|
حَواريّو الحارَة 5
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2314 - 2008 / 6 / 16 - 10:26
المحور:
الادب والفن
من مدوّنة مجهول /
دعونا ، أولاً ، نتفحّص بدقة مؤرخيننا ، وموضوعيّتهم ، تلك الأقاويل غيرَ المُستغربة من لدن المسنين . وماذا ترانا ، مثلاً ، واجدين لدى " إبن الأثير " . إنّ أبا تاريخنا الإسلاميّ ، المنكود الحظ ، ما فتأ يتباكى على آل " زنكَيْ " ؛ أولئك الحكام التركمان ، الذين ولوا أقاربه إقطاعاتٍ سخيّة . إنه يصرّ بعد ، أنّ آلَ " أيوب " عمالٌ ، غاصبون ، جحدوا فضل أسيادهم ، حتى بلغتْ القحّة برأسهم إجبارَ أرملة مولاه على قبوله بعلاً : لا لقلة نساء ، ولكن شيمة ما بأناس .
من جهته ، يقول " عماد الكاتب " ، عن هذه الأرملة ، أنها كانت في صباها إمرأة ساحرة الأعطاف ، مغناجة أطرافاً وأردافاً . وهوَ يجزمُ ، بالمقابل ، أنّ المرأة فتنتْ بإبن " أيوب " ذاك ، المتبطل طوال الوقت في المرجة المحيطة بقلعة رجلها ، السلطان ، لا عملَ له سوى اللهو وأترابه بلعبة الصولجان والكرة أو مسابقات الفروسية . وبقيتْ الأميرة ، يقول الكاتب ، متعلقة بصورة الحبيب ، السريّ ، حتى عندما غابتْ عنها ، لما قيل عن مهمّة ما ، حربية ، في محروسة مصر ، بأمر من رجلها ، العتيّ . ثمّ شاءَ لها المقدور أن تضحي أكثر شفافيّة ، حينما علمت بإستتباب أمر الحبيب ومخالفته العنيدة ، الدائبة ، سلطة سلطان الشام . حتى إذا توفيَ هذا الأخير ، فإنها إنشغلتْ بصراع مكشوف مع الحاشية ، المصرّة على توجيه الجيش إلى مصر لخلع ذاك الكرديّ ، الغاصب : الرأي عندي ، توجّهتْ إليهم بالقول ، أن تستدعوا الرجل باللين واللطف ليكون وصياً على إبني ، بغية مساعدتنا في ردّ هجمات الإفرنج . هذه النصيحة ، المخلصة ، أوغرتْ قلوب القوم عليها ، فأوعزوا بدورهم لأبنها أن يخالفها فيما تذهب إليه . وهو ذا الغلام ، الغرّ ، ذو الأعوام العشرة ، يتراكض نحوَ الأمّ باكياً ، فيضرب الأرضَ بخفيْه الحريرَيْن ، تعبيراً عن إستيائه من خططها بشأن مستقبله ـ كوليّ عهد . تقبله الأمّ ، فيما هيّ تؤكد له أنّ هدفها ما كان سوى بثّ الرعب في أفئدة أولئك الأمراء ؛ أبناء ضرائرها الضاريات . أما وقد أحدَقَ إبن " أيوب " بأسوار الشام ، يُتابع الكاتبُ ، فلم تلبث المرأة المحبّة أن أرسلتْ إشارتها . ساعات اخرى ، والمحاصرون يمتلكون المدينة ، وقائدهم بدوره يمتلك جسَدَ سيّدتها ؛ هذه التي ضمّت إنتظارها الطويل ، المعذب ، بأطراف شهّاء ، مرتعشة ـ كرميم رجلها ، المدفون في الجانب الآخر ، الميّت ، من القلعة .
*** من ناحية الأسواق ، أقبلَ رجلٌ بلا ملامح معيّنة ، تشي بعمره . وكان فوق ذلك حقيرَ المنظر ، بعين معصوبة بخرقة سوداء . في طريقه ، عبرَ سوق الحاضرة ، الأكبر ، صادَفَ أحد الجند المتسكعين . " أين يمكنني التوجّه ، يا أخ ، فيما لو كانت وجهتي دار الملك الناصر ؟ " ، سألَ الحارسَ متلطفاً . هذا الأخير ، تثاقلَ في إرشاده فيما هوَ يتفحّصه بنظرة مزدرية : " تجده في " الروضة " ، هناك " ، قال له مشيراً بيده ناحية جزيرة مخضوضرة ، قابعة على صدر " النيل " ، محوّطة بأسوار مهيبة . كان من سعد الغريب ، أنّ حضوره وافق " يوم القصص " ؛ المنذور لشكايات الأهلين وإلتماساتهم . الحاجب المُتراخي الهمّة ، أوسعَ للرجل إثرَ إستفهامه منه عما يبتغيه من الوزير . حلّ دوره ورفعت الستارة . آه ! لدينا هنا ، في المجلس العتيد ، أكثرَ من ملكٍ على ما يبدو ؟ كان في حيرة ، ينقل عينه ، الوحيدة ، بين هذين الرجلين ، المُتربعين على بساط واحد ، أقرب للبساطة منه للبذخ . إختار عندئذٍ أكثرهما هيبة .
