائج جسيمة. فحياد العلم الصرف اضر به وجعله عاجزاً عن رفض التعاون من أصحاب نظريات التدمير والاستغلال الرسميين ومع الذين ينفذونها. وقد يحمي انكماشُ الثقافة غير العلمية على نفسها الملاذ الأخير الذي تلجأ إليه حقائق وصور منسية أو مكبوتة. وإذا كان المجتمع اليوم يتقدم (بوسائل علمية) نحو تعادل وإدارة كاملين، فإن استلاب الثقافة غير العلمية يصبح الشرط الأول لأي معارضة ولأي رفض. فإذا اطلع شاعر أو كاتب أو فقيه على النظرية الثابتة في الديناميكا الحرارية (thermodynamics) أو على قوانين انكسار الأشعة فهذا يتعلق بهم ولا يمكن أن يلحق بهم الضرر.
ولكن هذا لن ينفعهم البتة فيما يريدون قوله. فالطبيعة، كما يراها أساتذة العلوم الكمّوية (quantified sciences)، ليست هي الطبيعة بحد ذاتها (بوجه شامل) و"بناء العالم المحسوس بناء علمياً" ليس "في عمقه الفكري وتعقيده وهندسته عمل الإنسان الفكري المشترك الذي لا يضاهي جمالاً وروعةً".
ويبدو لي أن ميادين الأدب والفن والموسيقى هي إلى حد كبير اكثر جمالاً وروعة. ولا أظن أن القضية تتعلق بالذوق فقط. فعالم الثقافة غير العلمية هو عالم ذو أبعاد متعددة يتتبع فيها كل موضوعية الإنسان الفرد. إن التواضع العلمي يخبئ غالباً استبدادية مثيرة للقلق وميلاً إلى إبعاد أي طريقة غير علمية في التفكير العقلاني إلى ميدان الشعر والخيال.
وإذا كنت قد رجعت إلى ذكر "الثقافتين" فلأن الأساس فيه على ما يبدو لي ليس سوى حض على الامتثالية (conformist) تحت ظاهر العقلانية العملية. ومن الممكن ان يكون توحيد الثقافة العلمية والثقافة غير العلمية أو إعادة توحيدهما شرطاً أولاً لكي يتفوق على نفسه المجتمع المجند كلنا من أجل الدفاع أو القمع الدائمين، ولكن تقدماً كهذا لا يمكن أن يحصل إلا في إطار ثقافة الدفاع والقمع القائمة فعلاً، والتي يدعمها العلم بطريقة فعالة. ولكي يحصل هذا التقدم لا بد من أن يتحرر العلم من جدلية السيد والعبد التي تحول استعباد الطبيعة إلى وسيلة استغلال وتخلد الاستغلال في أشكال "عليا". إن الثقافة تحافظ أمام تحرير العلم هذا على فكرة الأهداف التي لا يستطيع العلم وحده ان يعرفها، أعني بخاصة هدف الأنسنة، ومن الواضح ان توجيه العلم وجهة جديدة يتطلب تبدلات اجتماعية وسياسية، أي بناء مجتمع مختلف كلياً، يستطيع في سبيل بقائه ان يتخلى عن بعض المؤسسات مثل الدفاع (عدوانياً كان أم قمعياً). ولا يمكن أن يكون إعداد مثل هذا التغيير في إطار المؤسسات الموجودة إلا سلبياً، اعني بذلك التخفيف من القهر (الإكراه - الإلزام) الهائل الذي يمارس على وسائل التفكير غير الامتثالية والنقدية والمفارقة حتى يمكن مقاومة احتكار ما يسمى بالتجريبية السلوكية.
وإذا كان كانط (Kant) محقاً في قوله إن التربية يجب ألا توضع في سبيل المجتمع الحاضر وإنما في سبيل مجتمع أفضل، فإن أحد مستلزمات التربية (وربما أهمها) سيتكون من تغيير مكانة العلم في الجامعات وفي ميدان "البحث والتنمية" بكامله. إن الدعم المادي الكريم الذي تنعم به اليوم علوم الطبيعة لا يهدف فقط إلى تشجيع البحث والتنمية لما فيه فائدة البشر، بل هو يخدم كذلك غايات مناقضة. وبما أن هذا المزيج من العناصر المتناقضة لا يمكن ان يحد منه في نطاق النظام الاجتماعي القائم، فإنه من الممكن أن نحصل على تقدم محدود في ممارسة سياسة تميز بين الدعم والأولويات. غير أن سياسة كهذه تفترض وجود حكومات ومؤسسات مستعدة (وتملك ما يكفي من قوة) للحد بشكل صارم من القطاع العسكري. وهذا افتراض لا ينعم بكثير من الواقعية. ويمكن التفكير بإنشاء ميدان جامعي مستقل، يجري فيه البحث العلمي بشكل منفصل عن الغايات العسكرية، ويُعهد بتنظيم نتائجه والسهر على سيرها ونشرها إلى مجموعة من العلماء تشغلهم فكرة الأنسنة. ويوجد كثير من الجامعات والمعاهد التي ترفض قبول بحث ترعاه الدولة ويتعلق ببرامج عسكرية، فمن الممكن أيضا أن تشجع، ليس فقط المؤسسات التي تبدي مثل هذا التحفظ، بل تلك التي تساعد بنشاطِ نشر لملفات حول استعمال العلم استعمالاً تعسفياً يخدم أهدافاً غير إنسانية.
ترجمة: د. بسّام بركة
-------------------------------------------------
(1) مع ملاحظة التقيد بالمعنى الاصطلاحي لهذا اللفظ في التحليل النفسي. وهو لفظ يشير إلى حيلة دفاعية تفرغ بها الطاقات الغريزية في أشكال سلوكية من النشاطات غير الغريزية، بحيث تشتمل على عناصر اجتماعية. يعتبر مثلا حب المعرفة نوعا من التسامي بولع النظر والتطلع، حيث انه حب استطلاع ولكنه موجه نحو موضوع غير جنسي، ولذته غير جنسية.