ربت الرئيس الأمريكي جورج بوش على كتف الرئيس الجورجي المنتخب ميخائيل ساكاشفيلي، لكي نستخدم عبارة وكالة أنباء "رويترز"، وهنأه على النتيجة الجارفة التي أسفرت عنها الإنتخابات (الجديرة، حقاً، بأنظمة الإستبداد العربية، وحدها!). ثم لم يغب عن الإبن البارّ للرأسمال النفطي الكوني العابر للقارّات أن يذكّر الرئيس الشاب: "نعلّق الكثير من الآمال على جورجيا الجديدة"، و: "ننتظركم بفارغ الصبر في واشنطن، من أجل الشدّ على أيديكم".
لم لا، فالرئيس الشاب هذا إبن الولايات المتحدة والثقافة الأمريكية في نهاية الأمر، والحمقى وحدهم يغفلون حقيقة الدور الأمريكي في صعوده، على أنقاض إدوارد شيفارنادزة... حليف أمريكا السابق في عهد البيريسترويكا، والسنوات اللاحقة كافة، وطريد الجماهير الجورجية التي بلغ بها السيل الزبى، ليس ضدّ المافيات والنهب المنظّم والفساد العميم فحسب، بل أساساً من أجل لقمة خبز يومية نظيفة.
ولكن حتام ستبقى آمال الجورجيين الفقراء معلّقة على الرئيس الجديد؟ المرء يأمل أن لا تطول الآجال، رغم أنّ المعطيات تفيد العكس تماماً، إذْ لن تكون هذه الجمهورية بأفضل من أخواتها الجارات المنخرطات في "اقتصاد السوق"، والذي بات مجرّد تنويع لفظي على التعبير الآخر الأدقّ: "الليبرإلىة الوحشية". إنها بيدق جديد ينضمّ إلى الشطرنج الكبير الذي يشهد "اللعبة الكبرى" العتيقة، دون سواها... ودون تبديل كبير، يا للعجب! ولقد قيل مراراً إنّ أوضاع جورجيا غير المستقرّة، والمافيوزية ـ اللصوصية أيضاً، تعيق تنفيذ أنبوب النفط العملاق "باكو ـ تبليسي ـ سيحان"، القادم من حقول نفط أذربيجان وكازاخستان وبحر قزوين إجمالاً، المارّ في جورجيا بالضرورة، والواصل إلى ميناء سيحان التركي على شواطىء المتوسط!
وليس من المبالغة القول إنّ في وسع المرء أن يعثر على خلفيات اقتصادية جيو ـ سياسية، كونية أكثر منها إقليمية أو محلية، خلف عشرات التطوّرات التي تشهدها بلدان أوروبا الشرقية بين حين وآخر. وهذا "المعسكر الاشتراكي سابقاً"، الذي لم يستكمل بعد نصف العقد الأوّل من ثوراته الديمقراطية ـ الليبرالية فاستعجل الإنقلاب إلى النقائض القديمة بعد أن أضفى عليها أكثر من مسحة واحدة جديدة. سياسات القوى الكبرى، قبل مشكلات المجتمع الكبرى، هي الهادي في هذه الأنظمة الجديدة، لأنها ببساطة كانت في رأس الأسباب الجوهرية لصعود تلك الثورات ، واتكائها أكثر ممّا ينبغي على الغرب وأمريكا.
وكان فريدريك إنغلز، شريك كارل ماركس في رصد ورسم ملامح "الشبح الشيوعي" الذي أخذ يحوم في سماء وأرض أوروبا منذ أواسط العقد المنصرم، قد أطلق جملة نبوئية مدهشة وثمينة في آخر أيام حياته. قال إنغلز: "ثمة غرابة خاصة في أطوار البرجوازية، تميّزها عن جميع الطبقات الحاكمة السابقة، هي أنها تبلغ منعطفاً حاسماً في صعودها وتطوّرها تصبح فيه كلّ زيادة في وسائل جبروتها، أي كلّ زيادة في رأسمالها أساساً، بمثابة عنصر جديد إضافي يساهم في جعلها أشد عجزاً عن الحكم بالمعنى السياسي". وبصرف النظر عن درجة الصلاحية العامة في تشخيص صدر قبل أكثر من قرن (توفي الرجل عام 1895)، فإن المجموعات الحاكمة في المجتمعات الرأسمالية الغربية المعاصرة تبدي الكثير من هذا الميل، فكيف الحال في مجتمعات الإهتداء الهستيري العجول إلى فضائل وآلام وآمال الرأسمالية العتيقة؟
وفي فرنسا، كما في الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا واليابان، تتابع أخلاقيات السوق العيش وفق قواعد ثقافة الرضا حسب تعبير المفكر الإقتصادي المعروف كينيث غالبرايث. وهذه جسم إيديولوجي اجتماعي ـ اقتصادي يلبس لبوس الديمقراطية (حين لا تكون هذه الأخيرة خيار مجموع المواطنين، بل أداة أولئك الذين يقصدون صناديق الاقتراع دفاعاً عن امتيازاتهم الاجتماعية والإقتصادية)، وتفرز أجهزة حكم لا تنطلق في تطبيقاتها السياسية من مبدأ التلاؤم مع الواقع والحاجة العامة، بل من طمأنة الخلايا الدقيقة المنعمة والراضية، التي تصنع الأغلبية الناخبة.
