أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جودت شاكر محمود - فكر معي رجاءً















المزيد.....



فكر معي رجاءً


جودت شاكر محمود
()


الحوار المتمدن-العدد: 2318 - 2008 / 6 / 20 - 11:07
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


التفكير مهارة يتميز بها الإنسان عن باقي الكائنات الحية الأخرى، وهو الدليل الأساسي على إن الإنسان قد اكتسب مقوم من أهم مقومات حريته، والتي هي الحرية الفكرية أي حرية التفكير والتعبير عن مكنوناته النفسية والعقلية. وعملية التفكير هذه كانت نقلة نوعية في تطويره الوجودي. وبالرغم من تنوع التفكير بين واقعي وخيالي أو علمي وغير علمي، وما أكثر تلك التقسيمات إلا انه يبقى المعبر الأهم والأول عن فرادة وحرية الإنسان، والمنبئ الوحيد عن مدى تطوره الثقافي والعلمي والحضاري. والذي من خلاله يسعى لتطوير ذاته وقدراتها الغير محدودة.
عزيزي القارئ التفكير هو الحاجة الوحيدة التي نمارسها مع ذواتنا ولا يستطيع الحكام ورجالهم من البوليس السري أو المخابرات من منعنا أو الحجر على عقولنا، ومنع هذه العقول من ممارسة رياضتها، أو سعيهم الدائم للكشف عن ما نفكر به، وما يدور في أذهاننا من أفكار ووجهات نظر ورؤى مستقبلية. ولكن السؤال هل يستطيعوا هؤلاء الحكام أو أعوانهم من ذلك ؟ ولكن هناك سؤال آخر: هل يستطيعوا مستقبلا من السيطرة على عقولنا والتحكم بقوانا الفكرية ؟ وذلك من خلال اكتشاف بعض المواد أو الأجهزة أو الأدوية، واستخدامها في منعنا من محاولة التفكير بعيدا عن رقابتهم أو رغباتهم. أو من خلال إجبارنا على تناول بعض الأقراص أو بعض الحُقن أو أنواع من الأطعمة، أو التعرض لبعض الإشعاعات أو لنوع من الغازات والتي قد نستنشقها بدون معرفة منا أو بالإكراه، لكي يمنعوننا من ممارسة رياضة التفكير بعيدا عن رقابتهم. حقيقة لا ادري ولكنها محاولة للتفكير في مستقبل التفكير ذاته.
والتفكير ظاهرة إنسانية لم يتوقف الكائن البشري وعلى مدى تاريخ وجوده على هذه الأرض- ونعتذر عن إن كان له وجودا آخر في عالم غير عالمنا هذا، أو كوكب غير كوكبنا هذا، أو سيكون له هذا الوجود مستقبلا بعيداً عن هذا العالم- من ممارسته ولكن بمستويات مختلفة تتميز بالسطحية حينا وبالعمق حينا آخر، أو بممارسة التفكير التقليدي من قبل مجاميع كبيرة، أو ممارسة التفكير ألابتكاري والإبداعي من فئات معينة ومحدودة. ولكن هذا السفر الهائل والذي تجسد بكم من المعرفة الإنسانية المتراكمة عبر الأجيال وعبر مختلف الحضارات، والذي ما انفك الإنسان من العودة إليه بين الفنية والأخرى، لكي يغترف من منابعه ما يعجز عن اكتشافه في فترات مسيرته ألاحقة. فهناك الكثير من المسميات الحديثة والتي يشاع استعمالها بين المفكرين والمثقفين، والتي يندفع الأفراد في البحث عنها واستخدامها وكأنها أفكار وعلوم جديدة. ولكن في حقيقة الأمر وعند البحث عنها لا نرها سوى إننا نردد أفكار ومقولات من سبقونا من العلماء والمفكرين أو الفلاسفة، وما دورنا الجديد سوى إننا قمنا بنفض الغبار الذي تراكم عليها من جراء تلك السنين الطويلة، أو وضعها ضمن أطرا جديدة من خلال التعبير عنها أو وصفها بمصطلحات جديدة، أو محاولة إيجاد روابط لها مع أفكار وأطروحات أخرى، وما أكثر تلك المصطلحات الشائع استخدامها بين الناس والتي تحتمل أو نحملها نحن معاني كبيرة وعميقة قد لا تحملها في حقيقة أمرها.
