مع بداية القرن العشرين، بدأت الشعوب العربية تستعيد حياتـها ووعيها حول ما يدور في العالم ، بدءاً بادراك أهـمية الثقافة وضرورة تغيير الكتاتيب إلى مدارس وجامعات، مروراً بـتحسين ظروف الـمعيشة وليس انتهاءً بالتأسيس لحياة سياسية ونشوء الدول وأهـمية استقلالها. وهكذا كان القرن العشرون بـمثابة ولادة جديدة للـمجتمعات العربية. لكنَّ الـمفارقة التي لا يريد أن ينتبه إليها البعض، تتعلق بالطبيعة الـمتغيرة لأفكارنا حول بعض الظواهر التي كان لا بد من نشوئها واكتسابـها أهمية خاصة في ظروف معينة، غير أن تطورات الحياة وتغيراتـها الإستراتيجية، سلباً وإيجاباً، أدّت إلى نشوء ظواهر مختلفة وأفكار مغايرة لما كان سائداً في الخمسينات والستينات، بحكم الضرورة والمستجدات، سواء ما يتعلق بحاجات المجتمع أم ما يتعلق بالمعادلات الدولية. وإذا كانت الأهداف الوطنية والإنسانية هي من ثوابت أي مجتمع، فأن أساليب تحقيقها أو الـمحافظة على ما أُنـجز منها، قد تغيرت مثلما تغيرت أساليب تفكيرنا حول الظواهر التي نعيش . ولنتأمل كمثال، التجربة الناصرية وظاهرة عبد الناصر حيث تمر كل عام ذكرى ولادته أو وفاته، فنقرأ مقالات كثيراً ما تتكرر فيها نفس الأفكار والمعلومات في كل مرة، كما لو أن هؤلاء الكتاب يريدون منا أن نظل سجناء الماضي نعيش على أصداء تلك المظاهرات الصاخبة والأناشيد القومية التي اجتاحت دنيا العرب في المشرق والمغرب آنذاك !!
ولو تأملنا ذلك الماضي قليلاً لوجدنا بأن ظاهرة ( البطل القومي ) فرضتها الحاجة النفسية والسياسية في ظروف القهر والاستعمار في النصف الأول من القرن الماضي، فكان لا بد أن تنشأ تلك الظاهرة وُتكرس لبعض الوقت لتملأ أحلام وخيالات الملايين الباحثة عن خلاص، والتي أيـّدت وساندت عبد الناصر حتى بعد هزيمة 1967 التي لا نزال نعاني مضاعفاتـها لحد الآن، والجماهير فعلت ذلك لأنـها هي التي خلقت أسطورة عبد الناصر بحكم حاجتها إليها، وليس من أجل عبد الناصر بالذات، فلو لـم يكن هذا الرجل موجوداً لقامت تلك الجماهير بأسطرة شخص آخر لتلبية حاجتها وتعليق طموحاتـها على قدراته ( الخارقة ) كما تتصور وتفترض، لذلك لم تستطع أن تتخلى عنه حتى عندما أعلن تخليه عن الرئاسة .
إن هذه الملايين هي ذاتـها التي ظهرت محزونة في جنازة عبد الناصر في مشهد لا مثيل له في تاريخ مصر الحديث، لكن لـم ينتبه أحد بأن تلك الجماهير، وهي صادقة تماماً، إنما ظهرت لتشيّع كذلك أحلامها الواسعة وطموحاتها الكبيرة التي أسستها البيانات والـخطابات والأناشيد الحماسية خلال المرحلة الناصرية، والتي انتهت معها كنتيجة لنهاية تلك المرحلة المرتبطة أساساً بأسطورة عبد الناصر . ولأن هذه الجماهير تعرف أيضاً وبحسها العفوي، بأن ليس بالإمكان خلق الأساطير في كل مرة ، وليس أدل على ذلك من إن بعض القادة العرب الذين حاولوا لاحقاً تقليد شخصية عبد الناصر لم يحالفهم النجاح بل أن محاولاتـهم كانت مثيرة للكآبة في أفضل وصف . أما قصيدة نزار قباني في رثاء عبد الناصر ( قتلناك يا آخر الأنبياء ) فهي من العلامات الثقافية التي تشير إلى كون بعض الأدباء العرب ما زالوا، في قسم من إنتاجهم، خاضعين للجوانب المنكفئة من ثقافة شعوب المنطقة وما يماثلها من شعوب تعاني من مشكلة الخذلان السياسي بسبب كثرة الانكسارات والهزائم التي تخلق عادة عقدة الشعور بالذنب من جراء كثرة التضحيات التي تقدمها دون أن تصل إلى الحلول المنشودة، ولهذه القصيدة أصداء ومثائل كثيرة في تراث المنطقة وبضمنه التراث العربي الأدبي والشعبي، وهي دليل إضافي على كون شخصية (البطل ) والتي لا تحل المشاكل عادة، سرعان ما تتحول هي بدورها إلى مشكلة على هيئة عقدة شعور بالذنب ترهق العقل والمشاعر دون أن يكون لها جدوى أو مبرر خاصة في الثقافة الحديثة التي يفترض بأنـها تجاوزت مثل هذه العُقد .