والفكر الإجتماعي الرسمي، الذي يغطّي هذه الثقافة إيديولوجياً، لا يلحّ على قضية أخري قدر إلحاحه على الطبقة، أو بالأحرى على غياب مفهوم الطبقات. وكبديل عن هذا التوصيف الكابوسي الذي يرجّع أصداء الماضي، يلجأ ذلك الفكر إلى البلاغة فيتحدث في أمريكا عن الطبقة السفلى Underclass، وفي فرنسا عن الذين بلا عنوان دائم SDF، وفي بريطانيا عن المشرّدين Homeless. لكن المحتوى في جميع الأحوال يصف ملايين الفقراء والعاطلين عن العمل و... يصف كذلك طبقات بؤس تولد من جديد وتنضمّ إلى أخرى عتيقة تواصل إنتاج وإعادة إنتاج شروط بؤسها.
وكان الشهير فرانسيس فوكوياما قد أعلن ـ لكي لا ننسى ـ نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية السياسية والإقتصادية في معركة ختامية لن تقوم بعدها قائمة لأية إيديولوجية منافسة. وقبل أن ينقضي نصف العقد العجيب الذي ذهب بصواب الرجل، كان فوكوياما قد أصدر كتابه الثاني الذي كان على وشك التبشير بنهاية الإقتصاد الوطني وولادة التعميم العالمي لاقتصاد كوني واحد عماده "الثقة"، تدور من حوله أفلاك اقتصادية أصغر أو هي ليست بالإقتصاد إلا لعدم توفّر مصطلح بديل يصف طبيعتها. ولكن فوكوياما، في أوائل العقد كما في أواسطه، كان قد أساء قراءة هوية الرجل الأخير أو الرأسمالي خاتم البشر، الذي سيرث الأرض بعد طيّ صفحة الحرب الباردة. والملفّات التي انفتحت وتنفتح هنا وهناك في أرجاء الكوكب هذا، في روسيا وبولونيا ورومانيا وهنغاريا وبلغاريا وتشيكيا وبلاد الشيشان، إذا انتقلنا مرتبة أدنى هبوطاً من انعتاق النازية الإسرائيلية من كلّ عقال في فلسطين المحتلة، وتقويض برجَي التجارة، وغزو أفغانستان، واجتياح العراق، و"الحملة على الإرهاب"، و"رهاب" الطائرات المسافرة إلى العمّ سام... أليست أكثر بكثير من مجرّد "اضطرابات"؟
بالطبع، التبسيط هو آخر المعايير المقبولة في أيّ وقوف عند متغيرات "المعسكر الاشتراكي سابقاً"، والأمر هنا يشمل التبسيط على الجانبين: ذلك القائل إن مجمل عجائب الليبرالية الوحشية ليست سوى عودة من النافذة لأخلاقيات كانت قد طُردت من البوابة العريضة للإيديولوجيا الرسمية؛ أو القائل إنها ظواهر كانت قائمة على الدوام، خافية أو مبطّنة أو نائمة، ولا تقوم اليوم بما هو أكثر من إماطة اللثام عن نفسها. وبهذا المعنى فإنّ النطاق الإقتصادي يأتي بعد (وليس قبل) المعضلات الإجتماعية، وبينهما تكون السياسة أو العجز السياسي عن ممارسة الحكم هي القشة التي ترجح كفّة الميزان.
وعلى سبيل المثال، ثمة معركة خفيّة حامية الوطيس تدور في روسيا المعاصرة بين استقطابين عملاقين تتمحور من حولهما وتلتقي فيهما أو على النقيض منهما جملة التيارات الشيوعية والليبرالية والإشتراكية الإصلاحية و"اشتراكية السوق" والنزعات القومية المعتدلة أو تلك المتطرفة. وهذان التياران جزء لا يتجزأ من الفسيفساء المعقدة التي ترسم قسمات شعوب ما بعد نهاية التاريخ: الاستقطاب الإستغرابي (نسبة إلى الغرب)، والاستقطاب الأورو ـ آسيوي (نسبة واستلهاماً لموقع روسيا الفريد على التخوم الحاسمة لقارّتين شهدتا وتشهدان أعمق الصراعات الحضارية على مرّ التاريخ).