وعلم البرمجة اللغوية العصبية Neuro Linguistic Programming ليس سوى واحدا من تلك العلوم والذي ندعي بأنه من العلوم الحديثة والجديدة في عالمنا المعرفي اليوم. والذي لاقى انتشارا واسعا بين الكثيرين من الناس، حتى إن هناك الكثير من الإصدارات التي تتحدث عنه، كما إن الشبكة العنكبوتية WWW تعج بالكثير مما كتب عنه، حتى بعض الفضائيات تتسابق محاولة مسايرة بروز ذلك العلم وتعد له البرامج، وتقام له الدورات التدريبية والحلقات النقاشة والدراسات بأكثر من مدينه، وتمنح له الشهادات.
إن علم البرمجة اللغوية العصبية LPN هو سلسلة من التقنيات اللغوية والسلوكية، والتي لها القدرة الفعالة في إعطاء الأفراد المقدرة على تغيير معتقداتهم وسلوكياتهم. فهو برمجة لغوية عبر الخلايا العصبية المخية، فهو يعتمد على المحادثة الذاتية لشخص إلى نفسه، ومن خلال هذه المحادثة يستطيع توجيه ذاته والسيطرة على قدراته وسلوكياته. علما بأن العلاقة وثيقة بين المقدرة اللغوية واكتساب المعرفة بكل أنواعها وفروعها. كما وأثبتت الكثير من الدراسات اللغوية الحديثة مدى أهمية وعلاقة المهارات اللغوية وطبيعة المحتوى اللغوي وطريقة المحاد تلك، ليس في فهم المرء واستيعابه للمعرفة الإنسانية فحسب وإنما أيضا في تحديد نوعية عملية التفكير عند الإنسان، والتغيير الذي يمكن أن يحدث له. كما وتشير دراسات أخرى إلى أن الأفراد الذين يعطون لأنفسهم أوامر سمعية(أي أنهم يتحدثون إلى ذواتهم ويوجهونها) قبل أداء أي عمل فأنهم يؤدون تلك الأعمال بشكل أكثر كفاءة وسرعة من أولئك الذين لا يستعملون هذه الطريقة في توجيه أنفسهم.
ولكن تم إدخال الكثير من العلوم الأخرى إليه، فقد أدخل علم التواصل الغير الفظي، وتكنيكات للإرشاد والعلاج المعرفي(تكنيكات بيرلزPerlz ) والسلوكي(أساليب الاسترخاء)، كذلك النمذجة السلوكية، وطرق إنشاء الخرائط الدماغية. والكثير غيرها. ولكن في حقيقة أمره هو يعتمد على المحادثة الذاتية، والتي من خلالها يستطيع الفرد إحداث تغيرا ما في سلوكه أو أفكاره ومعتقداته. وهو ما تسعى إليه الكثير من الديانات وخاصة المسيحية أو اليهودية منها وحتى الإسلام الذي يؤمن بالكلمة ودورها في التأثير على سلوك الفرد وأفكاره ومعتقداته. ومما لا يفوتنا إن الكثير من النظريات والتكنيكات التي تستخدم في علم النفس أو العلاج النفسي لها أساسها ضمن الديانتين المسيحية واليهودية، أو اقتباسها منهما. فالكثير مما تتضمنه نظرية فرويد Frud)متأتي من اليهودية. علما بان هذا الشيء لا ينتقص من مكانة النظرية أو مدى أهميتها في تفسير السلوك البشري أو السعي لمساعدته على تجاوز الكثير من الإشكاليات النفسية أو العقلية .
