أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - منذر بدر حلوم - - مشكلة الشخصية -1- بين الحرية البيولوجية و القيد الأيديولوجي















المزيد.....


- مشكلة الشخصية -1- بين الحرية البيولوجية و القيد الأيديولوجي


منذر بدر حلوم

الحوار المتمدن-العدد: 716 - 2004 / 1 / 17 - 04:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


" الشخصية ليس فقط تستطيع تحمّل الآلام , بل هي ذاتها بمعنى ما ألم ."   بيرديايف  
    ثمة مفارقة قد تستوقف  القارئ في العنوان , مفارقة أن يكون في البيولوجيا حرية , و ألاّ يكون مثلها في الأيديولوجيا . و لكن أهي المفارقة الوحيدة التي تشير إلى انسلاخنا من كائنات متفردة جمالها في اختلافها , إلى كائنات تتنكر لجوهر الحياة الكامن في الاختلاف , و تمجّد قبح التماثل ؟
    حين لا يكون الإنسان شخصية يكون أشبه بالشيء أو يكون " شيئا إنسانيا " . و في أن يفقد الإنسان شخصيته ارتداد إلى حيوانيته . بيد أن الطبيعة نفسها ما ارتضت للإنسان أن يكون شيئا أو أن يكون مجرد حيوان حتى يرتضي هو لنفسه ذلك . فلا بد للإنسان , بصفته كائنا اجتماعيا و ثقافيا , من أن يعبّر , في اجتماعيته و ثقافيته , عن التميّز و التفرّد و الأصالة القابعة في جذره البيولوجي كي يكون ذاته , أي كي يكون إنسانا و من ثم شخصية .
    أما الحياة فتقول بالاختلاف قبل أن تقول بالتماثل , ذلك إذا كانت تقول بالأخير . فالإنسان يجد نفسه في محاولته لإعادة إنتاج ذاته , مضطرا لإنتاج شخص آخر مغاير  له بالضرورة , فما " النشاط الجنسي " , على سبيل المثال , إلاّ " آلة لصنع المختلف " كما يقول فرانسوا جاكوب حائز جائزة نوبل للطب في كتابه " لعبة الممكنات " فـ " إذا كان يجب أن نكون اثنين معا لكي نعيد إنتاج ذاتنا , فانّ ذلك لكي نصنع آخر مغايرا لنا " . فأي حاجة بنا إلى شخص يشبهنا تماما و يفكر مثلما نفكر بالضبط ويتمنّى ما نتمّناه و يطمح إلى ما نطمح إليه دون سواه و يرى الأشياء كما نراها دون زيادة أو نقصان  ؟ أي حاجة بنا أو بالحياة إلى هكذا نسخة ؟
    تخيّلوا مجتمعا جميع من فيه متشابهون متماثلون.إنّ  تصوّر ذلك , بحد ذاته , يثير الرعب عند البعض و الاشمئزاز عند البعض الآخر و أشياء أخرى غير طيّبة, بالتأكيد , عند البعض الثالث . فلا بد أن تنتفي الحاجة إلى الأسماء في ظل التماثل . بل لا بد حيال ذلك من دمغ جلود البشر بأرقام تميز الواحد عن مثيله .
    تخيلوا كم ستكون مضجرة مدينة جميع أبنيتها متماثلة , وكم سيكون فظيعا أن يغطي وجه الأرض نبت من صنف واحد , لثماره شكل واحد و طعم واحد و رائحة واحدة . لا أحد يريد أن يعيش في خارج متماثل  سيكون قبيحا مهما بدا عنصره الواحد جميلا. بيد أن معظمنا يضحي , عن طيب خاطر , بالمتمايز المختلف في داخله , تحت حجج و ضرورات مختلفة : اجتماعية و سياسية و ثقافية ..الخ.
