|
حَواريّو الحارَة 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2301 - 2008 / 6 / 3 - 08:58
المحور:
الادب والفن
على الدرب الضيّقة ، العتمة ، المعبّدة بخطى الأسلاف ، رأيتني و " هيديْ " في طريقنا إلى " سوق الجمعة " . كنا قادمَيْن من جهة الزقاق الأعلى ؛ أين يقيم هوَ في منزل للإيجار مع طلبة آخرين . في سعينا نحوَ أحد المطاعم الشعبية ، مررنا بالأبنية الحديثة ، التي أنشأت على ما كان يُعرف قبلاً بـ " حارة الأيوبيّة " . وقلت لصديقي بلهجةٍ أسيفة : " هذه البقعة ، لو تعلم ، كانت حتى زمن قريبٍ معلماً أثرياً يضمّ فيما يضمّه مقبرة ملكيّة " . تلفتَ " هيدي " حوله ، شاملاً المكان المعتم بنظرة سريعة ، مستفهمة ، فأردفتُ القول : " في طفولتنا ، كنا نبتهج لمرأى إسم هذا الملك ، أو ذاك الأمير ، على شواهد القبور " . تكلم صديقي عندئذٍ بلهجة مبطنة الإرتياب : " على حدّ علمي ، فالقباب المبعثرة هنا في الحيّ ، هيَ التي تحوي رفات الحكام والأولياء ؟ " . ـ " أنجبَ البيتُ الأيوبيّ ، كما تعرف ، أولاداً عديدين . وبما أنّ العادة في زمنهم أن يحملَ كلّ منتم للبيت ذاك لقبَ " الملك " ، فلا غروَ إذاً أن يكون فيهم السلطان وقائد الجيش والعالم والشاعر و ... " ـ " وأنتَ ، أيها الشاعر ! ألا يحقّ لكَ حملَ ذلك اللقب ، المهيب ؟ " ، قاطعني " هيدي " بجديّة مُتكلفة. على أنّ صمتي ، ربما أوحى للصديق بأني قد تكدرتُ من كلمته . وعلى هذا ، إستطردَ مُتسائلاً : ـ " وبعد ، هل ساءتكَ دعابتي ؟ " ـ " أبداً . ولكنني فوجئتُ من وصفكَ إياي بالشاعر " ـ " وماذا إذاً عن تلك القصائد ، التي تعرضها عليّ بين الفينة والاخرى ؟ " ، قالها فيما يربتُ على كتفي بلطف . ثمّ عقب دونما إنتظار جوابي : " إنها رومانسيّتكَ ، على كلّ حال ، من تربطك بأشياءٍ تجاوزها زمننا " . ـ " وهل ثمة زمن دونما ماض ٍ ما ؟ " ـ " لم ينفعنا ملوكك هؤلاء ، في حياتهم ، لكي نأسفَ على ضياع رممهم " ـ " ذكرتني بما كان يُردده أبي ، في دأبه على الهمز من قناة أقارب الأمّ ، العسكريين : " لقد ضحى " صلاح الدين " بزهرة قومه ، فكان أن كوفئ بدفنه خلف مراحيض الجامع الأمويّ ! " . ضحكة " هيدي " ضجّت في السكون المهيمن على المكان . وما عتمَ أن آبَ للهجته الصارمة ، قائلاً : " ما أسهلَ التغني بالأمجاد . أما الحقيقة فطعمها مرّ " . ـ " لو أنّ تلك الأمجاد مزيّفة ، لما إدعاها جيراننا من عربٍ وترك " ـ " العبرة في النتيجة ! " ، ندّت عنه بسخرية مريرة . من جهتي ، نفذتْ ذخيرة المؤرخ فرأيتني أتلجلج بعبارتي : " إنّ دافعي للحديث هذا ، إنما كان شيئاً آخر فيه ما فيه من مفارقة " ـ " أيّ مفارقة تعني ؟ " ـ " أرى أن نؤجلَ حديثنا لحين العودة للمنزل .. " ـ " طريقنا طويلٌ ومُضجر ، فهات ما عندكَ على أيّ حال " .
