|
تعدد الدلالات و الأصوات .. قراءة في اخلص لبحرك لمسعود شومان
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2302 - 2008 / 6 / 4 - 10:33
المحور:
الادب والفن
تجسد كتابة مسعود شومان الشعرية قدرة العامية المصرية على تجاوز المدلول الثقافي الأول للعلامة ، من خلال اتحادها بالدلالات الكونية ، و طاقات اللاوعي ، و الهوامش الخفية الفريدة المميزة للشخوص ، و الأشياء خارج واقعها المحدود . يبدو هذا واضحا في ديوانه " اخلص لبحرك " الصادر عن هيئة قصور الثقافة ؛ إذ يبدأ النص من السياق الوظيفي للشخصية ، ثم ينقطع في اتجاه مضاد للحدود الأولى التي بدأ تشكيل الصوت من خلالها فنجد النجار يذوب في أدواته ، ثم تبدو الأدوات في حالة سردية لها طابع اندماجي / كوني ، و غريزي أحيانا ، و كأننا أمام فاعلية شبحية خفية تناهض البعد الواحد في تكوين الأشياء . إن التحول باتجاه الطاقة الإبداعية الأصلية هنا يسير في مستويين : الأول : صوت الشخصية ، و هو غير مشبع بدلالاته الأولى ، و يظل معلقا في مستوياته التمثيلية العديدة ، التي يختلط فيها الواقع الثقافي بالكتابة ، فدوال المهنة جميعها تتحول إلى لغة إبداعية كونية تأويلية جديدة ، و مضادة لحدود الصوت الواحد ، فهي تسخر من الصوت ، و لكنها تشكله في طاقة قوية متجاوزة للحدود . الثاني : الحياة السرية للأدوات و الأشياء الملازمة لصاحب المهنة ، و تتجلى فيها طاقة اللعب ، و الرغبة في التحرر ، و العودة إلى الاندماج الأول بعناصر الكون . و لكنه اندماج ما بعد الهوية ، و الوظيفة ، و الحدود الزمنية ، حيث تظل بهجة التحول حاملة لأثر الحياة المتجدد في الشيء حينما يقاوم وظيفته انطلاقا من قوة السرد الشعري الكامنة وراء الجانب الوظيفي نفسه . في نص " درويش " تمتزج ذكرى الحب ، بالأفول المميز للزهد ، و كأن للتحلل حياة خاصة في وعي الدرويش . تلك الحياة هي وظيفة مضادة للآلية ابتداء ، و يتحول فيها الموت إلى طاقة عشق خفية ، تنتشر في المهن و الشخصيات الأخرى التي اختارها الشاعر . إن الدرويش كامن في الشخصيات الأخرى كوظيفة مضادة أصيلة تفكك بنية الصوت بالكشف عن آثاره ، و حياته المجازية الأولى . تنمو شخصية الدرويش من خلال بقاء المتكلم في حالة حب غير مشبعة ، و لكنها تستشرف صوت الالتئام و العشق الكوني ؛ لتجدد من خلاله ذكرى الحب من خلال بنية التحلل التي يندمج فيها الموت بطاقة العشق المضادة لثبات الهوية . يقول : " باعرف أشوف الشجر حتى لو دبلان / عارف بحاله و هو عارف حالي / كان نفسه تبقى الضلة نايمة في لحدي / بارمي عليه السلام على قد ما أوحالي / شباكي بيشوف القمر لو يسهر / و رجلي عارفة سر المشية على أوحالي / بيني و بينها في الطريق ده ميعاد " . لقد اندمجت دوال التفاعل و التوحد ، بدوال الأفول مثل ( اللحد و الأوحال و الذبول ) ؛ ليكشف المتكلم عن حياته الأخرى ، و صوته الآخر المتجاوز لحدوده الثقافية . و في نص " النجار " تبدو الحياة البديلة للأشياء في حالة تحرر ، و فاعلية تخيلية تصارع واقعها من خلال مفرداته ، و تترك آثارها في حالة بهجة كونية تقاوم زمنها الخاص و تتجدد في المسارات التخيلية للعناصر الأخرى . يقول : " قال الشاكوش للمراكبي / عملت لك قارب / خدني معاك يا عم حررني / أرمي العواف ع السمك / و اغزل معاك الشبك / و اخوف