     إذا كانت النعجة دوللي قد نقلت التماثل البيولوجي المعادي لفكرة الحياة , دفعة واحدة , من الخيال إلى الممكن , فان الكثير من أيديولوجيات التماثل الفكري تسعى منذ زمن عهيد , عبر دماء تسيل في مخابر الأيديولوجيا- المعتقلات , إلى تماثل معاد لمقولة الفكر بحد ذاتها , ناسية " الدرس المبدئي لعلم الوراثة " الذي يقول , - على حد تعبير البير جاكار في كتابه " مديح الاختلاف" - , بـ " أن الأفراد وجميعهم مختلفون , لا يقبلون التصنيف أو التقييم أو الترتيب ".
    للأسف , لا   يقر الكثير من الأيديولوجيات السياسية بالغنى الذي يكمن في الاختلاف . فالأخيرة تتوهم إمكانية الوصول إلى تماثل فكري بما يناقض فكرة الحياة ذاتها فتكون بذلك أيديولوجيات موت . و قد يكون مثال علم الوراثة السوفيتي و ذكر ليسينكو القبيح من أبشع الأمثلة في التاريخ- تاريخ قسر الأيديولوجيا للخلق و العلم لأن يكونا كما تريد فما كانا وما كان إلا موت العلماء و موت المؤمنين بالتمايز والاختلاف من غير العلماء .
    إذن, فالبيولوجيا العامّة التي تقول بتشابهنا كمنظومات حيوية عامّة تخبئ تمايزا يؤكد أن " الحاجة الأكثر عمقا , الأكثر جوهرية , هي أن تكون متفردا , لكي تكون فعلا " موجودا . فجاكار يؤكد انطلاقا من التمايز البيولوجي- الوراثي " أن ما يستحوذ على فكرنا , هو أن يحصل واحدنا  على الاعتراف بأنه شخص أصيل لا يحل محلّه أحد [ فـ] أية هدية يقدّمها الآخر أكثر جمالا من كونه يعزز تفردنا و أصالتنا و ذلك بسبب أنه يختلف عنّا ؟"
    لا تقف البيولوجيا وحدها في صف المدافعين عن قيمة الاختلاف , بل تقف الفلسفة , جنبا إلى جنب , معها , حين تؤكد أن ثمة" نواة مقيمة ثابتة" فريدة تجعل من كل إنسان شخصية , كما جاء لدى أليكسي لوسيف في كتابه " فلسفة الأسطورة", أو " مركز وجودي مطلق" كما يقول نيقولاي بيرديايف في بحثه " عن عبودية الإنسان وحريته "- مركز يجعل الشخصية تحدد ذاتها من الداخل. فالتحديد من الداخل خارج مقولة الموضوعية , أي التحديد من الحرية هو الذي يكون الشخصية .
    غير بعيد عن ذلك يقف علم النفس . فكارل يونغ يقول في بحث له بعنوان " صيرورة الشخصية " بقانون داخلي خاص بكل فرد , بقسمة شخصية تكون بمثابة القدر الشخصي , على الإنسان إيجادها و القبول بها , بل حبها ليكون ذاته , أي ليكون مختلفا عن الجميع , فيكون من حيث هو واحد لا يتكرر مشابها للإله .
    غير أن القول بهوية وراثية و وجودية و نفسية تخص كلاّ منا لا يكفي لجعل أي منا شخصية .
فثمة عناصر لا بد من تحققها لتحقق الشخصية , عناصر تجعل الشخصية تكون بالهوية التي ذكرناها و لكنها لا تكون بها وحدها . فالشخصية , كما يؤكد بيرديايف , " ليست مقولة بيولوجية أو سيكولوجية , إنما هي مقولة أخلاقية وروحية , و ليس لشخصية أن تتطابق و أخرى , فثمة أساس طبيعي لا واع في كل شخصية . و الشخصية بما هي كائن عاقل لا تتحدّد بالعقل , ولا يجوز تحديدها كحامل عقل . فالعقل بحد ذاته عام وغير شخصي " .    