مُستئذناً آذان الحيطان ، الحجريّة ، أخفضتُ من طبقة صوتي فيما أشرع القولَ : " هذا هوَ . لما إستولى العسكر على السلطة ، كنتُ بعد طفلاً غريراً . وكما في حلم عتيق ، أذكرُ تراكض الخلق نحوَ مدخل الحيّ ؛ أين البساتين المونقة ، المتبدية أنقاضاً تهيئة ً للطريق المُستحدث وقتئذٍ . وكان يجب أن يمضي وقتٌ آخر ، قبل أن أعرف سببَ تلك الحركة . إذ إصطدِمَ تشييد الطريق بقبّة أيوبيّة ، منعوتة من لدن أهلينا بمقام " ستي حفيظة " ، وكانت مقدّسة ومنذورة بَرَكتها غالباً لأيام النذور والنيروز . هوجمتْ أليات الهدم وطرد عمالها . فما كان من المسؤولين إلا الإستنجاد عندئذٍ بكتيبة من " الحرس القومي " .. " . أمسكتُ عن الإسترسال برهة ً ، ملتفتاً نحوَ صديقي لأسأله من ثمّ : ـ " أظنكَ سمعتَ عن هذه التشكيلة ، شبه النظامية ، المُشابهة لوحدة " الفرسان " حالياً ؟ " ـ " نعم . ولكنني أريد سماعَ عِبْرَة حكايتكَ هذه " ، قالها كمن أضاع صبرَه . وكنا الآن على مقربة من مقام " ستّ الشام " ، فرحتُ أنهي حكاية مقام قريبتها تلك : " وكان من المسؤولين أن إرتأوا تركَ القبّة بسلام ، جاعلينها في مركز مستديرةٍ يتفرّع منها الطريق الجديد ، المؤدي لحيّنا . بعد مضي عقدٍ واحد حسب ، منحَ السماسرة والمتعهدون رخصَ العمارة ، فما كان من أهلينا إلا تسليم الأراضي المُشاد عليها المقامات والمقابر التاريخية ، علاوة على بيوتاتهم العريقة ؛ أهالينا أنفسهم ، الذين سبق وثاروا على السلطات لخاطر قبّة قديمة .. " . قطعَ " هيدي " الخاتمة السعيدة ، قائلاً بنبرة متهكمة : " على رسلك ! أدركتُ مغزى المفارقة . وعندي ، فإنّ أحجارك ، المتشبث أنتَ بها ، لا تساوي صحنَ الفتة ؛ الذي سأنقضّ عليه سريعاً ، وبنفس الشهيّة التي إنقضّ فيها العسكر على السلطة " .
*** أذكره ذلك اليوم ، المُشرق على إنفجار العصبيّات ، الضيّقة ، كيف شهدَ ليله تفجّر مشاجرة بالسلاح الناريّ ؛ مشاجرة ، دامتْ الفترة المستوجبة هروع قوّة الأمن للمكان . عندئذٍ ، تفرّق الخصوم في كلّ مهبّ ، لينجلي عن ضباب بارودهم ضحيّة ٌ واحدة حسب : " جيان " ؛ شقيقي الكبير . ها همو رفاق أخي في ردهة المشفى ، يهرعون نحوي بالتفاصيل الدمويّة . إلى أن حضر " يوسف " ، بظله الأسمر ، الفارع ، ليطمأنني أنّ رمق من حياة ما فتأ يسري في جسد الجريح . ثمّ أعقبَ قائلاً : " من الأجدى أن تكون الآن بجانب والدتك ، فما زال شقيقكَ بعد في حجرة العمليات " .