وهذا العلم أو هذه النظرية أو الفكرة(LPN) تستمد جذورها من مقولة الفيلسوف اليوناني (إيبكتيتسEpictetus) والذي عاش بين الأعوام (50-130م) والتي تقول" ليس الحوادث الخارجية هي التي تزعجنا وتكدرنا ولكن تأويلاتنا ومعتقداتنا إزاء هذه الحوادث هي المسببة للكدر والقلق والغم، أي بتعبير آخر أن العنصر المعرفي الإدراكي، والتفكير هو العامل الوسيط في ترجمة الحوادث الخارجية وخلق رد الفعل الانفعالي، وعلى هذا الأساس فالاضطراب النفسي وفقا لهذه المقولة تسببه تأويلاتنا للمنبهات الداخلية الصادرة عن نفوسنا اتجاه المحيط الخارجي " والتي هي أفكارنا الداخلية. وإيبكتيتسEpictetus فيلسوف رواقي، كان عبدا مملوكا لدى كاتم سر الإمبراطور نيرون وهو أول رواقي بروليتاري شعبي اعتنق المسيحية، شعاره: على الإنسان التحمل والاستسلام لإرادة الله والرضوخ للقانون طالما كان ينشد السلام والاطمئنان. كما كان يعتقد بان العالم هو الوطن الكبير للإنسان، وكانت تقوم فلسفته على طلب المثل العليا والتي هي الفضيلة والحكمة، ومنهجه السلوكي محاسبة النفس ومسؤوليتها عما تقوم به، ومبدأه في ذلك حرية الاختيار أو الرفض، وغايته أو هدفه النهائي تكوين وبناء الشخصية الإنسانية وعلى أكمل وأفضل وجه. من هذه الفكرة استطاع ألبرت أليسAlbert Ellis والذي يقترن اسمه بالعلاج النفسي المعرفي والذي أطلق عليه العلاج الانفعالي- العقلانيRational –Emotive Therapy . والذي يقوم على نموذج سميه بنموذج (أليس) والذي تعبر عنه الرموز التالية:(ABC) حيث يقصد بالرمز(A) الحادثة أو الخبرة أو الفعل(Action) والتي يتعرض لها الفرد، والرمز(B) تعبر عن الأفكار والمعتقدات (Belief) والتي يستخدمها الفرد لوصف وتفسير تلك الحوادث والخبرات والتي تتم من خلال استخدامه للغة الداخلية مع الذات، أما الرمز(C)فيشير إلى النتائج الانفعالية(Emotional Consequences) التي يشعر بها الفرد نتيجة للحادث أو الخبرة. فإذا حدث وشعر الفرد بخبرة انفعالية معينة(C) كالحزن أو الخوف أو احتقار الذات نتيجة لحادث معين(A) كالفشل في الدراسة فانه ربما يظهر إن الفشل (A) هو السبب المباشر لانفعال (الحزن أو الخوف)، إلا إن الأمر وفقا لنظرية أليس Ellis ليس كذلك . فبالرغم من النتائج الانفعالية(C) تبدو مرتبطة بالحادث(A) إلا أنها ليس نتيجة مباشرة له، بل هي نتيجة للأفكار والعبارات الذاتية (B) التي يستخدمها الفرد في وصفه للحادث. أي ما يسمى بالمحادثة الذاتية مع الذات.
والمحادثة مع الذات تتم من خلال الكلمة، والكلمة في الديانات السماوية أو غير السماوية هي فعل الخلق، حيث إنها تشير إلى إن في البدء كانت الكلمة، وعبر الكلمة تم خلق هذا الوجود بجانبيه الطبيعي والحي. فالكلمة (كن فيكن) هي الأساس في بدء الحياة في هذا الكون، وذلك عندما خلق آدم وباقي الكائنات. كذلك أساطير الخلق السومرية والبابلية تنحى ذات البداية للوجود من خلال الكلمة والتي هي فعل الخلق.