    ذلك لا يعني القفز فوق البيولوجيا التي كانت مدخلنا إلى البحث , البيولوجيا التي تهيئ للعقل أن يكون و للفكر و الوعي أن يكونا , إنما يعني تخصيص النظر في مقولة فلسفية لا يشغل أساسها البيولوجي الفلسفة . مع أن البحث الفلسفي في سويات الإدراك و مشكلات الوعي عموما يصعب أن يتم بمعزل عن معرفة بيولوجية عميقة و معرفة دقيقة بسلوك الكائنات الحية .
    قد تكون العودة إلى عمل جاكوب , الآنف الذكر, مفيدة في هذا الموضع , من خلال أنه يرى التاريخ و الثقافة في البيولوجيا . فالتاريخ من وجهة نظره " يكتسب أهمية أكبر بكثير في البيولوجيا " , وما الكائنات الحية في الواقع " إلاّ بنيات تاريخية . فهي مخلوقات التاريخ بالمعنى الحرفي للكلمة ".أمّا بالنسبة للإنسان فإذا كانت دراسته لا يمكن أن تقتصر على البيولوجيا فإنها يجب إلاّ تستغني عنها , بل هي لا تستطيع ذلك لو أرادته فيما لو كانت تحاول الوصول إلى معرفة الإنسان . و لا تخفى على القارئ الإشكالية الخاصة بين الفلسفة و البيولوجيا , وإلصاق تهمة الرجعية بالفلسفات التي تأخذ بالبيولوجيا , و تبني بعض الأيديولوجيات لها, فـ " التبعية المتبادلة بين البيولوجي و الثقافي كثيرا جدا ما تبخس حقها لأسباب إيديولوجية أو سياسية , عندما تنفى بلا قيد أو شرط".
    إذا كان جاكوب يصل إلى هذا الاستنتاج قادما من فلسفة الحياة العضوية , الحياة التي تجسد التاريخ العام كما تاريخها الشخصي , فان ليف غومليوف , قادما من فلسفة التاريخ , تاريخ الجماعات البشرية , يصل إلى استنتاج مشابه يؤكد على أهمية التمايز البيولوجي الوراثي و على الخسائر الفادحة التي يتعرض لها الإثنوس حين يفقد البنيات الوراثية التي تشكل أساسا حيويا للشخصيات التي تصنع التاريخ . فكأني به يؤكد ما كان جاكوب أخذه عن إدغار موران قائلا " إن غنى زمرة ما يأتي من طافريها , متمرديها و من طفراتها البيولوجية ", يؤكده من وجهة نظر عالم التاريخ حين يقول في كتابه (تشكّل الإثنوس ووسط الأرض الحيوي) : " يؤدي القضاء على الأنماط الوراثية الحدية إلى إفقار الإثنوس بخفض تنوعه . و من شأن ذلك أن يضعف مقاومة الجماعة الإثنية عموما , الأمر الذي لا يكون محسوسا بدرجة كبيرة , في الظروف الطبيعية , لكنه يظهر بصورته المؤلمة عند أول صدام مع الجيران الأعداء , أو مع ظروف الوسط الحيوي . فغياب العناصر الفعالة القادرة على العمل و التضحية لا بد أن يترك أثرا مؤلما ". أما غياب العناصر الفعالة فيكون بالإلغاء الجسدي , كما يكون بفعلِ كل ما من شأنه أن يمنع تشكل الشخصية  حيث تقدس الوحدانية و النمطية و التماثل .