حالَ إطلالي على الحارَة ، لحظتُ تواجداً ملحوظاً لرجال الإستخبارات ، المسلحين ببنادق آليّة ؛ هؤلاء المكلفون بحفظ الأمن ، إثرَ تكشف الأحداث الأخيرة ، الداهمة ، عن عجز الشرطة . ما لبث أن تبدّى " قيْ " لعيني ، متبختراً بقامته القصيرة ، العريضة ، ليشير إليّ من ثمّ أن أتبعه . في حجرة صالون منزله ، الأنيق ، كان ثمّة ضابط تحقيق ، إستقبلني بتحديقة ثعبانيّة ، باردة . إثرَ همسةٍ في أذنه من لدن مضيفنا ، سألني الضابط عمّا أعرفه عن زبانية أخي " جيان " . أبديتُ له جهلي بالمعلومات المطلوبة ، زاعماً أيضاً أنّ أخي قد هجرَ منزلنا منذ فترة مديدة . " المعزوفة هذه ، سبق لي وسمعتها من تلك المرأة ، هناك .. " ، قالها الرجلُ مُشيراً بعينيه إلى ناحية جانبيّة . لم أعلق بشيء ، بل طفقتُ أتأمّل التكشيرة الساخرة ، التي راحت عندئذٍ تتلاشى ببطء وبرود .
التوتر ، تخفف نوعاً ، داخل البيت وخارجه على السواء . العناية العليا ، الرحيمة أحياناً ، شاءت قدرتها أن يواصل شقيقي حياته ، الجميلة ، إنما وفق شروطها : وعلى هذا ، سيتعيّن عليه منذئذٍ التعايش مع كبسولة رصاصيّة ، مُستقرة في جمجمته ـ كذكرى من أيام البطولة ، السالفة . من ناحية اخرى ، فالحادثة هذه ، المأسوية ، كانت مناسبة لإطلالة قريبتنا " مريم " ، المُفتقدة دهراً . زوجها ، كان قد بذل جهداً كبيراً أثناء وجود " جيان " في المشفى نفسه ، أين يعمل هوَ ؛ جهداً ، إستحق ثناءَ الأمّ ودعاءها . ـ " لولا مأساتنا ، ربما ما خطرَ لها الشقيق الراحل ببال " تتوجّه والدتي بالقول لإمرأة أخي ، " صافية " ، المتقرّحة العينين من السهر المتواصل قربَ رجلها . تعريض الإشارة تلك بقريبتنا ، الجميلة ، كان تعقيباً على ما جدّ من تأثرها خلل جلسة يوم أمس ، الصباحيّة . إذ كانت الجارة " زينيْ " وقتئذٍ لدينا ؛ هيَ الملازمة منزلنا يومياً إثرَ الحادثة . إذ إلتفتت نحوي ، قائلة ً بلهجة متصنعة الشفقة : " من حسن حظكَ ، والشكر للربّ ، أنّ غريمَ " جيان " مجهولٌ بعد " . ردّة فعل الأمّ ، الخارجة عن طورها فجأة ، تولتْ إجابتها بصوتٍ عنيف أقرب للصراخ : " وحتى لو عرفنا غريمه ! وماذا بعد ؟ ليسَ " جيان " بأعزّ عندي من " عيسى " ، البريء ، الذي غمرَ دمُه حارَتنا بالعار " . نشيج الأخت ، الضائعة ، تصاعد لحظتئذٍ رويداً . ولكنّ أحداً من الحضور ، غيري ، ما أعارَها إلتفاتاً .
*** أيّ بهجةٍ ، هيَ ليلة عيد الميلاد . الثلوج ، المُنهمرة منذ ساعة ، تغمرُ أرضيّة الدرب الضيّق ، المُتفرّع عن " جادّة الصالحيّة " . مُثقلَ الرأس ، أتأملُ المشهدَ ذاكَ ، المُجلل بالنصاعة الفضيّة ، يُشاركني في ذلك صديقي " هيدي " . كنا إذاً في ركننا الحميم ، المألوف ، من مشرَب " الأتيرنا " ، المُرقشة نافذته برسوم لبابا نويل وأجراس وصنوبر ؛ ثمة ، أين أنخاب النبيذ الأحمر ، المُخلّف في الفم مذاقا مُستحيل النضوج . الليلة تنتصف . ساعة اخرى ، تمضي أيضاً . نتناهض إذ ذاكَ ، بعدما أقفرَ المكانُ من مريديه . أرغبُ صديقي بإغراء العودة مشياً ، فلا يجدُ بأساً في ذلك . وها نحن ذا نجتاز " شارع العابد " ، دونما إهمال تحيّة خماراته العريقة ، المُسهدة . مشهد " البنك المركزي " ، المُتشامخ ـ كعملاق أوناسيسيّ ، جعلنا من ثمّ نتحسسُ جيوبنا ، الفارغة . بيْدَ أنّ " ساحة حطين " ، على مشارف الحارَة ، أبَتْ إلا أن تفجؤنا بفرسانها وأسلحتهم ، المُشرعة .
