|
في ذكرى رحيل الشاعرة الرائدة نازك الملائكة
ايناس البدران
الحوار المتمدن-العدد: 2318 - 2008 / 6 / 20 - 09:16
المحور:
الادب والفن
هي ماتت لفظة من دون معنى هي ماتت وخلا العالم منها صوت ماتت رن في كل مكان صوت ماتت داويا لا يضمحل يملاء الأرض صراخا ودويا ابيات من قصيدة للشاعرة نازك الملائكة بعنوان (الخيط المشدود الى شجرة السرو) كتبتها عام 1948 لعلها استبقت بها الزمن في رثاء نفسها . في غيابها نمسك ما تبقى من (عاشقة الليل) و (شظايا ورماد) في (قرار الموجة ) أو (فوق شجرة القمر ) ، فقبل عام من الآن وعلى وجه التحديد يوم الأربعاء التاسع عشر من حزيران رحلت عنا رائدة الشعر العربي الحر ، الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة ، ودفنت في القاهرة لتكون بذلك ثالث كبار المبدعين العراقيين بعد الجواهري والسياب الذين لم يضمهم ثرى العراق . وشاء القدر أن تفارق الشاعرة الحياة في اليوم العالمي للاجئين ربما لتكون شهقتها الأخيرة الصرخة التي تذكر العالم بمأساة عراقيي المنافي . ولدت نازك الملائكة في بغداد عام 1923 ونشأت في بيت علم وأدب لم تكن نازك شاعرة مبدعة مجددة تستبطن النص الشعري وتستنطقه وتعيش اجواءه وحسبق بل ناقدة متخصصة منطلقة في كتاباتها من واقع ابداعي . من كتبها النقدية " سيكولوجية الشعر " و " الصومعة والشرفة الحمراء " و " التجزيئية في المجتمع العربي " و " قضايا الشعر المعاصر " ولعل الاخير كما وصفه الباحثون والدارسون من اهم الكتب في العروض الشعري العربي بعد الخليل بن احمد الفراهيدي وابرز منجزاتها النقدية التي يمكن من خلاله عد الشاعرة حلقة مهمة في الدرس والبحث في حركة القصيدة العربية الحديثة وتطويرها . اذ نظرت الى قصيدة الشواعر ودافعت لترسيخها عبر دعوتها الى القافية المنوعة بدلا من القافية الموحدة لأحساسها ورؤيتها المفتوحة على مساحة طليقة تتناسب والحالة الشعورية والنفسية للشاعرة تحررا من محددات وقيود القافية الواحدة مؤكدة ذلك في كتابها " قضايا الشعر المعاصر " اذ تقول " ان دعوتنا الى العودة الى عالم العروض لاترمي الى تقييم الشعر وتقويمه وحسب ، وانما نقصد بها ان نجد للشعر الحر اصولا ارسخ تشده الى الشعر القديم ، واعاريضه " . فنازك شاعرة ليست كالجميع فهي تترجم صورا حقيقية عن الذات والواقع لتعلن ببراعة لاتضاهى عن الذات المنطوية التي تختزنها منذ الطفولة ، وتعبر عن الوحشة والاغتراب الذي تحس به الذات العراقية الاكبر .. لقد توقعت اعصارا من دم عاصف سيطفيء وان ثمة شظايا ورماد تتحدى ركود واقع مليء بالتناقضات الحادة . فلقد صنع الاحباط فيها ما صنع وكل من حولها اموات لم يدفنوا في مكان اسمته وادي العبيد الذي ترفضه وتعيش فيه ! فكل ما فيه جثث ترسف في الاغلال ازاء تماثيل لاتفارقها الأعين . لكنها برغم كل هذا لاتكف عنهم ابدا اذ تسمعهم نشيدها العذب وهم يغطون في نوم عميق .