    أما أهمية الشخصية فهي أهمية كسر السكون , أهمية الخلق و الإبداع , أهمية صناعة التاريخ و صناعة الحضارات . فلا تقوم قائمة  لشعبٍ , ما لم يحرص أسياده على تمايز الشخصيات فيه و يعززوا وجودها . و إنها لمفارقة مؤلمة أن تقوم الأيديولوجيا التي تمجّد دور القائد الشخصي الفرد , أن تقوم بإلغاء كل الشخصيات الأخرى , فذلك وحده من شأنه أن يكفل له الامتياز و التفوق في كل شأن و كما كان الحال في ظل الستالينية في الاتحاد السوفيتي السابق وفي ظل الصدّامية البعثية. فقد زج في السجون بكل المختلفين المتميزين المتمايزين الذين يرون أو يمكن أن يروا ما لا تراه الأيديولوجيا , و يقولون ما لا تقر به . فكان ما امتدحته الأيديولوجيا على أنه حسم للصراع لصالحها واستقرار لصالح الرعية , وما أسماه العلم ركودا , أعقبه كما رأينا الانهيار .
    أما الفرق بين الاستقرار و الركود فكالفرق بين بحيرة حية و مستنقع ميت , تتجدد في الأولى الحياة الطبيعية  و تتطور , بينما يتم في الثاني إنتاج ما يخنق الأحياء و يدهور الحياة .        


            2-وعي الصيرورة و شروطها
" ناهيك عن أن الناس يولدون متساوين , فهم يولدون مختلفين "
                                                      إريش فروم
    إلى جانب القول ببيولوجيا تؤكد اختلاف كل فرد عن الآخر , بل تجعل من الاختلاف مرادفا لفكرة الحياة , والى جانب الفلسفات التي تقول بنواة خاصة متميزة في كل فرد تكون أساسا للشخصية , والى جانب علم النفس الذي يقول بقانون داخلي خاص يحكم كل فرد و يجعل منه واحدا ليس كمثله أحد , إلى جانب ذلك كلّه ثمة ما يجعل الإنسان شخصية , شيئا لا تكون الشخصية دونه . ذلك أن الشخصية لا تكون بالتفرد وحده و بالاختلاف وحده و لا بهما  وحدهما معا .
    أما العوامل التي تجعل تحوّل الإنسان إلى شخصية ممكنا , فهي ذاتها العوامل التي تكون لها ظهوراتها المختلفة في أوجه الشخصية و أقانيمها المتعددة , العوامل التي كما تتجسد في الشخصية المتحققة , تتجسد كذلك في صيرورتها .فبأي شيء غير التمايز والاختلاف تكون الشخصية ؟ ذلك ما سنحاول عرضه فيما يلي من أطروحات :
1-" الإنسان قائما بذاته – كما يقول لوسيف – كان يمكن ألاّ يكون شخصية , كما ليس للفيل , مثلا , شخصية , على الرغم من قوته العظيمة ".فالتمايز البيولوجي وحده غير كاف لجعل الإنسان شخصية , ذلك أن مثله يمكن العثور عليه حتى عند الحيوانات , بل و النباتات ؛
2-التفكير هو الآخر غير كاف لجعل الإنسان شخصية . ذلك أن درجة ما من درجات التفكير سمة كل إنسان بما هو إنسان . و هذا بدوره يقود إلى أن يكون الوعي بحد ذاته غير كاف لجعل الإنسان شخصية . فدرجة ما من درجات الوعي , أو نوع ما من أنواعه خاصية كل إنسان حي أيضا .فلو قلنا بكفاية التفكير بحد ذاته , أو الوعي قائما بذاته لتحقق الشخصية لعنى ذلك أن كل إنسان شخصية , أي لكان ذلك بمثابة الإقرار بمقولة عضوية لا علاقة لها بالفلسفة . غير أن الأمر لا يكون كذلك . فلا بد من نوع خاص تكون به الشخصية , غير أنها لا تكون به وحده ؛