ما جدّ بعدئذٍ ، ما كان للحقيقة بالحدَث الغريب ، النادر ، وفقا للأجواء المشحونة ، التي كانت تعيشها حاضرتنا . الفتية الأغرار ، المنتمون لشباب الثورة ، أوقفونا بحركة إستعراضية ، فيها ما فيها من إدعاءٍ وعنجهية . ثمّ ما لبثوا أن سلمونا لدورية ، سيّارة ، من رفاقهم . وعلى الأثر ، وجدنا أنفسنا في مقرّ شعبةٍ ، حزبيّة ، أجواؤه لا تقلّ إلفة عن أيّ فرع أمنيّ . شابٌّ هائل الجرم ، تلقفنا هنا بنظراتٍ ، خاملة ، وكانما أوقظ للتوّ . حينما كان يتقدّمنا إلى حجرته ، المسؤولة ، بدا ظلّ إبتسامة على شفتيه ، الغليظتين ، مُستظرفا على ما يبدو عبق الكحول ، الفائح من هيئتنا . وبالإطمئنان نفسه ، خلع الشابّ فيلده العسكريّ ، المُهيب ، غائصاً بجثته خلف طاولةٍ ، مُتخمة بأوراق آمرة ومأمورة . سألنا أولاً ، ما إذا كنا زميليْن في الجامعة . ثمّ ما عتمَ أن لوحّ بطاقتي ، الشخصية ، بين أصابعه الضخمة ، مخاطباً إيايَ عبرَ تراكم حرف " جبل قاف " ، الخرافيّ : " أعتقد أنك قريبٌ للرفيق " محمد علي قادريكي " ، أليسَ كذلك ؟ " . هززتُ رأسي ، فيما عينيّ تشيّعان إبتسامة المسؤول هذا ، المزدانة بالمودّة . وإلى الأخير ، حظينا بحفاوة الوداع هنا ، حدّ أن يأمرَ الرجلُ أحدهم بإيصالنا للبيت بإحدى سيارات المقر . لدى وصولنا ، كان الزقاقُ ما فتأ غارقا في أحلام ليلة الميلاد ، السعيدة . في حجرتي ، المتوهّجة دفئا ، سرعان ما نتناسى المُنغص ، الطارئ ، مُقبلين على زجاجة العَرَق ، المنقوش على وجهها ، الجوانيّ ، هذا البيت الجاهليّ ، الخالد : " ألا هبّي بصحنكِ فأصبحينا ولا تبقي خمورَ الأندرينا "
في عليّتي إذاً ، الأثيرة ، التي عادت إليّ حيازتها ، إثرَ مَصاب شقيقي ، التعِس ؛ ها هنا ، تصاعَدَ نشيدُ " الميدانيّ " ؛ مطربُ حاضرتنا ، الشعبيّ ، الأكثرَ شهرة . على أنني ، مجاملة ً لرفيق السهرة ، أديرُ المُسجّلَ على صوت آخر لمغن ، مُستكرد ، سبق وهاجرَ إلى أرمينية ، موطن أسلافه ؛ هوَ المولود في " الجزيرة " . من بلدةٍ تابعة للإقليم هذا ، المُتركن على الناصية الشمالية الشرقية للبلاد ، هاجرَ " هيدي " بدوره إلى العاصمة ، كيما يدرس طبّ الأسنان في جامعتها . تعارفي به ، حصلَ بُعيدَ تسريحي من الخدمة الإلزامية ، وبمصادفة لقائه في حجرة " بشير " ، التي كان يستأجرها ، آنذاك ، في " مزة جبل " . صديقي هذا ، الجزراويّ ، كأنما هوَ نسخة عن تمثال آبدٍ ، إغريقيّ ، بقوامه الرياضيّ ، الممشوق ، ودقة ملامح وجهه ووسامتها . ها هوَ ، مُتضجراً من جلسة لا تشوبها المجادلة ، يسألني ومظهره يوحي بالإهتمام : ـ " ماذا جرى من أمر ذلك الصراع ، على عرش مَخترَة الحارَة ؟ " ـ " ما زالَ محتدماً ، بما أنّ بيضة القبّان بحوزة قريبي ، " محمد علي " ، ذاكَ .. " ـ " مُنقذنا ! " ـ " إذا شئتَ . الحق ، فلا ريبَ أنهم سيسعدونه ، حينما يقصون عليه ، غداً ، كيف تمّ توقيفنا ومن ثمّ إطلاقنا لإعتباراتٍ ، رفاقيّة " ـ " يا لها من سخافةٍ ! كأنما هوَ جرمٌ ، خطيرٌ ، مجرّد مسيرنا ليلاً ... " ـ " أرجوك ، إسمعْ .. " ، أهتفُ به مُقاطعاً . رحتُ بعدئذٍ أصيخ بأذني ، وقد تهيأ لي أنّ صوتاً ما ، يتناهى من البيت التحتاني . إنه صوتُ " جيان " ، ولا شك ، يُنادي واهياً إمرأته . تكرر النداءُ ، دونما مُجيب ، حتى أنّ " هيدي " إحتارَ لموقفي الجامد ، المتردد . ولكنني هُرعتُ ، على كلّ حال ، نحوَ الدرج المفضي لمواجع لعنةٍ من عصور اخرى . ما كان من حاجةٍ بي لإزعاج المريض بالضوء الكهربائيّ ، المُباشر ، ما دام المطبخ يُترَك مُناراً ، كيما يتسنى للأطفال قضاء حاجاتهم . أشارَ لي " جيان " بيده بإتجاه حجرة الجلوس ؛ أين مبيت عائلته . بيْدَ أنني كنتُ بعدُ على حال من الجمود ، مصدوماً بمنظره المثير للشفقة . جسده ، كان منزلقا عن السرير . فيما رأسه بين يديه وكأنما يعتصرمنه الألم ، الناتج عن نوبة الصداع ، الساحقة ـ كعجلةٍ هائلة . مع تدفق أنينه ، عدتُ لرشدي . وإذ لمحتُ السيكارة ، الخالدة ، ترمقني جذوتها خلل غلسة حجرة الجلوس ، فإنني أستأذنتُ ربيبتها في الدخول . ردّت عليّ إمرأة أخي بنحيب مرير ، مكتوم ، بالكاد تناهى لأذن العتمة . إنحنيتُ عليها برفق : ـ " ولكن ، " صافو " ، ماذا بكِ ؟ " ـ " دعوني وشأني ! " ـ " عندي ضيف ، فوق . أرجوكِ " ـ " إلهي تأخذ " صافو " ، لكي ترتاح " ، أجابتني أخيراً متقمّصة ً لهجة الأمّ . على أنها أثبتتْ ، ككلّ مرة ، أنها إمرأة عمليّة لا مستسلمة كالاخرى . تركتها تعدّ حقنة المورفين لمريضها ، ثمّ توجّهتُ إلى ضيفي . فجأته ، حينما قلبتُ بجرعة واحدة قدحَ العَرَق ، داعياً إياه لجولةٍ خارجاً . هتف بضيق : ـ " إلى أين ، في مثل هذه الساعة المتأخرة ، الصقيعية ؟ " ـ " سأريكَ لعنتنا .. ! "
*** لندلفنّ الدار الكبيرة ، عبرَ بوابتها ، الأثرية ، المُشرعة أبداً . ولا بدّ أنّ البردَ قارصٌ ، أنتَ المشحون بلهيب الخمرة ، غيرَ المُبالي بالرعدة ، المثلجة ، المتناهية من أشجار الحديقة ، المتبدّية ـ كأطيافٍ ملتحفة غطاءً ، فضيّ الوشي . إنما سعينا ثمة ؛ أين شجرة التين وطيفها اللامرئيّ . تعالَ ، أيها الصديق ، لنجتاز في طريقنا التنورَ ، المهجور ، المترّس الفوهة بعنايةٍ مذعورة ، كما حجرة كبير آلنا ، المتوحّد فيها مذ أخليتْ ، قبل ربع قرن ، من حضور إبنه ، العقيد . ها هنا ، شجرة السلالة ؛ فلا يغرّنكَ هدوء ملامحها : ففي دخيلتها ، المتغلغلة بالتربة ـ كجذورها ، تمورُ جوقة ثكالى ، نائحة .