لكن ذلك البعض ما يزال يذكّرنا بذلك التشييع المهيب بصفته دليلاً على مصداقية السياسة الناصرية، متناسياً بأن نظام عبد الناصر وسلطة المباحث والمخابرات التي نشأت معه هو المسؤول عن هزيمة حزيران ، وإن الإنجازات الكثيرة التي تحققت بما فيها التعليم الـمجاني وبناء السد العالي، كانت ضرورة لا بد منها للمجتمع المصري الذي تحمل أعباء هذا المشروع الكبير وكان سيحققه حتماً بحكم الحاجة والضرورة سواء أكان عبد الناصر موجوداً أم لا ، فتلك الحاجات والضرورات هي التي كانت تقف وراء جملة الصراعات في الفترة الملكية، والتي تراكمت لتكون حصيلتها ثورة أو حركة 1952 ، فمثل هذه القضايا المصيرية لا يمكن أن تتعلق بوجود هذا الضابط أو ذاك . وبالتالي فليس من الإنصاف التغافل عن جدارة وجهود شعب كامل معروف تاريخياً ببناء حضارات مشهودة هي من أهم الحضارات في تاريخ الإنسانية، وإسناد كل ذلك لمصلحة شخص واحد لكي تستمر المناحة عليه إلى الأبد !! ناهيك عن إزاحة اللواء محمد نجيب ومصادرة المشروع الديمقراطي معه. وعلى أية حال فمهما كانت عظمة عبد الناصر بالنسبة لمؤيديه، فالفضل فيها يعود للشعب المصري الذي أنجب عبد الناصر وسواه وليس العكس، وهذه حقيقة. ولا بد من القول هنا بان قلب الحقائق على رأسها، الذي يرافق صعود نجوم السياسة في العالم المعاصر عادة، أدى إلى كثير من السلبيات بما فيها جعل قطاعات من المصريين والعرب الآخرين تشعر ب( اليتم ) بعد رحيل عبد الناصر كما لو أن الدنيا قد انتهت وانتهت معها أحلام الناس وطموحاتـها ، وهذا أمر غير واقعي وغير صحيح طبعاً ، ولكن تأليه ( الأبطال ) هو الذي يخلق مشاعر غير طبيعية ومضطربة عند أنصارهم ومؤيديهم .
إن ثقافة تـهويل ( الأبطال ) القوميين والذين تتحول ( بطولاتهم ) عادةً إلى كوارث ضد بلدانـهم، ومن ثم ترميم صورهم بعد الهزيـمة، تعني في وجهها الآخر ، تصغير إنسانية المجتمع المعني والتقليل من شأنه وقدراته، وتحويله إلى جماهير مصفقة لا حول لها ولا طول سوى انتظار عطايا القائد وإنجازاته !! وهذه في الواقع ليست ثقافة إنما كارثة ثقافية. والغريب حقاً هو أن نجد بيننا من لا يزال يعيش على أوهام وأنقاض تلك الكارثة، وبإصرار لا يـُحسد عليه!!
عندما أقدم عبد الناصر على إعدام الإسلامي سيد قطب والشيوعي شهدي عطية، فهو قد أعدم، رمزياً، اليسار واليمين !! فأين كان يقف هو يا ترى ؟! إننا نستطيع أن نجد الجواب الأفضل عبر تأمل طبيعة التـجربة الناصرية ذاتـها، فتلك القضية بالذات تـحيل إلى أزمة الثقافة الثورية والسلطة الثورية التي لا بد لـها أن تلغي تنوع الـمجتمع وتعدديته لكي يتسنى لـها تكريس سلطة الحزب الواحد والزعيم الأوحد ، أي تحويل الـمجتمع إلى كتلة هلامية لا تستطيع أن تفعل شيئاً دون أوامر القائد !! وهذا هو سر توقف التجارب الثورية عند طريق مسدود وفشلها الذريع عندنا وعند سوانا .