3-يرى لوسيف أن الشخصية تقتضي قبل كل شيء وعي الذات و الثقافة . و ذلك ما يميزها عن الشيء . بيد " أن ما يميز الشخصية ليس وعي الذات فحسب , إنما وعي الذات الذي يكون عليه أن يظهر بفعالية على الدوام , والذي يجب أن يتضمن عمقا كامنا ". و ذلك يقتضي " وجود مختلفين في الشخصية , على أن يكونا متطابقين في هيئة واحدة لا تقبل الانقسام ".  هذا بدوره يعني ضرورة وجود تمايز ذاتي في الداخل يجعل الذات ذاتا حينا و موضوعا حينا آخر . كما يعني , إضافة إلى التمايز الداخلي , تمايز الذات مع كل الخارج الذي لا تكونه , مما يحقق فهما ذاتيموضوعيا للذات – الشخصية , ويتيح للشخصية تجسيد الثقافة . ومنه :
4-تكون الشخصية واقعية بالضرورة و هي " تتجسد في التاريخ " كما يتجسد التاريخ فيها حياة وثقافة . و بالتالي يكون وعي الذات الذي منه الشخصية و عيا من نوع خاص , يضع الذات على مسافة من الذات كما يضع كل الآخر على مسافة منها ,مما يحقق ذاتا ثقافية موعاة و واعية هي الشخصية . فتكون الأخيرة " مقولة تعبيرية " من حيث هي " ثقافة مجسّدة"؛
5-الشخصية مقولة أخلاقية و روحية , كما هي مقولة قيميه ( أكسيولوجية ) من وجهة نظر بيرديايف . و من شأن الفلسفة الوجودية وحدها أن تفسرها . فـ "  المجتمع من وجهة نظر الفلسفة الوجودية جزء من الشخصية , هو جانبها الاجتماعي , كما أن الكون جزء من الشخصية , هو جانبها الكوني ". هنا نرى الاجتماعي متضمنا في الثقافي الذي عبّر عنه لوسيف , و الذي يتجسد في الشخصية .
6-على العلاقة بين (الثقافي- الاجتماعي) من جهة و (الذات – الشخصية) من جهة ثانية ألاّ  تنتهي بتحويل الشخصية إلى موضوع . فتحويل الشخصية إلى موضوع كمثل تحويلها إلى شيء يعني موتها . فمن شأن الظروف التي تحول دون تحقق الذات أو تقسرها على أن تكون ما لا تكونه أن تؤدي إلى عدم تحقق الشخصية أو إلى تدهورها؛
 7-في الوقت الذي يشكل فيه تحويل الذات – الشخصية إلى موضوع لاشتغال خارجي قسري خطرا يتهدد الشخصية , نرى يونغ ينذر بخطر داخلي يمكن أن يطال ما كان أسماه القانون الداخلي " فمن شأن تغيير الإنسان لقانونه الداخلي الخاص أن يفقده إمكانية أن يكون شخصية , و يفقده مغزى حياته ".و بصرف النظر عن الخاصّية اليونغية للقانون الداخلي , فانه يعبّر عن ذلك الثابت الذي يسميه لوسيف " النواة المقيمة " و الذي يجعل به بيرديايف من الشخصية كونا صغيرا (ميكروكوسموس). فتكون الشخصية بذلك بمثابة " الثابت في المتحوّل و الوحدة في التنوع "؛
8-لكن ذلك الثابت, بما هو ذات, يتنّوع أيضا بتنوّع الذوات . فالثبات , هنا , و إن كان يضع الذات , من حيث هي واحدة لا تتكرر, في مواجهة الذات الإلهية مرّة , وفي مواجهة الكون مرّة أخرى , و في مواجهة قانون عام بدئي مرّة ثالثة , إلاّ أنه ثبات لا يؤدي إلى التماثل , بل يحرص من خلال عدم ذوبان الذاتي و عدم تماهيه في الآخر الذي يكون متفردا كمثله و من خلال الإبقاء على المسافة مع الآخر الجمعي , يحرص من خلال ذلك كلّه على التمايز و الاختلاف. فيكون عنصر الاختلاف في الشخصية ضرورة وجود , ضرورة كينونة , ذلك أنها لا تكون ما لم يكن ؛
9-و هكذا, فإلى جانب وعي الذات الذي عليه أن يعبّر عن نفسه بفعالية على مدى الحياة , إلى جانب ذلك يؤدي العنصر الثابت الخاص بكل فرد إلى التفرد بشيء خاص , التميز به . وهذه السمة من أهم الصفات المحدّدة لمقولة الشخصية . و لمّا كان الاختلاف بحد ذاته غير كاف لأن يجعل من الإنسان شخصية , كان لا بد لهذا الاختلاف من أن يعبّر عن نفسه على مدى حياة الإنسان تعبيرات متباينة تجسّد الشخصية , أي تنتقل بها من المفهوم المجرّد إلى الواقع ؛