" ياااااااد ! " ( أمّاه ) صيحة ٌ ، متطاولة كأنها عواء ذئب البراري ، الموحشة ؛ صيحة ثاقبة ، ردد صداها الظلامُ وبومُ الشؤم . همستُ لصديقي ، المُجفل ، مُطمئِناً : " لا عليكَ . إنها قريبتنا ، المجنونة " . على البلاطة الأخيرة ، من الدرج المُفضي للقسم العلويّ من الدار ، إقتعدنا غيرَ آبهين بلسعة البرودة تحتنا . قال " هيدي " فيما يشملُ المشهدَ الليليّ ، الغامض ، بنظرة سريعة : ـ " لم أرَ قبلاً ، قط ، منزلاً بهذا الإتساع " ـ " صبراً ، فإنكَ لم ترَ شيئاً بعد .. " ـ " أثمّة مقبرة ملكية ، أيوبية ، تقبع بأصل المكان ؟ " ـ " ربما . ولكنكَ ، على أيّ حال ، لن تمضي كثيراً بسخريتكَ " ـ " أتتوعّدني بأطياف السلالة ؟ " ـ " هذه الأطياف ، لو علمتَ ، إن هيَ إلا كائناتٌ بشريّة ، شهيدة . فهل أحدّثكَ عن " فردوس " ، أمْ عن شقيقتها تلك ، التي أطلقتْ للتوّ صرخة تظلمها .. ؟ " ـ " كان بوسعي الإنصات إليكَ هناك ، في غرفتكَ الدافئة " ـ " من الضروريّ ، كما تهيأ لي ، أن تعاينَ بنفسك وعن قرب ، جغرافيّة لعنتنا " ـ " ولكن ، أيّ لعنة هذه ، بحق أشباحك ؟ " ـ " أريدكَ أن تنظرَ إلى التينة تلك : إنها شجرة ملعونة ! من جوفها ، تخرج " الزيارة " كلّ ليلة ، لتطوّف حول حجرة العمّ الكبير ، مُستصرخة ً إياه الدّمَ المُضاع ، البريء . ويقولون ، أنّ سيّدنا يخرج إليها كلّ مرة ، مُسلحاً بتعازيم وتمائم " الشركسيّة " ؛ زوجة العقيد ، الأولى . وكانت هذه المرأة ، بحسب من عرفها ، مُخاوية للجنّ . إلا أنها ردّت الأذى عن الدار ، ما دامت هيَ سيّدته . ويبدو أنها تنبأت ، مذ حلولها في الدار ، بلعنة السلالة ؛ المتمثلة بشجرة التين . وأنها راحت تسقيها كيروسيناً ، بعدما عجزتْ عن إقناع الآخرين بقطعها . ولم تتأذ التينة ، على كل حال ، بل إنغرستْ جذورها أعمق فأعمق في التربة ، حتى زعمَ أنها إمتدّتْ حتى مسيل المسراب ، المفتوح على النهر . نعم ، بقيتْ الشجرة ، العنيدة ، وحلّت اللعنة هذه المرّة على غريمتها ؛ فطلق العقيدُ الشركسيّة وأرسلها إلى أهلها في " الجولان " . إلا أنّ هذه المرأة التعسة ، بحسب إعتقاد أمّنا ، تعمّدتْ بدورها تركَ سجادةٍ أثريّة ، مسحورة . فما عتمَ العقيد أن مات بمرض عضال ، غامض ، ثمّ تبعته من بعد إبنته ، الوحيدة ... " .