ـ " أنا القاضي .. ! " قال الكهل بهدوء . لعن الأعور عينه ، المُتبطلة ، فيما كان يلتفتُ ناحية الآخر ؛ الوزير ، مُعجباً ليفاعته وحسن صورته . " كيفَ يقوم بالزكاة ، من لا يأبه لصلاة ولا صوم ولا حج ؟ " ، خاطبَ الوزيرَ بلهجة لا مبالية ومستهترة . ـ " وهبناكَ تجارتك .. " ، أجابه صاحبُ الأمر هادئاً متبسّماً . ثمّ أعقب بالنبرة ذاتها : " نحن نجلّ زكاتنا عن مال أمثالكَ ! " . كهل آخر ، كان منتحياً بنفسه في المجلس ، راحَ يمعن النظرَ بالرجل الجريء . ما كان هذا العجوز ، الجليل الملمح ، سوى والد الوزير . تنحنحَ إذ ذاكَ بحركة مألوفة ، كيما يُثير إنتباه إبنه . عند ذلك ، توالت الأسئلة على الأعور ؛ إسمه وأصله وفصله . قال أنه يدعى " كراكوز " ، قادمٌ من إقليم " الجبل " ؛ من عشيرة كردية ، علويّة ، إنخفض إلى النصف عددُ أفرادها جراء إعتداءات الروم ، السلاجقة . " إخلع عنكَ الجبّة ، وإكسها بنفسك هذا الرجل ! " ، أمرَ الوالدُ ذاكَ القاضي الكهل .
*** تسلم " كراكوز " المشيخة ، وصار قاضي قضاة مصر . وبما أنّ هذا المنصب البارز ، الخطير ، كان حكراً على الشيعة طوال عهد الفاطميين ، فإنّ آخر خلفائهم قد إهتمّ ، ولا شك ، بأمر القاضي الجديد . بعث إذاً يستدعيه ، خفية ً. جاء الرجلُ ليلاً ، مُتنكراً ببرقع حيزبون . وعلى عكس ما صادفه من يسر ، لدى مقابلته الوزير ، فإنّ أبواباً عديدة وحراساً أكثرَ عديداً قد وقفوا بسبيله ، مذ لحظة خروجه من ذاك الممرّ ، السريّ ، وحتى مثوله في حضرة الخليفة ، المقنع الوجه . قال له هذا بودّ : ـ " إنك من شيعتنا ، كما علمتُ . وربما أنّ ثقة الوزير بكَ ستساعد قضيتنا " ـ " إنني في خدمة أمير المؤمنين ، حفيد السيّدة فاطمة " ـ " فإشترط علينا ، إذاً ، ما شئتَ "
كان رئيس الخصيان دليله ؛ هوَ المأمور بأن يعثروا له على تلك الجارية ، التي رسم في مخيلته صورتها دهراً . خلل ممرّ تحت الأرض ، لا يقلّ غموضاً عن الأول ، سار " كراكوز " صحبة الخصيّ وتابع آخر يتقدمهما بمشعل هادي . ما أن صاروا تحت الباحة ، السماوية ، المطوّقة بأبنية مبهمة الملامح ، حتى شاء الضيف مساءلة " الطواشيّ " عن عدد نساء الخليفة . أجابه هذا بلهجة مريبة : ـ " أربع نساء ، بالطبع " ـ " ليسَ بالرقم الكبير .. " ، قال " كراكوز " ثمّ راح يتفكر مدهوشاً : " في العادة ، أنّ الحكام يمتلكون الكثير من النساء . فما بال هذا الخليفة ، الفتى ، الذي بالكاد نبتت لحيته ؟ " . أمّا وقد إنقضت الساعات ، الطويلة ، منذ خروجه من النفق ذاك ، فلا بدّ أنّ الأعور شعر بالأرض تدور به لمرات متتالية ، حتى كادتْ عينه السليمة تلحق بشقيقتها ، المعطوبة . عندئذٍ علم من الخصيّ أنّ أجنحة حريم ، اخرى ، ما فتأت تنتظر تشريفه . ـ " أيجوز لي معرفة ، كم عدد النساء هنا ، إجمالاً ؟ " ـ " أكثر بقليل من عشرة آلاف جارية " ـ " آه ! هذا رقمٌ كبير ، كبيرٌ حقا " .