والمحادثة مع النفس أو الذات كان قد تطرق لها بعض علماء النفس، وهي ظاهرة يمر بها الطفل في مراحله الأولى من النمو ولها علاقة بالنمو اللغوي والمعرفي له. ويشير بياجيهPiaget إلى وجود العلاقة مهمة بين اللغة والتفكير، إلا أن الذكاء في الواقع يظهر قبل اللغة بفترة طويلة،أي قبل التفكير الداخلي والذي يفترض استخدام الإشارات اللفظية. ويؤكد بياجيهPiaget على إن السلوك اللفظي يزيد قوة التفكير من حيث المدى والسرعة. والكلام أو اللغة يتخذ نموذجين: الأول الكلام المتمركز في الذات، والكلام المنشأ الاجتماعي. إذ يتسم الكلام المتمركز في الذات بفقدان التواصل الاجتماعي، بالرغم من إن الطفل يتحدث بحضور الآخرين ولكن من دون قصد واضح في أن يجعل الآخرين يستمعون إلى كلماته، ولكنه يتحدث إلى نفسه، فليس ثمة اتصال اجتماعي بينه وبينهم، كما انه لا يستمع إلى حديث الآخرين، إضافة إلى انه يعتقد إن أفكاره صحيحة، ويطلق بياجيه Piaget على هذا النوع بـ(المناجاة الجمعيةCollective Monologues). أما النوع الآخر وهو الكلام المنشأ الاجتماعي فهو يتميز بالتواصل البيئي الاجتماعي، حيث يسعى من خلاله إلى تحقق من صحة أفكاره من خلال مقارنة أفكاره مع أفكار الآخرين عبر تفاعله الاجتماعي مع جماعة الأقران. وفي نظر بياجيه إن الطفل لا يستطيع التمييز بين وجهة نظره الخاصة ووجهة نظر الآخرين، فهو لا يكون راغبا بالتواصل بقدر ما هو يكون راغبا بالتعبير عن نفسه فحسب. في حين يرى فيجوتسكيVigotsky أن ذلك ليس بسبب عدم الرغبة بالتواصل أو عدم القدرة على ذلك، ولكن في الواقع أن كلام الطفل يكون موجها إلى نفسه، حيث انه يستطيع التمييز بين ذاته كمستمع وبين والآخر كمستمع، فالذات في رأيه مستمعا أوثق صلة وأكثر تفهما للطفل من أي مستمع آخر. فهو يعتبر اللغة مظهرا من مظاهر النمو المعرفي، وهي الموجه لهذا النمو وخاصة في حالة كونه حديث ذاتي، ولكنه مع تقدم النمو يتحول من الحديث الذاتي المسموع إلى الحديث الذاتي الصامت، والذي نمارسه نحن عند قيامنا بعملية التفكير أو باقي العمليات المعرفية الأخرى.
واللغة والوظائف العقلية العليا كما يشير عالم النفس (نوري جعفر) تمر في مرحلتين: الأولى خارجية اجتماعية موضوعية بيئية تتم من خلال العلاقة التفاعلية بين الطفل ومن حوله من الأشخاص، والتي يتم من خلالها الاستحواذ على المنجزات والخبرات الإنسانية ذات الطابع الاجتماعي والتاريخي. أما المرحلة الثانية فهي داخلية ذاتية ذات طابع سيكولوجي فردي والتي من خلالها يسعى الطفل إلى تنظيم سلوكه عن طريق اللغة وبالتدريج، وذلك من خلال التحدث مع نفسه. والكلام الخفي الذي يتحدث به الفرد مع ذاته ليس مجرد عملية استمرار بسيطة لأساليب التعبير البدائية الأولى من ناحية أساسها الفسلجي كما ظهرت عند الطفل وفي مجرى تطور النوع الإنساني، وإنما حركة صاعدة إلى مستوى اجتماعي ثقافي فكري أرقى، فهي انتقال من المستوى البيولوجي إلى المستوى الاجتماعي الأرقى تطورا.
ولكن ما هو دور الدماغ وتكويناته الفسلجية من خلايا عصبية وتشابكات عصبية وغيرها من المكونات في ذلك. قد توصل الدكتور (وايلر بينفيلد) المتخصص بجراحة الدماغ والذي عمل مع الأشخاص المصابين بسرطان الدماغ أو المصابين بالصرع، إلى جملة من الحقائق، فمن خلال عمله مع الأشخاص المصابين بالصرع وتسجيله لموجات الدماغ اكتشف إن نوبات المرضية تمثل تشخيصا لسورات كهربية عنيفة متتابعة في الدماغ. ولقد عمل على الكشف عن مصدر تلك السورات من خلال تحفيزه لسطح أدمغة هؤلاء المصابين بالصرع بواسطة تيار كهربائي خفيف وهم في حالة الوعي. وعند عمله مع المصابين بالأمراض السرطانية الدماغية، وعندما كان يقوم بإزالة تلك الخلايا السرطانية كان يمس الخلايا المجاورة فينطلق شلالا من الإشارات عبر خلايا عصبية مترابط وبما يؤدي إلى إثارة ذكريات مركزة ومفصلة بشكل دقيق لإحداث وانطباعات منسية من ماضي المريض، وقد تكون ذكريات أو أحداث مرت على الطفل وهو في سنواته الأولى، وعند تكرار عملية التحفيز تلك كانت ذات الذكريات تنطلق في حين جس أو مس خلايا أخرى يعطي المجال لذكريات أخرى مختلفة لكي تنطلق.