المسامير / قال له ما تنفعنيش في قلب المية / ممكن تصدي هناك ... / كلنا رايحين لبير الصدا و عشان كدا / عيشو معايا و افرحوا / ويا الطبالي و الدكك / و احزنوا جوة خشب النعش " . هناك أصالة للرغبة في الخروج من المعنى الوظيفي باتجاه الفرح بالصيرورة الإبداعية الكونية . لقد استبدل الجاكوش صوت النجار الحقيقي من خلال طيفه التخيلي الآخر ، ثم مارس لعبة الإغواء و الفرح بالطاقة الكونية خارج آلية الحدود المميزة لهويته مثل النطاق المكاني ، و الصدأ ، و لكن حياته الخفية تستبق الصدأ و تؤجله ؛ ليكتمل الجانب الإبداعي من خلال دلالة الصدأ نفسها ، ففرح الطبول مثل الحزن في النعش يجسدان الإحساس المجرد بحدث الحياة ، المتجدد بتوحد الأصوات و العناصر ، و أخيلة الكتابة . و في نص " المراكبي " يذوب الصوت في المادة الكونية انطلاقا من اتساع السرد الموازي لاتساع صورة البحر في المخيلة ، فالتوحد هو شرط لتكوين الصوت ، و العشق ، و الوجود ، و مقاومة المحو في الوقت نفسه . أين نجد الصوت إذا ؟ إنه الأثر المتجدد في تجدد الماء مثل أطياف الأنا المقاومة للوظيفة الإنسانية الأولى ، و هي المراكبي . يقول : " عشقت بحري و الموج عشقني .. / و البحر نعمة و تحته نار / للي يخونه / عارف شطوطه و موجه قادر / على كل غادر / و اللي استجار بخيره فاز / قلبي عملته قارب نشلني / من دواماته .. / اخلص لبحرك " . لقد جاء القارب حاملا للوظيفة السردية في النص . تلك التي تؤكد الذوبان في البحر ، و تجدد الصوت دون أن يسقط تماما في العدم ؛ إذ إنه يتطهر في حالة ذوبان غير مكتمل في المادة . و في نص " العطار " تسود البهجة الطبيعية في النص ، و تستبدل الصوت الواحد ، و تغيبه في رقصتها أحيانا ، مما يذكرنا بأساطير الخصوبة في الربيع . إن لعب الروائح في النص يخفف من ثقل الهوية الجسدية ، و من المرض ، فللرائحة إغواء بالذوبان في الهواء ، و الانتشار المرح للصوت المتعدد . يقول : " الجنزبيل فقع الموال / الحلبة ضحكت و الينسون / .. أما البابونج المتقرفص / في برطمان تحت الدكة / شاف الدموع اللي بترقص في عيون وحيدة و تعبانة / الشبة طلعت تتبصص ... / و مسحت قلبي ببشاورة / و ماليته من ريحة النعناع " . لقد اكتسب المتكلم الحياة التفاعلية الخفية للروائح ، ليتوحد بالوهج الأول المتكرر للخصوبة ، و لكن من خلال ما لا يمكن القبض عليه ، أو تحديده ، و كأننا أمام ذوبان للمادة فيما يتجاوزها من خلالها و هي الرائحة . و في نص " العجلاتي " تختلط الآلية في قسوتها الكاملة ، ببهجة الطيران دون هدف ، و كأن الدراجة تنطلق بعيدا عن حتمية المسار الواحد من خلاله ، و نستطيع قراءة مصير العجلاتي / الإنسان ، و كينونته من خلال مخاوف الموت ، و بهجة الخروج من الحتمية معا . يقول : " و صباعي محشور في الجنزير / كان ليل فقير و لا فيهش فانوس / و المية نايمة في قلب الزير / و ريقنا ناشف و بينهج / دنيتنا لسة جادون معووج / و سكوتنا نايم متبنج / ... أنا اللي صاحبت الأعياد / و الفرح بيلاغي مواسمي / علي تجري بنات و ولاد / و بيعرفوني من اسمي / عجلاتي و مزوق عجلي " . ألا تذكرنا نزعة السكون المصاحبة لانطلاق العجلة في المخيلة بالتكوين الذي أبدعه مارسيل دوشامب بين الكرسي و العجلة معا ؟ ثمة ما يجر الصوت إلى التفكك ، و السكوت ، و الانحراف ، و لكن الحلم بالطيران يصاحبه في لذة الحركة ، كمصدر مرح لتجدد الحياة ، و تجاوز تاريخ الدم . و تتنامى الصورة سرديا في نص " القهوجي " حيث تصير المشروبات ؛ مثل الشاي و القهوة ، و الحلبة بديلة عن الصوت الحزين الصامت ، و تتجاوز المآسي من خلال التمرد ، و الصخب المنتج لسياق ثقافي بديل يقوم على تفاعل العلامات المميزة للمكان / المقهى . يقول : " شاي الجروح دايما ميزة / على الصواني بيترصص / و آهي دنيا بتكركر أحلام / و فرح ورا فرح بينقص / حطيت شفايفي و باستطعم / الحلبة خافت من صوتي / طب قوللي إيه هايكون أطعم / من صرخة بتهز سكوتي / الكوبايات عملت ثورة " . لقد اندمجت مشاعر الألم ، و الحزن ، و الفرح ، و التمرد في الحضور المتجدد للمشروب ، الذي يثور على المأساة من خلال اللذة الخفية الكامنة فيها ، فتفتت الأكواب يصنع احتفالية متكررة للألم حين يتجاوز حدوده . و في نص " الترزي " يكتسب الثوب دلالتي الغربة ، و الحزن حين يتجرد عن الأصل ، و كأنه أفول للصوت ، و استبدال لروحه في الفراغ ، و لكن المتكلم يحاول استعادة حالة الالتئام ، و التوحد برقصة الخيط قبل أن يكتمل الثوب وحيدا . تلك الرقصة التي تجسد البروز الإبداعي للتكوين دونما حجب ، و فراغات ، و ثقل ، و أحزان . يقول : " حمال جروح و ساعات ترزي / أصحابي من غير الألوان / و خيط بيرقص في الإبرة / نسيت أقولك ع الأحزان / اللي استخبت في الفستان / و حبستها في جيب الجيبة / من الهدوم باخد عبرة / الدنيا في الأصل غريبة " . هل تنقطع الوظيفة في الرقصة ؟ هل يتحول الفراغ إلى تعطيل لآلية إنجاز الثوب كوظيفة مضادة ؟ إن الفراغ يمحو الثوب قبل أن يصير الأخير صوتا محجوبا . و في نص " مواويلجي " يعاين صاحب الموال نشوءا آخر للحزن ، و الألم يتميز بالجمال ، و تشكيل هوية الصوت من خلال تحلله الزائف . إنه يقاوم العدم بتجدد الحزن الجميل . محمد سمير عبد السلام - مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السياق الجمالي للعقاب .. قراءة في أقلب الإسكندرية على أجنابه
...
-
الآلية .. و العمل الإبداعي
-
إعادة اكتشاف روح الأشياء .. قراءة في بريق لا يحتمل لسمر نور
-
الصيرورة الإبداعية للزمن .. قراءة في فوق الحياة قليلا ل .. س
...
-
الشخصية في تحول .. قراءة في عمرة الدار ل .. هويدا صالح
-
العابرون ، و تبدل حالات الوعي
-
وعي طيفي مثل وهج الموت .. قراءة في عادات سيئة ل جمانة حداد
-
براءة الجسد ، و مخاوفه .. قراءة في كوب شاي بالحليب ل محمد جب
...
-
ظلال تتجاوز صمت الأشياء .. قراءة في سوف تحيا من بعدي لبسام ح
...
-
خوف الكتابة
-
التكوين الحدسي للمكان .. قراءة في قصص دوريس ليسنج
-
ما بعد الحداثة في ديوان شطح الغياب للشاعر مهدى بندق
-
القصيدة في نشوء آخر .. قراءة في شطح الغياب لمهدي بندق
-
تجاوز ما بعد الحداثية ، أو التفاعل المفتوح بين المحلي و العا
...
-
الزمن الآخر للظل .. قراءة في مهمل لعلاء عبد الهادي
-
أحلام الجسد البهيجة .. قراءة في مأوى الروح لمحمد عبد السلام
...
-
إعادة إبداع الإنسانية
-
عبث ما بعد الحرب ... قراءة في رواية بلا دماء
-
طيف الأنوثة المستعادة .. قراءة في هيكل الزهر ل فاطمة ناعوت
-
دالي .. حلم النص و أسطورة الفوتوغرافيا
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|