وعود على بدء، فليس من الخطأ القول هنا بأن التنكيل الذي مارسه أنور السادات ، بعد توليه الرئاسة، بالقوى الوطنية المصرية يـميناً ويساراً ، لـم يكن سوى صورة مكبرة لما كان قد فعله جمال عبد الناصر . وفي نفس هذا السياق الواقعي، فان الفضل في انتصارات حرب أكتوبر 1973 إنما يعود لتضحيات وإرادة جيش مصر وشعبها الذي دفع ثمن ذلك غالياً، ولو لـم يكن السادات موجوداً ، لـتحتم على أي رئيس مصري آخر أن يـتجاوب مع إرادة الـمجتمع وربـما بطريقة أفضل، فليس من الصحيح ولا من الواقعي أن نتصور ، مجرد تصور ، بأن الـمصريين سيظلون مهزومين لو لـم يكن هذا القائد أو ذاك موجوداً، وإذا كان ليس بالإمكان إنكار دور الأفراد في التاريخ، فان هذا يحدث عندما يقوم أولئك الأفراد بإنجازات لشعوبـهم يصعب تصور تحقيقها بدونـهم، فهل هزيمة حزيران ( يونيو ) 1967 أو نصف الانتصار في أكتوبر 1973 تنتمي لذلك النوع من الإنجازات ؟!
ورغم إن الباحثين والمؤرخين غالباً ما ينشغلون بالأحداث والتفاصيل على حساب جوهر المسألة وخلفيات نشوء الظواهر ، فأن منطق الحياة ذاتـها كثيراً ما يضعنا أمام الحقائق وجهاً لوجه، ومنطق الحياة يعني دائماً جوهر التجربة الإنسانية، وعلى هذا الأساس تغير مستوى إدراك الـمجتمع المصري، فهو قد حارب وانتصر في 1973 بدون عبد الناصر، وكان بإمكانه تطوير ذلك الانتصار لولا أخطاء السادات المعروفة، والنظام الديمقراطي القائم هو أفضل من أي نظام ثوري أحادي الجانب يمكن تصوره، ليس لأن هذا النظام الديمقراطي يمتاز بالمثالية أو بالدرجة الـمطلوبة من التطور ، فهو لـم يتمكن حتى الآن من حل جميع المشاكل والأزمات الرئيسية ، ولكنه يبقى نظاماً سياسياً وليس شركة مسجلة باسم ( البطل القومي ) كما يحصل في النظم الثورية عادةً . ولأنه نظام سياسي فهو يضع الـمجتمع أمام معطيات تـجربته وإمكانياته وجهاً لوجه، حيث يقع على عاتق الصحافة والأحزاب كشف الحقائق كل يوم، فطبيعة التجربة الواقعية هي التي تتكفل بإنتاج الـحلول الـممكنة، وهي التي ستختبر مصداقية الأفكار والمشاريع الـمطروحة، لأن الأناشيد الثورية لـم تـحقق طموحات أي مـجتمع على الأرض، ونقد الـتجربة الناصرية لا يعني الـتخلي عن ثوابت السيادة والـمصالح الوطنية، ولا رفع مسؤولية الحلول الاقتصادية والاجتماعية عن كاهل الدولة، بل على العكس تماماً، فالنظم الثورية التي تتغنى بالثوابت الوطنية إنما تستعملها للدعاية والمزايدات فهي غالباً ما تحولها أداةَ قمعٍ للآخرين كلما واجهتها استحقاقات العدالة والحريات العامة، ف( البطل القومي ) هو الذي لا يستطيع تحقيق ما ينادي به مهما كان إخلاصه وقدراته، فهو شخصية مُصدَّرة من الماضي، ماضي الـمجتمعات القبلية المحدودة المشاكل، وهو ما لا علاقة له بتعقيدات الـمجتمعات الـحديثة، حيث دولة الـمؤسسات في ظل النظام الديمقراطي تستطيع باستمرار تطوير قدراتـها على تحمل ومواجهة تلك التعقيدات والأعباء .