|
معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة 8
جاسم المطير
الحوار المتمدن-العدد: 2311 - 2008 / 6 / 13 - 11:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الذكاء هو الصفة الاكثر ملاءمة لنجاح عمل ثوري من نوع الهروب من سجن محاط بالجدران العالية ، محروس بعدد غير قليل من السجانة المسلحين من ذوي الشخصيات المصممة والمدربة على قمع السجناء وازدراء كل قيم الانسانية . الخطوة الاولى في هذا العمل هي توفر العلاقات الشخصية البعيدة عن الانفعالية بين مجموعة المخططين والمنفذين اعتمادا على عوامل الكفاءة المعرفية بجميع جوانب وبيئة العمل كما يجب ان تكون العلاقات قوية وذكية لكي يمكن لنخبة التخطيط ولنخبة التنفيذ مواصلة عملية حفر النفق من دون ان ان تنكشف في أي مرحلة من مراحلها التي ستكون طويلة بدون ادنى شك . وقد اتخذ نصيف الحجاج ومظفر النواب وحافظ رسن شكلا رفاقيا نادرا في علاقاتهم اليومية على مر فترة وجودهم المشترك داخل سجن الحلة وكانت القوة المحركة لجميعهم هي الذكاء والتفاعل المتبادل ضمن سياق هذه العملية الثورية المفعمة بالوعي والاستعداد والبرمجة وفق مبدأ خطوة خطوة . ثمة شائعات كثيرة عن احتمال هروب سجناء من سجن الحلة في هذه الظروف السياسية المعقدة المحيطة بالبلد . ومن المعروف أن الشائعات دائما موجودة في كل سجن ، لدى ادارة السجن ، ولدى السجناء وهي امر طبيعي في ظل ظروف سجنية لا ترحم كظروف السجناء السياسيين في العراق . ادارة السجن في حذر دائم وفي يقظة دائمة . وبين السجناء لا يتوقف تداول مفردة الهروب . هذان الموقفان كانا في حسابات مسئول السجن نصيف الحجاج ولدى فريق تخطيط الهروب لذلك ليس هناك متسع من الوقت للبدء بحفر النفق غير الانتهاء من دراسة جميع المقترحات والاراء المطروحة حول واقع الموقفين المذكورين ، وصولا الى الصيغة التالية : الحفر والهروب من الصيدلية ، والتضليل يجري من المطبخ . تقرر تكليف فاضل عباس وعقيل حبش الجنابي بمهمة القيام بما يساعد على بقاء خيال ادارة السجن متركزا على " المطبخ " . وبتداول الامر بين مظفر النواب وحافظ رسن تم استدعاء فاضل وعقيل للذهاب الى المطبخ واجراء الكشف المطلوب عليه كشفا دقيقا لمعرفة مقدار المساحة التي يحتاج اليها " ركَم الخشب " لايجاد عازل بين المطبخ ومخزن المواد الغذائية التابع له . وقد تجاوب فاضل عباس وعقيل حبش بسرعة وحماس في دراسة هذه المهمة واحتياجاتها وقد برهنا على ذكائهما في مسعاهما السريع في انجاز مهمة الدراسة لخدمة هدف الهروب وهما في الواقع لم يكونا عارفين ، بعد ، بقرار يتعلق باختيار " الصيدلية " معبرا إلى الحرية وهو قرار أتخذ بشكل نهائي غير قابل للتغيير كمنطلق للهروب . بعد وقت قصير من ذهابهما الى المطبخ والمخزن وتحديد قياسات جغرافية مضبوطة للجدار الخشبي العازل ، انتظمتْ افكارهما الكاملة ووجدتْ مكانها على ورقة صغيرة عن خطة العمل وعن مقدار كمية الخشب التي يحتاجان اليها لإتمام عملية "الركَم " وكذلك عدد المسامير وغيرها . انتقلت الورقة من يد فاضل عباس الى يد حافظ رسن ، ومن ثم إلى يد نصيف الحجاج . انتقلت الورقة من يد نصيف الحجاج الى يد احد مندوبي السجناء لدى ادارة السجن بقصد تقديم طلب رسمي الى مدير السجن للحصول على موافقته لبناء جدار خشبي بين المطبخ والمخزن ومن ثم تزويدنا بالكمية المحددة من الخشب والمسامير والادوات الاخرى . بعد قليل شعرنا ان ادارة السجن كانت مفرطة في اللين والتساهل والتجاوب فقد ابلغ ممثلنا بموافقة مدير السجن على هذا الطلب وهذا معناه انها لم تدرك الوجه الخفي لاهداف " ركَم " الجدار بين المخزن والمطبخ . ربما ادركت الادارة بــ" ذكائها " الخاص ان السجناء الشيوعيين يريدون استخدام المطبخ طريقا للهروب . وبسبب ان موقع المطبخ ليس