أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أنوار سرحان - -هذه... أغنيتي-














المزيد.....

-هذه... أغنيتي-


أنوار سرحان

الحوار المتمدن-العدد: 2287 - 2008 / 5 / 20 - 07:09
المحور: الادب والفن
    



"إلى الذين هُجّروا وما زالت أطيافهم تحوم في أرجاء الذاكرة "

ما كان ينبغي لي أن أدع لإيلان شأن اختيار المكان. صمتي غلبني حد الخرس إذ أراها تتجول أمامي.. تنشر رائحتها الفلسطينية في أرجاء المكان ، تسرع متلهفةً لطفلٍ يبكي . تحتضنه.. ترفعه مكاغيةً ,, تقرص أنفه بلطفٍ مداعبةً: "يمّا خليني أخلص شغلي".. ثم تنساب في هديل تهليلتها لينام :
" بهلّل لك بهلّل لك... سبع جمال بحمّل لك
من الفستق من البندق... كله عشان طلع سنّك".

في أرجوحةٍ قماشيةٍ علّقتها عند طرف المطبخ تفرش جسده لينام قبل أن تجري لطعامٍ كاد يحترق ، لم تنجح روائح الشموع المنثورة في المكان في إخماد رائحة مجدّرة فلسطينية عبقت في أنفي.

ويحك يا إيلان ! أيّ كلامٍ سيسعفني وأيّ خطابٍ تنتظر مني وسط صورٍ لا تنفكّ تحاصرني مذ وصلت المكان؟؟
وأنا التي انتظرت بلهيب صبري هذا اليوم الذي نتباهى به بنجاح مبادرة مشروعنا للتعايش العربي اليهودي .. وياما تصورتني أوزّع ابتساماتي كعطايا كريم ، إذ أعتزّ بأن الحلم قد تحقق وأن الأرض تتسع لكلينا ما دمنا مؤمنين بذلك.

خمس سنوات قضيتها أدور من مدرسةٍ إلى أخرى .. أجالس المربّين الذين جاءوا اليوم جميعا وتحلّقوا حولي لنتوّج مسيرةً قضيناها وتكبّدنا فيها خلق لغةٍ مشتركة تجمعنا جميعاً..
كنت أخطط وإيلان الفعاليات التي تجمع أطفالا عربا ويهودا من تلك القرى الصغيرة لنقول لهم بطريقتنا إن لذّاتٍ ومتعًا قد تجمعنا أيضا وليس الألم وحده ما يطوّقنا.
وها أن جميع الحضور يحتفون وبينهم تدور صورٌ جمعتنا في فعالياتٍ مشتركة : مسرحية راقصة لأطفال عرب ويهود.. سباحة مشتركة في بركة.. وجوهٌ مشرقةٌ لأطفالٍ يتلذذون بعروض المهرّجين.
وصوت ضحكات الجميع ينكح موسيقى صدحت في المكان :" شالوم شالوم يعني سلام.. ما فيه أحلى من هالكلام".

كنتُ قد اتّخذت زينتي كلّها لتليق بتتويجي مديرةً للنادي العربي اليهودي للسلام.. وهو المنصب الذي ما حلمت به عربيةٌ في هذي البلاد.
ارتديت راتباً شهرياً كاملا وزّعته على بذلةٍ أنيقةٍ من محلات كاسترو باهظة الثمن ، تلك التي لم أكن أجرؤ على دخولها لولا أهمية المناسبة ، وإكسسواراتٍ أضفت عليّ مسحةً من الأنوثة جعلت إيلان يغازلني في استقباله لي عند مدخل المدينة التي أدخلها للمرة الأولى :
-"تبدين عروس روش بينا الليلة.. لا داعي لإضاءة الأنوار فنورك قد غمر المدينة".
اصطحبني إلى قاعة الاحتفال حيث تجمّع المربّون والمربيات.. في لوحةٍ رومنسيةٍ تعانقت فيها مربيةٌ عربية ويهودية ، تستذكران متعاً لنشاطاتٍ مشتركة، ومربيةٌ خفيفة الظل تقلّد لثغة طفلٍ لم يميز بعد العربية من العبرية فيقول "شلام" .
استقبلنا الجميعُ بفرحٍ واعتزاز لم يحُل بيني وبين الانتباه للبناء. لفتتني جدران البيت السميكة ، تقسيم الغرف وتشابيك النافذة التي تذكّرني ببيت جدتي رحمها الله… وبناءٌ كتلك البيوت العربية العتيقة في عكا ويافا..
مددتُ يدي إلى ذراع إيلان هامسة: كأننا في بيتٍ عربي قديم يا عزيزي!!
ردّ وفي عينيه بريقٌ يكاد يضيء الدنيا : هذا المطعم كان بيتاً عربيا رمّمه يوسي جلعاد ..وأسماه الجاعونة نسبةً إلى البلد التي كانت هنا.. الجاعونة؟؟ كيف لم أنتبه لهذا؟؟
-"هنا كانت الجاعونة قبل النكبة؟! " تساءلتُ بذهول.
-" قبل قيام الدولة" صحّحني إيلان.
يا لإنسانيتك يا يوسي.. لم تكتفِ بأنك لم تغير في البناء بل حفظت اسم القرية أيضا.. الجاعونة يا إيلان.؟؟!!. وتقولها معتزا كأنما تقدم لي هديةً متوهجة بالمحبة.. الجاعونة.!!!!.
صورة امرأةٍ فلسطينيةٍ سكنتني.. هنا بلا شك علّقت "شلّة الثوم" .. وهناك "قلائد البامية اليابسة".. ها مخزن المونة ما زال شاهدا على كلّ شيء!
ويحي.. أيّ تعايشٍ هذا الذي أحتفي به على أنقاضي؟؟