10- مما سبق يكون على الشخصية الواقعية أن تجسّد في الواقع وعي الذات و الثقافة و الاختلاف معا ؛
11- بيد أن على الشخصية كي تكون شخصية ألاّ تنفعل بالثقافة و التاريخ حين تجسّدهما . بل عليها أن تكون على وعي دائم بصيرورتها الخاصّة , كما تكون على وعي بصيرورة التاريخ والثقافة , فتستطيع من خلال ذلك الوعي أن " تصنع نفسها , و تُغني نفسها , وتملأ نفسها بمحتوى عام , و تبلغ الفرادة في الكلّية على مدى حياتها ". من هذا المنظور يرى بيرديايف أن " الشخصية تبني ذاتها و تخلق وقائع وجود ذاتية متفرّدة لكي تكتسب قيمتها الوحيدة " التي هي الفرادة بالذات , الفرادة التي تجعل من الشخصية " واقعة إبداعية "؛
12-حين نقول بشخصية واقعية نقول بمعادل واقعي للشخصية يعبّر عنها , أي نقول بتجلياتها و ظهوراتها المختلفة في الواقع . و بالتالي فان افتراض مكمون غير متجسّد في الشخصية يعني أن الحديث يدور عن ذات و ليس عن شخصية . ذلك أن الشخصية تكون بالضرورة ذاتا مجسّدة تاريخيا وثقافيا و إلاّ فإنها لا تكون . لذلك , فكل فعل من شأنه أن يمنع أو يعيق ظهور الشخصية أو تجسد جانب من جوانبها يمنع ولا بد تحققها من حيث هي لا تكون ماهية إنما واقعة ؛
13-و هكذا , فالشخصية بما تكونه من وعي للذات و وعي لإرادة التحقق و شروطه, و بما هي واقعة إبداعية تكون مقولة حرّية . فالوعي والإرادة مشروطان بالحرية كما عملية الخلق الإبداعي كلها . و منه يمكن القول بأن كل تشويش يعيق الذات عن إنجاز عملية الوعي الذاتي , و كل ظرف يمنع وعي الذات من التعبير عن نفسه إبداعيا من شأنه أن يضرّ بتحقق الشخصية . بتعبير آخر , فإن كل ما يعيق الإبداع و ينافي شروط تحققه يؤدي بالنتيجة إلى الضرر بالشخصية , ذلك إن لم يمنع تحققها ؛
14-مما سبق يمكن أن نخلص إلى أنَّ في عدم وجود إبداع شخصي أو خلق شخصي أو ضآلتهما مؤشر يدل على عدم تحقق الشخصية . فمعلوم أن العمل لا يكون إبداعيا ما لم يكن أصيلا متفردا . و بالتالي ففي قلة الأعمال الإبداعية المتفردة في مجتمعنا مؤشر يدل على قمعية الواقع الذي يُضيّق على الذوات و يعيقها عن أن تتحقق كشخصيات , أو يحشرها في أنفاق النقص و التشوه ؛
15-و يجب إلاّ يفوتنا أن اشتراط الحرية لتحقق الشخصية يقتضي , من جانب آخر, وعي الحرية . ذلك أن تحقق الحرية , في عملية وعي الذات و العملية الإبداعية المجسّدة لصيرورة الذات الواعية إلى شخصية , يقتضي وعي الحرية كمثل أي عنصر من عناصر الصيرورة . فمن شأن عدم وعي الإنسان لحريته أن يفقده إياها و يوقعه في العبودية. أمّا من لا يعي حريته فمثله كمثل من لا يعي حدود وجوده . فأية حرية تملك حين لا تعرف أين تكون ؟
16-لكن ما تقدّم كله لا يعني أن الشخصية إن تحققت مرّة فلا يضيرها بعد ذلك أن تتبدل الشروط لصالح عدم تحققها . فالشخصية صيرورة دائمة و من أهم سماتها أن عليها تأكيد وجودها ما دامت ذاتا حية. ذلك يعني أن الشخصية يمكن أن تتعرض للتدهور و التقطع , بل و التدمير الذي يلغيها كمفهوم و يعود بمن كانها إلى رقم في قطيع . على أن التخريب يكون أشدّ فتكا حين يتضافر عامل داخلي مع العوامل الخارجية .