بعيدا عن موقع الادارة وتحت بصر ربايا المراقبة فقد وافقت بسرعة على مطلبنا لوضع المطبخ تحت رقابتها الصارمة وافشال خطة هروب سجناء كانت قد ضمرت في رؤية مدير السجن واعوانه عن هذا المكان وليس غيره . أثار هذا الموقف الغبي ، من وجهة نظرنا ، والذكي من وجهة نظر ادارة السجن ، نبرة خاصة مشجعة لدى فريق تخطيط الهروب وكانت مبعثا لسرور عميق لا يخلو من شجن مثل سامع غناء الميجنا والعتابا وقد وجد هذا الموقف صدى ايجابيا واسعا في تفكير مظفر النواب ونصيف الحجاج وحافظ رسن ، إذ كان معناه الاول ان خطوة التضليل قد نجحت وان سرعة استجابة مدير السجن تعني تفسيرا لجذوة الادارة وحساسيتها ورغبتها الخاصة في تشديد إجراءات الرقابة التي ستركزها على" المطبخ " وليس على موقع آخر ، مما يفرض علينا التعامل مع هذه الخطوة بالتواصل الايجابي مع خطوات لاحقة مقررة سلفا وصارت الضرورة ملحة باهمية إبعاد القلق والحيرة من صدور فريقي التخطيط والتنفيذ فقد صار عندنا امل بالنجاح تضاعف هذا اليوم الف مرة عما كان قبلا ، وقد اصبح لوقتنا لون خاص وطعم خاص وعلينا ان نستفيد من كل دقيقة وساعة فيه لكي نجتاز جدران السجن باجنحة تتبارى رؤوس فريق التنفيذ لصنعها باسرع ما يمكن وصولا الى صفوف الحزب المضرج بالدم . من جهة ثانية كانت هذه الخطوة دافعا لممثل السجناء النقيب السجين الشيوعي جبار خضير ، الوسيط اليومي بين داخل السجن وخارجه ، بين السجناء والسجانين وهو شاب متماسك وذكي ونشيط ورزين في تصرفاته ، للاستفسار من مسئول المنظمة الحزبية نصيف الحجاج عما دار في خلده بأن خطوة عزل " المخزن " عن " المطبخ " هي جزء من افتراض عملية هروب قادمة فأجابه نصيف الحجاج بدرجة عالية من الموثوقية انها فعلا جزء من هذا الافتراض وأن عليه ان يكون ، ابتداء من الآن، بمستوى هذا الفعل الثوري الذي تستعد المنظمة لتنفيذه وعليه ان يتعامل مع ادارة السجن مستقبلا بكل انواع الخطوات والعبارات والاجراءات التي تساعد في تضليل وتعمية أفراد تلك الادارة . بعد 48 ساعة تجسدت حقيقة التضليل فقد كان الخشب المطلوب توفيره من ادارة السجن جاهزا بل منقولا بأيدي السجانة وموضوعا بالمكان المطلوب في المطبخ .. هذه الفرضية صارت في مرحلة الاختبار الناجح. انها المرة الاولى التي تتجاوب بها ادارة السجن مع مطلب السجناء بمثل هذه السرعة. خلال يومين كان الجهد المتتابع من قبل فاضل عباس وعقيل حبش وبتجانس ِ أهدافهما المشتركة وسباقهما المتحمس فقد تم انجاز الجدار الخشبي بسرعة متوافقة مع سرعة مدير السجن في تلبية مطلب الخشب . كانت مهمة صنع هذا الجدار تبدو بمعنى من المعاني ان لها علاقة بتاريخ كل واحد منا وان نجاح الهروب سيوقظ مدينة كل واحد منا . فكان انجاز المهمة قد تم بقدرة مهنية فائقة أعجب بها مدير السجن . وقلت مع نفسي : لك المجد يا فاضل عباس فقد صار عنق النفق تحت قدميك . ولك المجد يا عقيل حبش فقد وفر صنيعك امكانية العزف على قيثارة الحرية . هذا الاختبار الناجح قدّم دفعة ً جديدة ً للخطوة الثانية المفترضة قبل البدء بالحفر . إذ لا لا بدّ من ابلاغ فريق التنفيذ بضرورة دراسة جميع الامور المتعلقة بخلفية الحفر في الصيدلية اعتمادا على قدراته في فهم ورسم مسارات العمل اليومي لهذا الفريق وسياق عمله الجماعي في استيعاب طبيعة المشاكل المحتملة والبحث عن حلول لها . من جانب ثان كان لا بدّ ايضا من ايجاد تضليل من نوع اخر ، هو ضمان دخول وخروج فريق التنفيذ الى الصيدلية ، ليلا ونهارا ، من دون ان يثير ذلك سؤالا ما لدى السجناء انفسهم على اعتبار ان هذا الفريق ليس من العاملين في الطب او الصيدلة وربما يؤدي ترددهم اليومي على الصيدلية الى تفاعل اسئلة كثيرة بين السجناء عن اسباب التردد كل ليلة مما يعزز فكرة الاستعداد للهروب خصوصا وان السجناء الشيوعيين