رائحة جرحٍ فلسطيني باتت تخنقني.. تكاد تثور في نفسي أصواتٌ لأطفال لم يسعفهم خيالهم ليفهموا سلوك أبيهم إذ يفزعهم وسط هذا الهزيع المحترق من العتمة. وأمّ تجري تلملم ما أتاحت لها الثواني مما قد يمكنها استراقه قبل دخول الجنود إلى المكان واحتلاله..
تبّا لك يا إيلان.. أما وجدت مكانا آخر للاحتفال؟؟ أما أمكنك تتويجي في مكانٍ لا يصرخ إني عربي؟؟؟
ماذا سأخطب وأصوات أطفال تستصرخ في أعماقي أن هذا البيت لهم؟ من حولي أناشيد وضحكات ، وفي عمقي بكاءٌ وعويل.. نشيج أرواحٍ تُغتصَب ، أنّات جدرانٍ .. وهتاف أشجارٍ تحلم بمعانقة غارسٍ غادرها وانتكب..
وإيلان راح يلقي كلمته ملتحفاً ابتسامة أوسع من ملامحه وزّعت بريقها على كل الحضور معدّداً من سماتي ما تشرئبّ له عنقي.. متباهياً بامرأةٍ مثلي لم تنجح في تحقيق ذاتها فحسب إنما أدت دورا عظيما في إبراق أملٍ لمجتمعها إذ بذلت مجهوداً جبّاراً لتثبت أن السلام ممكنٌ ما دمنا لا ندّخر جهدا في سبيله..
أذهلني تصفيق الجميع ينتظرون كلمتي في هذي المناسبة ، لكن الصمت كان رفيق لساني.. إذ انبعثت في أعماقي كلّ تلك الحسرات.. واندلعت في روحي تداعياتٌ تكفي لاحتراقها..
أردتُ أن أصرخ فيهم إن الأرض أرضي يا أولاد ال.... الأرض أرضي وبؤساً لي ولكم. بؤساً لكل ما نخادع به أنفسنا ، وبؤسا لتعايشٍ أحتفي به على صرخات دمي.. أردتُ أن أشتمهم وأشتمني .. أن أصيح إن هذا البيت بيتي.. وإنّ لي أهلاً ما زالت رائحتهم تنتشر فيه ..
لكن الكلمات انحبست في عمقي.. حتى ضاق الجميع بصمتي.. علت تساؤلاتهم فسارع إيلان إلى احتضاني معللا أن تأثري بالمناسبة قد ألجم كلماتي.. صفق الجميع مبتهجين إذ قلّدني إيلان وسام السلام.. دنا مني هامسا بعتب متحبّب :" لو أنك غنيتِ معنا نشيد السلام على الأقل"..
وربّي كنتُ أنوي ذلك.. أردتُ بصدقٍ لكنه صوت مارسيل لم يبرحني :"في البال أغنيةٌ يا أخت عن بلدي.. نامي لأكتبها.....


** من مخطوط "سيناريوهات لجريمة محتملة " .... أنوار سرحان –نحف.



#أنوار_سرحان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيناريو لجريمة محتملة
- من ذاك العمق قد صرخت- الشاعرة العبرية داليا رافيكوفيتش
- رواية -الأسير- ليزهار سميلانسكي
- من رواية خربة خزعة
- الدخلة والقربان


المزيد.....




- -جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
- -هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
- عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا ...
- -أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب ...
- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أنوار سرحان - -هذه... أغنيتي-