ـ " ما هذا ؟ " هتفَ " هيدي " ، مشدوهاً على ما يبدو بمرأى الخرافة ، المُتجسّدة لعينيه . بدوري ، تابعتُ سهمَ النظرة المشدوهة ، حتى هدفه المنشود . من الكتلة الكثيفة ، الثقيلة ، للعتمة البهيمة ، إنبثقَ رويداً طيفُ " الزيارة " . أبصرناها ، في إنطفاء نجوم السماء جميعاً ؛ هيَ الهائمة بنقابٍ ناصع ، والعابثة بمزق النذور ، القماشية ، المتدلية من فروع التينة . لم تلبث ثمة ، أكثرَ من لحظات تأمّل سريعة . إنها تسير بخطىً متمايلة ، وئيدة ، وكما لو أنها هرمتْ أخيراً . في وقوفها ، الطارئ ، إزاء نافدة حجرة العمّ ، حقّ لي الإرتعاد ، متوجّساً مشهدَ اللقاء المُثير ، المُرتقب . غيرَ أنها ، وعلى حين فجأة ، تحوّلت عن موقفها ذاك ، وشرعت تتجه نحونا .
*** ـ " آموجنيْ " ( إمرأة العمّ ) ندّتْ صيحتي ، المُفرّخة الروعَ ، حالما تسنى لي التأكد من شخص قريبتنا . كانت قد تناهت بخطوها ، الواهن ، حتى أسفل الدرج ، في مُحاولةٍ لإلتقاط الأنفاس الهاربة . بتبيّنه ملمحها الآدميّ ، تلفتْ " هيدي " نحوي بنظرة متسائلة . وقبل أن تبدر مني نأمة ، بادرت " عايدة " لمخاطبة صديقي : " أنتَ ، إذاً ، ذلك الغريب ، الذي سبق وحدّثتني بأمره كنتي تلك ، الشريرة ، فلم أصدّقها خبراً ؟ " . متفكراً بقولها هذا ، المُحيّر ، سهَوتُ عن إعانة إمرأة العمّ ، الشارعة بإرتقاء الدرج . كان " هيدي " مذهولاً ، ولا يقلّ حيرة ً عني ، فيما هوَ يتطلع إلى العجوز ، المُحلق حضورها فوق رأسينا . ـ " ولكنكَ ، على ما أرى ، أفتى مما يُناسب إمرأة نصف ! " ، قالت له مُستطردة ً في النغمة نفسها . الصرخة الوحشية ، تصدي بها العتمة ثانية ً ، متبوعة بقهقهة مديدة . حضورُ " قمر " ، كان مألوفاً لديّ بكلّ ملحقاته . إنما طفقتُ الآن مصدوماً بهذه الأحاجي ، المتفوّهة بها إمرأة الدار ، المهيبة الرزينة . جازَ لي عندئذٍ إستعادة ما كانت تردده الأمّ بحزن ؛ من أنّ نهاية وخيمة تنتظرُ " عايدة " . خرجتُ أخيراً عن صمتي ، لأسأل المرأة بصوتٍ حاولتُ جاهداً كبحَ رعدته : " ما الذي يدعوكِ للخروج ، في ساعة متأخرة كهذه ، وليسَ عليكِ سوى قميص النوم ؟ " . مساءلتي ، كانت تهدف أساساً إلى صرفها عن التجديف بجزاف القول ، مُتحسّباً أن يستفهم " هيدي " أمرها فيما بعد : وماذا سأجيبه ، عند ذلكَ ؟؟ ـ " إنها لا تدعني بسلام ليلاً ، فأخلي لها المكان وأبيتُ هناك " ، قالت لي " آموجني " بنبرتها المرجفة واللا مبالية . إشارتها تلك ، المُسددة نحوَ الحظائر ، إخترقتْ قبلاً صدري ـ كرمح . وأعقبتْ العجوز بوداعة : " الحمام ، يا سبحان الله ، كم هو هادئ ليلاً ! وحتى رائحته تكون وقتئذٍ مثيرة ؛ وإلا فكيف تقبلُ عليه أنثاه ؟ " .