    ثمة من يعتقد , مثلا, بإمكانية ربط إبداعه(تحقق شخصيته) بعقيدة سياسية أو إيديولوجيا ما, و تحقق الإبداع على الرغم من ذلك . قد يكون ذلك ممكنا في طور النشوء و التكوّن . أما في الأيديولوجيات الصنمية الأحدية( المكتملة) أي المغلقة فلا فردية ولا تمايز و لا اختلاف , أي لا إبداع . أما من يكون في حدود عقيدة كمثلها و يفكر بغير ذلك فمن شأن تفكيره أن يقوده إلى الخروج والانفصال أو إلى الهلاك . نحن, هنا, لا نتحدّث عن الانشقاقات والانفصالات الحاصلة في صفوف أحزاب المعارضة التي تتبنى هكذا عقائد , فالانفصال هنا ,غالبا , ليس منطلقه الحرية و لا يقود إليها , ذلك أنه يتم في حدود المنظومة الأم و يقود بالنتيجة إلى منظومة ( فرخة ) من طبيعتها , كما لا نتحدث عن مصير الخارجين عن صنمية إيديولوجيا السلطات الذين ينتهون , في الكثير من الأحيان , إلى صنمية مشابهة حين يصبح (إبداعهم) مجرّد انعكاس للعقيدة التي يتوهمون الخروج عنها , أو تتحدد حريتهم بالتعبير, حين يكون ذلك ممكنا عن نفيهم لما يرتبطون به سلبا ارتباطا شديدا, ليس من منطلق حاجات الحياة وضروراتها إنما من منطلق قيود المنظومة التي يرتبطون بها سلبا , على الأقل , حين يستخدمون أدواتها و ينتجون ( فكرا) من طبيعتها يخدمها حتى لو لم يرد صاحبه ذلك. إنما نتحدث عن أولئك الذين يعون تفارقهم مع المنظومة التي ينتمون إليها ظاهريا و يختلفون عنها جوهريا فيحرصون على اختلافهم و يعون الحدود التي تصان ضمنها شخصياتهم .بيد أن ذلك عمل شاق , كل خطوة فيه بالغة الخطورة , كخطوات من يعيش في حقل ألغام , يعيش مدركا أنّ عليه أنْ يمشي و يبقى حيّا , بل سالما دون أذى . 
     أخيرا , إذا كانت الشروط السياسية و الاجتماعية تضغط باتجاه التشابه و التماثل , فعلى المرء كي يصون شخصيته أن يكون كعبقري بلزاك " الذي يشبه الجميع , لكن أحدا لا يشبهه ".
-انتهى-

 



#منذر_بدر_حلوم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البطالة وثقافة اللامبالاة


المزيد.....




- في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً ...
- مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن ...
- مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة ...
- ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا ...
- كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة.. ...
- لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
- صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل ...
- الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا ...
- العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط ...
- الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - منذر بدر حلوم - - مشكلة الشخصية -1- بين الحرية البيولوجية و القيد الأيديولوجي