يتميزون بذكاء متفاعل مع حركة بعض كوادر السجناء لمعرفة مهماتهم داخل السجن مما قد يؤدي الى احتمال معرفة الاستعدادات للهروب من خلال استنتاجات ذكية لهذا أو ذاك من السجناء أو المتطفلين . مثــّـل الدور المهم الذي لعبه حافظ رسن مع حسين سلطان في مناقشات ، من قبل ، ومع نصيف الحجاج في نقاش ، من بعد ، ان افضل طريقة في المحافظة على سرية العمل بمكان الحفر وعلى سرية حركة رواده هو ايجاد علاقة ارتباطية بين مكان الحفر وبين كادر استنساخ الجريدة اليومية السجنية . التقط هذا الارتباط فعلا خلال لقاءات فريق التخطيط وتقرر اختيار الصيدلية مكانا لاستنساخ الجريدة السجنية كما تقرر اناطة مهمة الاستنساخ بأسماء سجناء كلهم من أعضاء فريق التنفيذ . الهدف العملي المحدد من هذه الخطوة هو تقديم تفسير مقبول لسؤال قد يروجه بعض السجناء : لماذا يتردد حسين ياسين وكمال ملكي وجدو وعقيل حبش على الصيدلية كل ليلة ..؟ الجواب تقدمه الجريدة اليومية المنطلقة صباح كل يوم من " مكان " الصيدلية حيث يعمل هذا الرباعي نسّاخا للجريدة بقصد توزيع نسخة واحدة لكل قاووش . ووفق هذا المنحى فلا احد من داخل السجن تساوره شكوك تفرض اقتفاء آثار خطى وحركة فريق مكون من رباعي متميز بقدرات عقلية وعملية وبمهارة الفعل اليومي المثابر والاستدلال في تهيئة ظروف نجاح العبور الى الحرية من نفق الحرية بوساطة الحفر على باطن ارض النفق والحفر بالكلام الطيب على ورق الجريدة السجنية في وقف واحد . مهمتان بوقت واحد ..
يتبع
#جاسم_المطير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول الانتخابات المحلية القادمة أقول : إن الكوز الفخّار سريع
...
-
التاريخ العراقي يعيد نفسه مع بائع فلافل ..!!
-
إلى المليارديرية والمليونيرية وكل المردشورية في النجف الأشرف
...
-
ترياق ايراني من نوع اكسترا ..!!
-
معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة 7
-
الحرب والموت هما المد والجزر في بحر الرأسمالية الأميركية ..!
...
-
نصر الله .. حزب الله .. أبن الله ..!
-
معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 6
-
النكتة السياسية البغدادية أصدق أنباء ًمن الصحف ِ ..!!
-
أستاذة جامعية هاربة من أهوال زوجها الملتحي ..!
-
يا رئيس الوزراء لا يأتي إصلاح من الجرذان ..!!
-
معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة 5
-
بيان هام من مؤسسة السكارى في بصرة الناسكين الغيارى ..!!
-
معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة 4
-
معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة (3)
-
معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة (2)
-
مفيد الجزائري .. أمين على المال والمبدأ أينما حل وارتحل ..!
-
واثقافتاه .. يا وكيل وزارة الثقافة ..!
-
نصر الله .. حزب الله .. جورج الله ..!!
-
معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة (1)
المزيد.....
-
الجيش الإسرائيلي يوسع عملياته في الضفة الغربية و-يجبر- عائلا
...
-
-ديب سيك- تطبيق صيني يغير معادلة الذكاء الاصطناعي العالمي..
...
-
الأزهر يعلن رفضه القاطع لمخططات تهجير الفلسطينيين
-
إقالة 12 مدعيا شاركوا بمحاكمة ترامب
-
أميركا تواصل ترحيل مهاجرين إلى غواتيمالا وتتجاوز الأزمة مع ك
...
-
سوريا.. ضبط شحنة كبيرة من الحبوب المخدرة على معبر نصيب الحدو
...
-
حرصا على كرامتهم.. كولومبيا تخصص طائرات لإعادة مواطنيها المر
...
-
مجلس الشيوخ يصوت على تعيين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة
-
تاكر كارلسون: بلينكن بذل كل ما بوسعه لتسريع الحرب بين الولاي
...
-
دراسة تتوقع ارتفاع الوفيات في أوروبا بسبب شدة الحر بنسبة 50%
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|