حمامة بلا ذكر ، هيَ ذي متكوّمة هنا برائحتها المقيتة . إنهم لا يوصدون على " قمر " باب سجنها ، ما فتأتْ الدار الكبيرة برمّتها ، كما رحتُ أفكر مهموماً ، كأنها مأوى ممسوسين . طالعنا إذاً مشهد كتلة شوهاء ، شبه آدميّة ، ينبعث من سحنتها جذوتان خاويتان إلا من رعبٍ مقيم ؛ عينان ، ضُربَ يوماً بحسنهما المثل . وقالت " عايدة " ، فيما هيَ تبعد جانباً الموقد الكهربائيّ ، المحمرّ الأسلاك كالجمر : " أحرقت قدميها ، مرة اخرى ؟ " . كانت الفتاة ، لما ولجنا حجرتها ، ملتصقة بالموقد الصغير هذا ، والمخلف في ساقيها العاريتين حروقا فظيعة ، ولكنها سطحية . كفتْ الممسوسة عن أيّ حركة . بل وأسبلت عينيها بإصرار ، رحمة ً بنا ربما . تنحني " عايدة " على ربيبتها ، مطوقة ً رأسها الوسخ ، المحلوق بالموسى ، قائلة لها بإيماءةٍ نحوَ صديقي : " أنظري ، وردتي ! إنه الرجلُ القادمُ من أجل إصطحاب قريبته ، الغريبة ، المُصرّة على هجر بيتنا الملعون " .
ما لبثتْ " عايدة " أن غادرتنا ، مُتجهة ً للمطبخ وفي نيّتها إطعام الفتاة التي لا تشكو ، عادةً ، من طوىً أو عطش . وأجدها فرصة ، كيما أفرّ من المكان ، الملعون ؛ كيما أتنفس بعمق خارجاً ، وكأنني قد غادرت قبراً لتوي . صديقي ، بدوره ، كان يسير متعثراً ، ضائعاً ، خائضاً بعدُ في لجة الكابوس . على الشرفة ، تسنى له أن يفوه بالسؤال ذاك ، الذي كنتُ أتجنبه : ـ " أهيَ أمّ الفتاة الممسوسة ، تلكَ العجوز الخرفة ؟ " ـ " أجل .. !! " .
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النصّ والسينما : السمّان والخريف لحسام الدين مصطفى
-
حَواريّو الحارَة *
-
مَسْرىً آخر لمَغاورها
-
أقاليمٌ مُنجّمة 10
-
أقاليمٌ مُنجّمة 9
-
غربُ المَوت ، للشاعر الكردي دانا صوفي
-
أقاليمٌ مُنجّمة 8
-
عزلة المبدع ، قدَر أم إختيار ؟
-
مسْرىً لمَغاورها
-
أقاليمٌ مُنجّمة 7
-
قراصنة في بحر الإنترنيت
-
أقاليمٌ مُنجّمة 6
-
النصّ والسينما : - كرنك - علي بدرخان
-
أقاليمٌ مُنجّمة 5
-
أقاليمٌ مُنجّمة 4
-
كما كبريتكِ الأحمَر ، كما سَيفكِ الرومانيّ
-
أقاليمٌ مُنجّمة 3
-
أقاليمٌ مُنجّمة 2
-
آية إشراق لنبيّ غارب ٍ
-
أقاليمٌ مُنجّمة *
المزيد.....
-
- كذبة أبريل-.. تركي آل الشيخ يثير تفاعلا واسعا بمنشور وفيدي
...
-
فنان مصري يوجه رسالة بعد هجوم على حديثه أمام السيسي
-
عاجل | حماس: إقدام مجموعة من المجرمين على خطف وقتل أحد عناصر
...
-
الشيخ عبد الله المبارك الصباح.. رجل ثقافة وفكر وعطاء
-
6 أفلام تتنافس على الإيرادات بين الكوميديا والمغامرة في عيد
...
-
-في عز الضهر-.. مينا مسعود يكشف عن الإعلان الرسمي لأول أفلام
...
-
واتساب يتيح للمستخدمين إضافة الموسيقى إلى الحالة
-
“الكــوميديــا تعــود بقــوة مع عــامــر“ فيلم شباب البومب 2
...
-
طه دسوقي.. من خجول المسرح إلى نجم الشاشة
-
-الغرفة الزهراء-.. زنزانة إسرائيلية ظاهرها العذاب وباطنها ال
...
المزيد.....
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
المزيد.....
|