علما بأن الدماغ البشري هو عضو التفكير، وهو يمتلك عشرات البلايين من الخلايا العصبية وتريليونات من الروابط العصبية تتواجد بين تلك الخلايا. وعليه فإن تركيب الدماغ لا يوحي بنوع واحد من التفكير ولكن بعدة أنواع مختلفة مع تكيفات تشريحية محددة لكل نوع. ولكن أهم اكتشاف هو لدونة الدماغ أي انه يتغير بتغير الزمن. حيث إن عقل الطفل حديث الولادة وعلى خلاف غالبية أعضاء الجسم الأخرى ليس كامل النمو أو مكتملا وظيفياً، ومع ذلك فانه يمتلك خلايا عصبية أكثر من تلك الموجودة لدى الشخص البالغ، لكنه لا يزن إلا خمس دماغ الشخص البالغ. حيث إن تلك الخلايا العصبية لا تكون مرتبطة ببعضها البعض أي لا توجد وصلات عصبية بينها. وتقوم كل خلية عصبية بتحديد حبلها المرسل(محورها العصبي) ويمتد من جسم الخلية إلى هدفها النهائي. بالرغم من عدم معرفة تلك الإلية والتي يصل بها المحور العصبي إلى موقعه الصحيح ولحد الآن. إذ إن المحور العصبي يتمدد وبشكل لا يخطئ باتجاه هدفه ومن ثم يتفرع المحور العصبي حال وصوله ويشكل نقاط تشابك مع الزوائد المتشجرة (مناطق الاستقبال) لخلايا عصبية أخرى. علما بان القليل نسبيا من نقاط التشابك العصبية تلك تستمر بالبقاء في حين تضمر وتموت غالبية التفرعات الحورية العصبية مع الكثير من الخلايا العصبية تقريبا بالحال. وتستمر التشابكات العصبية بالتشكل والاختفاء وعلى مدى حياة الفرد. ومع إن المناطق الميتة من الدماغ نتيجة للإصابات لا تتوالد مرة ثانية، إلا إن غالبية الأفراد الذين يتعرضون لتلك الإصابات يستعيدون في اغلب الأحيان الكثير من الوظائف، وذلك من خلال قيام الدماغ بتزود أجزاء أخرى منه بروابط جديدة للقيام بذات المهام. وشبكة الارتباطات تلك والتي تتكون من المحاور ونقاط التشابك العصبية هي جزئيا على الأقل نتاج الخبرة التي يتعرض لها الفرد، والذي يستخدم منها ما ينجو من عملية الانتقاء التي يتعرض لها الفرد، فالنشاط العصبي للدماغ يستجيب عن طريق فقدان وإنماء روابط وبشكل مستمر. حيث إن عملية التعلم ربما تتشكل من تغيرات في قوة الروابط العصبية استجابة لأنماط جديدة من المعلومات الواردة للدماغ أو ربما نتيجة لخلق روابط عصبية جديدة. والى جانب الخلايا العصبية هناك خلايا الدبق العصبي والتي يبلغ عددها ما يقارب عشرة أضعاف الخلايا العصبية، وهي لا تحمل نبضات عصبية لكنها تقوم بوظائف مساعدة هامة وتقديم الدعم. حيث يشكل بعضها بنية ثلاثية الأبعاد شبيهة بنسيج العنكبوت. فهناك خلايا دبقية متناهية الصغر تقوم بتكنيس الخلايا الميتة وأية منتجات أخرى تالفة، وتقوم خلايا دبقية أخرى بطي نفسها حول المحاور الطويلة للخلايا العصبية الحسنة الترابط، مؤدية إلى تحسين إرسال الإشارات العصبي بأكثر من مئة مرة، أن هذه الخلايا والتي هي الخلايا الدبقية تشكل شبكة كثيفة حول الأوعية الدماغية في الدماغ تقوم بعملية تصفية وبشكل انتقائي للمركبات من السائل الخارجي الخليوي قبل أن يصل إلى الخلايا العصبية وهناك وظائف أخرى تقوم بها هذه الخلايا الدبقية.