*** وقتُ ضيف القصر ، السريّ ، ما عاد يتسع لمزيد من التسكع في هذا الفردوس . هوذا الجناح ، الذي يحمل الترتيب الثالث عشر . ها هنا ، قرر " كراكوز " أن يجدَ ضالته ، دونما مبالاة بطيرة الرقم ذاك ، المشؤوم . أخذته الدهشة ، عندما رأى نفسه وسط بنيات جدّ صغيرات ، يلهون ببراءة بين الدمقس والديباج . لوهلة ، أنب " كراكوز " إشتطاط فكره ، بعيداً ، مقدّراً أنّ أمهات هاته الفتيات لا بدّ وغادرن لشأن ما . على أنه آبَ ثانية ً لوعيه ، متسائلاً بسرّه : " إذا كنتُ ، شبهة ً ، قد أدركتُ الأمرَ بصورة شائنة ، فما هذه الغلائل الرهيفة ، الفاضحة ، التي لا تستر لطفولتهنّ عورة ؟ " . نقل ما يجول بخاطره للخصيّ ، فأجابه هذا بنبرة مشفقة : ـ " سنة أمير المؤمنين ، حفظه الله ، أن يلهو معهنّ مداعبة دون إيلاج " ـ " آه ! " ـ " إنه لا يبني بأيّ منهنّ ، قبل بلوغها السنّ المطلوبة " ـ " سنة يا رسول الله " ، فكر الضيف وكانت عينه تلك ، المعطوبة ، جدّ حزينة أن تحرم من تأمل كلّ ذاك الجمال ، الإلهيّ .
الرقاد ، ما كان قد عرف طريقا لبقايا ليلته ، الخرافية . كانت في الحدود تلك ، الموصوفة ، من عمر صويحباتها ؛ عمر بضّ ، ناصع ـ كبشرتها وحلمها . حلوة الثغر ، بنفسجيّة اللحاظ وبضفيرة يحسُدُ توهّجَ شقرتها ذهَبُ الدنانير ، المتدلية من أعلى الجبين . ولكنه بالرغم من رقاده ، المتأخر ، كان عليه التبكير بالذهاب لعند مولاه ؛ عليه كان ، بحسب الخطة المرسومة ، أن يتلقى المرة تلو الاخرى أسراراً ، مزعومة ، ملفقة بحرص ودهاء الوالد ، الداهية . ثمّ جاءت نهاية الخليفة ، أبكرَ من ذلك الصباح السالف ، المُشرق على شمس الرغبة ، الأرجوانية . " لم أجرؤ ، في حياتي التعسة ، على محاولة التمكن منه ؛ فليكن ذلك عند حضور ملاك الموت ، على الأقل " ، فكر آخرُ سليلي آل " فاطمة " . عندما جاء من يستدعي الوزير للحضور إلى الخليفة ، المحتضر ، إستشار هذا أباه . " نسأل " كراكوز " ، صاحبنا ! " ، قال الوالدُ متفكراً مطرقاً . في الليلة التالية ، مات غلاً وقهراً الخليفة الفتى ، دونما أن يتمكن من خصمه .
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حَواريّو الحارَة 4
-
حَواريّو الحارَة 3
-
حَواريّو الحارَة 2
-
النصّ والسينما : السمّان والخريف لحسام الدين مصطفى
-
حَواريّو الحارَة *
-
مَسْرىً آخر لمَغاورها
-
أقاليمٌ مُنجّمة 10
-
أقاليمٌ مُنجّمة 9
-
غربُ المَوت ، للشاعر الكردي دانا صوفي
-
أقاليمٌ مُنجّمة 8
-
عزلة المبدع ، قدَر أم إختيار ؟
-
مسْرىً لمَغاورها
-
أقاليمٌ مُنجّمة 7
-
قراصنة في بحر الإنترنيت
-
أقاليمٌ مُنجّمة 6
-
النصّ والسينما : - كرنك - علي بدرخان
-
أقاليمٌ مُنجّمة 5
-
أقاليمٌ مُنجّمة 4
-
كما كبريتكِ الأحمَر ، كما سَيفكِ الرومانيّ
-
أقاليمٌ مُنجّمة 3
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|