|
باب القران
سعيدي المولودي
الحوار المتمدن-العدد: 2291 - 2008 / 5 / 24 - 04:37
المحور:
الادب والفن
زعموا أنه منذ زمن بعيد، بعيد، تزوج رجل صالح اسمه " النظام" امرأة صالحة اسمها "الدولة"، واستبد بهما الهوى في الغدو والرواح، مات كل منهما في مرايا الآخر وفي بهجة الوفاء، واضطرمت أشواق الوجد الآكل ذمتهما، القائم على دعائم الأمن، نكهة كل الأزمنة والمدائن المغرورقة من فرط الألفة وعشق الولاء... وعاشا على ذلك زمانا طويلا..
وكان أن حملت المرأة الصالحة من الرجل الصالح، فوضعت أنثى. قالت الدولة: إني أسميتها "الحكومة".قال "النظام": الرأي ما رأيت. والحكم ما حكمت. لك الأمر قبل القبل، وبعد البعد.
ترعرعت "الحكومة" في فتنة والديها، ممشوقة بالدلال، لا تكاد ترفع صوتها بالإيماء حتى تأتيها مواعد الأشياء، وكبرت ، كبر معها سحر الإذلال وشجر الأوامر والنواهي، ترى الدنيا من خرصة الغنائم، لكأن كل الناس طرائد سائبة.. كان أبوها "النظام" يقول: ـ هذه لؤلؤة أرضي، بابي المخصوص، سأفرش جموحها الذهب، وأملأ سوقها وردا واستيرادا، سأعلمها ركوب الخيل والأخطار، ومن أين تؤكل الكتف، كتف وقائع هذا الصيد الملوح كالأصنام يتلقف وصلها... هذه صورة أمي سأجعل البحر والبر خوانا لها، جميلة الجميلات انبلجت، سأعلمها كيف تحيا وتسبح بحمدها الأشجار والأحجار... يلاطفها بمنديله البلوري، يمسح مخاطها الماسي، ويدغدغ أظافرها الصغيرة، كأنما يقول:سلاحك أيتها الصبية، ما حك جلدك مثل هذه العدة..
أمها كانت، المرات، تهفو لعناقها، تغازل صولجانها، وتقول: ـ عروس هذه الإشراقات والثنايا، سأبني لها العمر سديرا،تطلق جدائلها فتلتئم خزائن الله في الأرض والسماء، وتجتمع بين يديها أقطاف الليل وأثداء النهار، ومعادن الشوق والعبور.. سأجعل هذه الأكوان تقوم بقيامها وتقعد لقعودها.. تتملى هدوءها كالزوبعة، تحملها بين يديها كأنما تعودها على الطيران، ترفرف الأجنحة الصغيرة للحكومة، وتضحك أمها ملء بوحها، وتقول: ـ آه.. منك أيتها الغادة الماكرة، إنما تخادعين..
كانت "الحكومة" في صغرها تخرج للدرب فيهرب من سطوتها الأطفال،يتسللون أو يختبئون، أو هم من بعيد يطلون من عانات السطوح، كانت طلعتها تثير الرغبة والرهبة، ونظرتها الحديدية تقهر عيدان الطفولة، وتجتث حلاوة الريق. كان الجيران دائما يشكون غيها، والنساء يغلقن الشرفات والنوافذ والأبواب في وجه مقدمها، وكانت هي لا تبالي، تمضي في كبريائها، ويملأ عطرها جهات الحارة... تعجب بها أمها، تستدرجها للضحك، ترسم "الحكومة" شمع ابتسامة صفراء على شفتيها السامتين، وأبوها كان يتوعد أبناء الجيران، والدرب، والمسالك والممرات بالنار والحديد، وينفخ في حلمها، يعض على صرير النواجذ، ويقول: ـ إني خالق هذه الراية، ويل لهذه الأشرعة، ويل لهذه الجهات التي لا تلين. هذه بذرة من ذريتي،إذ تصعد لكم الطاعة، لها الصاع. وأن تبدأ المجرى، وتغرس ضفافها في مهب المجد والنهب، إياكم وخضراءها، وردتها المقفرة كالوباء..
كبرت "الحكومة"، كبر غرورها وريعانها، واعتادت السير على مدار العناد، فكان لها ما شاءت، جاءتها الفاكهة، وقميص السلالات، والمصارف والخلاخل، وبحرات الأهواء، فاهتزت لمواويل المجد، أضرمت نيران الضرائب، في كل شبر من قامة العمر تنتصب ضريبة،الضريبة على البحر وعلى البر وعلى الجبل وعلى الهواء والخواء، أغرقت المواقع والمدائن في بركة الغلاء، واكتوت النفوس برمضائها، أضحت الحياة جزءا من ضريبة، والموت ضريبة...وجف حلق"الحكومة" ضربت في فم كل المسافات خيام الجباة الآكلين أرزاق العامة والخاصة... أغلقت المدارس، وخرج الأطفال للبراري يغتسلون بوسخ التاريخ، أغلقت دير المعامل والمواقف، وفتحت نوافذها لبردة الضياع والاستنزاف الأكبر.سقطت الجهات وارتدت الأجيال السابقة واللاحقة باتجاه الحريق، وكانت هي تشيد عنفوانها، وتقتل بذرة الحياة في حرارة العابرين، ترحل في عليائها، وتلقم الأرض رقصة الفناء، وتغتال السواد الأعظم على هواها..
قالت: ـ هذه الأعشاب السامة تمر جهة القلب. الويل للراكضين، إنما تعبهم لا يعنيني. ظلت ترجم وصلها، تأخذ بيمناها واليسرى، تقتل بيارق الأحلام، وتقطع الطرقات، تهدم الشرق للمغيب، وتهدم المغيب لغرفة المشيب.. مدت أفواهها الجارفة لجيوب كل غاش وماش، وأغلقت مفاتيح المرور. للموت بابه، وللثراء عبيده، وللأرض سادتها، ولهذه اللذة حماتها.. كذلك كانت تقول.
ومن شدة الخوف هرب الشعب للكهوف، ليختبيء في مآسيه.
وكان أن كبرت البنت، وبلغت فقدان رشدها، وشاع هولها في كل الأسواق. فقالت الأم الصالحة: ـ ياقمر الأزمات، وزينة الإفلاس، كبر الآن مقتك.. وأنا أهفو ليوم السعد في لياليك. ولقد جاءنا هذا الفتى الفارس، يخطب الود منك، ويطلب اليدين، فهل ترضين به زوجا...
وكان أن رضيت الفتاة. وتزوجت "الحكومة" منذ ذلك الوقت على سنة القبض والغلاء، عدوا قارسا اسمه ( صندوق النقد الدولي ).
1990.
#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
باب العداوة
-
ذكر ما جاء في باب التفويت
-
باب التدشين
-
لماذا تأسيس نقابة بالتعليم العالي
-
بصدد الجدل الدائر حول الإطار النقابي للتعليم العالي: -إصابة
...
-
في أن تحويل إطار نقابة التعليم العالي إلى -جمعية- أمر مقصود
...
-
في حضرة الإمام مولانا الغلاء
-
في الحاجة إلى تأسيس نقابة للأساتذة الباحثين بالتعليم العالي
-
رسالة مفتوحة إلى الوزير الأول
-
ما تحت جلباب الإصلاح الجامعي ( 1 )-المراقبة- و-المعاقبة-المس
...
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|