والدماغ أو العقل لا يقف دوره عند التفكير المنطقي أو التفكير بحل الإشكاليات التي يتعرض لها الإنسان في ممارساته الاجتماعية والفكرية، وإنما هناك التفكير الخيالي،والخيال هو أحدى الوظائف العقلية للإنسان، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتخيل على هذه الأرض ويمارس التفكير الخيالي، والذي يسعى لتحقيق ما داعب مخيلته من أفكار وصور على ارض الواقع. ويشير (فوكو) إلى أن الخيال متجذر فينا بعمق لأنه يمنح الصورة مدلولا عفويا وحقيقة كلية ومطلقة. فالخيال نوع خاص من التفكير وهو ليس فقط تكوين الصور بل هو القدرة على إدراك علاقات جديدة، سواء أكانت لها وجود حسي في الواقع أم كانت مجردة، فالخيال يتجاوز الموجود أو الواقع ويتخطاه وقد لا يتحقق إلا من خلال فعل تخيلي.
فالكثير مما كنا نقرأ عنه ونحن أطفال أو شباب من قصص الخيال العلمي أو غير ذلك أصبح اليوم له بعض الوجود الحقيقي في حياتنا، فهي تتحقق وتتجسد في الكثير من المبتكرات والمخترعات والمكتشفات العلمية والتي ما أكثرها. فمن خلال العلم فقط أستطاع الإنسان إنجاز والإجابة على العديد من الأسئلة التي داعبت مخيلته قرون طويلة، حول الكون والطبيعة ومكوناتها والطاقة وعن النجوم البعيدة والذرة وأجزاءها وعن جسده، لان النشاط العلمي هو حل منظم لمعضلات، بناءً على أفضل القواعد والأسس التي استطاع الإنسان حتى الآن اختراعها أو اكتشافها.
كذلك ما يقرئه أبناءنا وأحفادنا اليوم قد يكون له واقعا مدركا في حياتهم المستقبلية، وذلك حينما تتحول تلك الأفكار إلى واقع مدرك متجسد عبر ما يتوصل له إنسان هذا العصر أو العصر القادم من خلال المخترعات والمكتشفات العلمية والتكنولوجية .
فالكلمة أو الصورة المتخيلة لا تكتسب حقيقتها إلا من خلال تجسيدها واقعا مدركا ضمن العالم الموضوعي. وإلا كانت تلك الكلمات أو الأفكار والصور خيالا إنسانيا قد يتخذ الطابع الأسطوري أو الخرافي لا غير.
ولكن المأساة حينما نتمسك بتلك الأفكار أو الكلمات وبالرغم من إدراكنا بعدم مصداقيتها أو واقعيتها، إلا إننا نبقى متمسكين بها ونرفض التخلي عنها وكأنها هي الواقع الحقيقي والموضوعي وليس هناك شيئا غيرها يمكن له أن يكون أكثر صدقا وواقعية. ونضحي بالكثير من إنسانيتنا من اجلها، فنقتل وندمر ونعرض الآخرين للأذى الجسدي والنفسي والفكري، والذي يمكن لنا أن نتلافاه حينما ندرك حقيقة تلك الأفكار ومدى صحتها وواقعيتها. وبالرغم من إن مفاهيم الصدق والواقعية والصحة لدى الإنسان وفي ضوء طبيعته البشرية ذات طابع نسبي فهي متغيرة وغير ثابتة وتحمل الكثير من الضبابية من فرد إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، ولكن الخطوة الأولى دعونا نفكر بها، وبدون أحكام مسبقة على صحتها من عدمه، لنناقشها وكأننا نتعرف عليها لأول مرة، ونطرحها على بساط البحث والتشريح لمعرفة كنهها، وبعد ذلك لنطلق الأحكام ونطلب من الآخرين مشاركتنا في الإيمان بها من عدمه.

قد لا استطيع تقديم إجابات شافية، أو ليس لدي تلك الإجابات لكوني اجهلها فالكثير من الأسئلة التي اطرحها أو قد تجول في ذهنك قارئ العزيز الآن أو في المستقبل قد لا نجد لها جوابا شافيا، ولكنها ستكون حتما محاولة للتفكير معا بهدف الوصول إلى جزء من الحقيقة وتوفير بعض الإجابات عن بعض تلك الأسئلة التي طرحناها، فلنحاول التفكير معا وبصوت عال وليشاركنا الآخرون.