لااريد العيش في وادي العبيد بين اموات وان لم يدفنوا جثث ترسف في اسر القيود وتماثيل احتوتها الاعين ابدا اسمعهم عذب نشيدي وهم نوم عميق محزن لايظنوا انهم قد سحقوه فهو مازال جمالا ونقاء سوف تمضي في التسابيح سنوه وهم في الشر فجرا ومساء
لم تر سليلة الملائكة نفسها الا كشاعرة ، ولم تطلب ما يرفعها الى هذا المقام الا الزهد في الحياة ، والترفع عن كل ما يتهافت عليه المتهافتون مكتفية بالقصيدة . لذا رحلت .. لأنها ادركت ان الحياة في المنفى ! او البلاد تظل غربة .. وبين هذا الاختيار لمعت القصيدة وتجددت الأسرار فالحياة تبدأ دائما حيث ينتهي الموت وكلما كان هناك شعر ودمع أ ليست هي القائلة في قصيدتها ( كبرياء ) " ومئات الاسرار تكمن في دمعة حزن تلوح في مقلتين " ضاقت نازك بالقيود الكلاسيكية المضروبة على القصيدة واطاحت بها وجعلت من مغامرتها التجريبية الممزوجة بالمعرفة الرصينة ، الغيث الاول الذي يفجر الينابيع ويجعل الكلمات تحلق حرة في الهواء الطلق في ابعد مديات القصيدة او تساقط كالمطر القزحي ممزوجا بطعم النشوة الغامرة .. حتى ان المتشككين في ذلك حينها خرجوا من معاطفهم القديمة ونزعوا قبعات الجمود المحافظة بعد ان ادركوا ان غاية القصيدة هي قتل الجمود وبث التأمل والتدفق الروحي للمعاني المبثوثة في فضاء الكلمات . وبهذا اسقطت الاقنعة الجامدة والقناعات المتكلسة واحرقت اعمدة القصائد المتكلفة الملفقة لتتناثر في الفضاء الفسيح حتى يومنا هذا . كانت روحها تنطوي على ترفع ينسجم وقوة شخصيتها وعمق ثقافتها ، واعتقد ان عالما يود ان يقترب من الملائكة لابد ان يتمتع بقدر كبيرة من النقاء والكمال ، هل يعبر هذا البيت الذي ورد في احدى قصائدها عن ذلك ؟ " حتى حبك حتى آفاقك تؤذيني " ولعلها كانت تدافع عن كيانها الذي يبدوا من الخارج صـــلدا بقولها في قصيدة اخرى : " ونفوس تحس اعمق احساس وتبدو كأنها لاتحس وشفاه تموت ظمآى ولا تسأل اين الرحيل اين الكاس ؟
وصفها الشاعر والناقد العربي المعروف فاروق شوشه بأهم شاعرة عربية في القرن العشرين وحين يقوم بمقارنتها مع شاعرات عربيات امثال فدوى طوقان وسلمى الخضراء وملك عبد العزيز وجليلة رضا ، يخرج بنتيجة مفادها انها المتفردة في ريادة الشعر العربي الحديث وهو حضور اسر بجدارة الدور الفاعل في انجاز عملية التحول الاولى في منظومة الوعي ، وبناء عليه تمثل ريادة المرأة لمهمة التجديد دلالة تاريخية عميقة على حضارة المجتمع واشارة واضحة الى انتمائه الحي لقرون طويلة متراكمة من الخلق والابداع . ورغم ابتعادها عن التواصل في الكتابة لدواعي المرض واسباب اخرى ظل منجزها الشعري والنقدي حيا وفاعلا في الذاكرة الادبية العراقية والعربية حاضرا في دائرة الضوء والملتقيات الابداعية والمحافل الادبية ومراكز البحوث والدراسات الاكاديمية ، لما تشكله تجربتها الرائدة من اهمية كبيرة لايمكن تجاهلها ، اذ تكشف عن ثقافة عميقة الجذور بالتراث والوطن والانسان ، فقد حظيت بأحتفاءات عديدة متواصلة كان ابرزها ان نالت شاعرتنا الكبير جائزة درع الابداع العراقي عام 1992 وحصلت على جائزة البابطين عام 1996 ، كما اقامت دار الاوبرا المصرية عام 1999 احتفالا تكريميا لها بمناسبة مرور قرن على انطلاقة الشعر الحر في الوطن العربي . كانت حياتها محتدمة بالعطاء والابداع ، وان الوفاء للتاريخ وللتراث وللرموز ان نذكرها لأنها من الذين مهدوا لبناء النهضة الثقافية ، وان كل ما قدم لهذه الشاعرة الكبيرة لايرقى الى مستوى عطائها . وقد سبق للاتحاد العام لأدباء وكتاب العراق في بيان اصدره منتدى نازك الملائكة الادبي ان طلب من وزارة التربية وامانة بغداد اطلاق اسمها على احدى المدارس والشوارع او الساحات العامة تخليدا لمنجزها الابداعي . غادرتنا الملائكة ولم تغادر ، ودعتنا وهي تغذ السير مفعمة برائحة العشب يمتزج فيها الحزن الاخضر بالحلم السرمدي لتبقينا قريبين من لحظة ندرك انها لم تنطفيء ، هي الحاضرة فيها مع دفء كلماتها لنعلقها تميمة على جدران ايامنا ، ولمنحها تذكرة اقامة دائمة في قلوبنا .
#ايناس_البدران (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قنطرة الشوك
-
لازوردي
-
ألق الثريات جمر تحت الرماد
-
دوريس لسنغ مناضلة بلا شعار
-
وجها القمر
-
الليلة الاولى بعد الالف
-
غثيان
-
مقابلة صحفية اجريت من قبل احدى المجلات العربية
-
فجر منقوش على لوح الروح
-
مناديل العنبر
-
كاردينيا
-
النمرة
-
الابرة والتشظي
-
في الردهة
-
عواء ذئب
-
- النمرة - قصة قصيرة
-
حوار مع القاصة ايناس البدران
-
أشارات ضوئية
-
- على حافة الرحيل - قصة قصيرة -
-
جدائل الشمس - قصة قصيرة
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|