الحديث الذاتي أو الحديث مع الذات يخلق روابط عصبية ذهنية، هذه الروابط يبقى نصيبها من الثبات والبقاء متأرجحا استنادا إلى درجة نصيبها من التعزيز الذاتي الذي يمارسه الفرد عليها. وخاصة حينما يكون ذلك التعزيز يرتبط بدرجة ما بما يوفره من أمن واطمئنان وراحة لذلك الفرد، وبما يزيل ما لديه من توتر وقلق وانفعال غير ايجابي، وبما يؤثر على تفكيره وسلوكيه لينعكس بالتالي على شخصيته. وان كل ما نسمعه أو نقرأه أو نتحدث به أو نفكر به يبقى مخزونا ضمن الخلايا العصبية المخية لأدمغتنا, وهذه الخلايا تتعزز وتتجدد ويترابط عملها مع غير من الخلايا من الخلال الخبرة التي نتعرض لها، وبالتالي فهي تؤثر على سلوكنا المستقبلي، وعلى أفكارنا ومعتقداتنا، وعلى علاقتنا مع بعضنا البعض. ولكن حينما تكون الخبرة التي نكتسبها هي خبرة من اختراع خيالنا أو أخيلة غيرنا ممن سبقونا، أو من نعيش معهم، والتي نصيبها من الصحة والحقيقة معدوم هنا يجب التوقف وإعادة التفكير.
فحينما لا تكون حقائق التاريخ واضحة أو يشوبها نوع من الظلال أو الغموض، وحينما لا تكون تلك الأحداث والوقائع حقيقية، وإنما هي من مكنونات بعض العقول والأذهان، عقول وأذهان من كتب عنها أو أوجدها وصورها في ضوء تصوراته ومعتقداته ورغباته هو، وليس كما حدثت في الواقع فعلا. وحينما نسمعها ونستدخلها ضمن مخططاتنا المعرفية، وحينما يتناقلها الآخرون بعد أن يتم تشكيلها بشكل جديد، وفي ضوء عدد من التصورات الذاتية والمقولات المقولبة اجتماعيا، وحينما توضع في قوالب جاهزة يستدخلها الناس ضمن البنى المعرفية لتشكيلاتهم الذهنية والعقلية، وتصبح حقيقة لا يشوبها الشك، وتصبح جزء من تكويناتهم الشخصية والفكرية والوجدانية هنا المأساة الحقيقية. وهذا ما يعيشه العرب بكل مكوناتهم العقائدية والسياسية والاجتماعية وعبر مجرى التاريخ القديم والحديث. وذلك حينما نؤمن بأن الكلمة هي المحرك الأساسي للتاريخ، الكلمة غير الصادقة وغير الحقيقية ولكنها اكتسبت حقيقة زائفة من تصورات وخيالات وأوهام بعض الأفراد فكانت شخصانية أو ذاتوية أكثر منها موضوعية أو حقيقية.
لنتخيل ونحاول الإجابة على السؤال: هل كل ما نتحدث به مع ذواتنا هو حقيقة ؟ وما مدى نسبية تلك الحقيقة ومصداقيتها ؟ وهل كل ما نسمع به أو نقرأ عنه حقيقي وقابل للتصديق؟ أم نحن نريد ونرغب بان نصدق كل شيء، ونضفي عليه نوعا المصداقية، وذلك لسبب ما قد لا ندركه في لحظته، ومن أهم تلك الأسباب لان عملية التصديق تريحنا أو إنها تحقق لنا نوع من الراحة، والإنسان بطبيعته كائن باحث عن الراحة قبل أن يكون باحثا عن الحقيقة. في ذات الوقت إن كلُ ما نسمعه أو نقرأه لا ينسى وإنما يبقى مخزونا في أعماق خلايانا العصبية المخية، وبالتالي من الممكن أن يؤثر في سلوكنا ألاحق مستقبلا، وعلى أفكارنا ومشاعرنا. والأدهى من كل ذلك عندما نضفي طابعا من القداسة والإلُهية على تلك الخيالات، وما أكثرها في مجتمعنا العربي.
كثيرا ما يقال بان الثقافة العربية ثقافة صوتية، أي ثقافة الكلمة ولان الكلمة صوتا ما، لذا نرى انتشار ما يسمى بما بعد الحداثة أو الظاهرة التفكيكية بين مثقفينا، وللأسف جميع الظواهر عندما تقتبس من قبلنا فإننا نجري عليها تحويرات كثيرة فهي ليس كما هي موجودة لدى الغرب ولكن في ضوء طبيعة تفكيرنا نحن ومعتقداتنا وما نشعر به من مشاعر ايجابية أو سلبية والتي تتمثل اغلبها بالمحاولة للخروج عن المألوف أو السائد ولكن للأسف لا نعرف كيف. فالكثير من المواضيع التي قد اطلعت عليها أو مررت بها أن كانت شعرا أو نثرا أو مقالة ما، وارى هناك الكثيرين من المعجبين والمقيمين لها، وهي في حقيقتها ليست سوى حشوا للكثير من الألفاظ والمصطلحات أو الكلمات ذات الأوزان اللفظية الكبيرة، والتي تفتقد لوجود رابطا بينها وبين غيرها من المصطلحات، حتى لو توجهنا بسؤال إلى كاتبها لينطلق في الحديث عنها وبإسهاب وفي النهاية يتشكل لدينا اقتناع من حديثه انه هو نفسه لم يفهم منها شيء. ولكن بالرغم من ذلك فإننا نعبر عن مدى إعجابنا بها وبالرغم من إننا لا نفهم ما فيها من معاني أو ما تتضمنه من أفكار، ولكنها في النهاية تتحدى تفكيرنا وقدراتنا على استيعابها، وبالرغم من ذلك فإننا نوافق عليها ونعجب بها ونحن قد لا نعرف السبب عندما نسأل لن نقول سوى إنها شيء خارق لقوانين التفكير والإبداع، ولكن في حقيقة الأمر إن موافقتها وإعجابنا ينطلق من إدراكنا لحقيقة جوهرية هي بالرغم من تحديها الفكري لنا، وهذا ما تدركه ذواتنا وتشعر به، ولكننا في ذات الوقت نعبر عن رفضنا للإقرار بذلك لذا نُظهر للآخرين قبل ذواتنا بأننا أكثر فهما وإدراكا لموضوع النص من كاتب ذلك النص. ولو أجرينا اختبارا بسيطا ماذا نحفظ من شعر قديم ومن قصص المنفلوطي أو نجيب محفوظ والتي قد قرائنها في سنوات ماضيه وبين ما قراناه من مواضيع حديثه، ما هي نسبة ذلك الحفظ ؟ أو لنسأل الكتاب أنفسهم ماذا يحفظون مما كتبوا هم؟
قد أكون أخذتك بعيدا مع أفكاري وخيالاتي، وقد تكون تلك الخيالات غير منتظمة ،ولكني آسف عزيزي القارئ ولكنها محاولة ليس إلا للتفكير بصوت مقروء، أملي أن نتشارك معاً في عملية التفكير تلك.. إذن فكر معي رجاءٍ!!!!!



#جودت_شاكر_محمود (هاشتاغ)       #          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التخيل والإرشاد والعلاج النفسي
- متعةٌ ولكن!!!!!
- البحث العلمي وأنواعه
- العراق والفكر ألاستئصالي
- طرق ومصادر المعرفة
- العلم والتفكير العلمي
- المعرفة الانسانية وأنواعها
- وجهات نظر: أفيون ولكن !!!!!
- وجهات نظر: امرأة واحدة ولكن!!!!!
- وجهات نظر: نظرية أنسانية ولكن....


المزيد.....




- تعود إلى عام 1532.. نسخة نادرة من كتاب لمكيافيلّي إلى المزاد ...
- قهوة مجانية للزبائن رائجة على -تيك توك- لكن بشرط.. ما هو؟
- وزيرة سويدية تعاني من -رهاب الموز-.. فوبيا غير مألوفة تشعل ا ...
- مراسلنا: تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيرو ...
- الرئيس الأمريكي: -أنا زوج جو بايدن.. وهذا المنصب الذي أفتخر ...
- مسيرة إسرائيلية تستهدف صيادين على شاطئ صور اللبنانية
- شاهد.. صاروخ -إسكندر- الروسي يدمر مقاتلة أوكرانية في مطارها ...
- -نوفوستي-: سفير إيطاليا لدى دمشق يباشر أعماله بعد انقطاع دام ...
- ميركل: زيلينسكي جعلني -كبش فداء-
- الجيش السوداني يسيطر على مدينة سنجة الاستراتيجية في سنار


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جودت شاكر محمود - فكر معي رجاءً