ولكي لا يخوض المرء على الفور في المستنقعات العكرة لأطوار ما بعد الحرب الباردة، تجدر الإشارة إلى أن هذين التيارين لم يولدا على حين غرّة. والباحث الروسي فلاديمير بيلينكين رصد الأجنّة الأولى منذ السبعينيات، في الأوساط الإيديولوجية والفكرية القريبة من المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي والأجهزة البيروقراطية العليا، فضلاً عن استخبارات الـ KGB. وغنيّ عن القول إن هذين الاستقطابين يتناميان في حاضنة مناسبة للغاية، أبرز عناصرها هي التالية:
ـ قوة عظمي تملك ثاني ترسانة نووية في العالم، ولكنها تنزلق رويداً رويداً إلى مصافّ المقاييس التقليدية لدولة عالمثالثية، في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ـ إقتصاد نهض على التصنيع الثقيل، ولكن أساسه الوطني يعتمد اليوم على تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات الغذائية المصنّعة، ويرتهن أكثر فأكثر للرأسمال الأجنبي والإستثمارات المتعددة الجنسيات.
ـ تباين صارخ في التوزيع الاجتماعي للثروة القومية، وشروخات حادة بين الأغلبية الأكثر فقراً وبؤساً، والأقلية المنعمة المنشطرة بدورها إلى كومبرادور رأسمإلى متحالف مع الشركات الغربية العملاقة، وقطاعات طفيلية متحالفة مع المافيات الداخلية ومجموعات الضغط القوموية.
المرتكز العقائدي للإستقطاب الإستغرابي الروسي يبدأ من إعادة النظر في الثورة الروسية والطور السوفييتي بوصفهما إجهاضاً للمسار التاريخي الكوني الطبيعي الذي كان سيفضي بروسيا إلى النظام الرأسمالى، كما هو حال أوروبا والغرب إجمالاً. من هنا يدعو المستغربون الروس إلى تصحيح هذا الخطأ التاريخي الفادح، ويعودون بالاقتصاد السياسي والنظرية الاجتماعية إلى الينبوع: إلى آدم سميث ومفهومه للمجتمع المدني المنظّم ذاتياً، وإلى "مدرسة شيكاغو" في أقصى تمثيلاتها اليمينية.
وبالطبع، لا مجال عند هؤلاء للتفكير في الديمقراطية بمعزل عن الليبرالية والسوق المنفلت من كل عقال. ولا مجال أيضاً لأية عقلنة في اقتباس الأنساق الثقافية السائدة في النماذج المعاصرة من المجتمعات الرأسمالية. وهكذا يتمّ استيراد "الليبرالية" و"الثاتشرية" و"الريغانية" و"التفكيكية" و"ما بعد الحداثة"، تماماً كاستيراد سيارات المرسيدس والأوبرا الصابونية والـ "سيكس شوب" وعنف شوارع لوس أنجليس والبغاء المخملي.
ولكن خطّ التدهور الموضوعي الملازم لهذا الانفتاح البربري كفيل باستيلاد القطب الأخلاقي النقيض له، أي ذاك الذي يدغدغ روح روسيا وماضيها الإمبراطوري العريق. ودعاة الهوية الأورو ـ آسيوية لا يتورعون عن وصف الحضارة الغربية بالظاهرة الكولونيالية الإثنو ـ ثقافية، التي تستخدم الإقتصاد والسياسة والثقافة والجيوش لإخضاع الحضارات الأخرى وإجهاض مسارات تطورها (الطبيعية بدورها، مثل المسارات التي يتحدث عنها المستغربون). أكثر من ذلك، وبدل الذهاب إلى آدم سميث، يتوقف الأورو ـ آسيويون عند الأنثروبولوجيا الثقافية لكي يشددوا على أن الروس جزء رائد في عائلة الشعوب التي حكمت وجودها وحضاراتها قيم أخرى مختلفة عن تلك التي أشاعتها وفرضتها أوروبا الرومانية ـ الجرمانية. وهذه الاستقطابات تتحرّك في السطوح الأعمق من السياسة اليومية، الميدان المعلن الذي يتبدّى فيه عجز الإقتصاد الرأسمالي عن تطويع الحياة اليومية.
هذا في روسيا، أمّا في أمثلة "المعسكر الإشتراكي سابقاً"، أو في ما تبقّى من شرق أوروبا، فإنّ مثال الموقف من الشيشان (وهو، في جزء من تجليّاته، موقف عنصري جوهرياً) يتكرّر على هذا النحو أو ذاك في الحروب الداخلية الإثنية ـ الإثنية أو الإثنية ـ الثقافية، أو حروب "الأصلاء ضدّ الأغراب"، أو في الحروب الأخرى الإقتصادية ـ الإجتماعية التي لا تغيب عنها قواعد المافيا. ذلك يدفع المرء إلى انتظار القليل فقط من الرئيس الجورجي المنتخب ميخائيل ساكاشفيلي على صعيد المجتمع، والكثير على صعيد أنبوب النفط. ذهب المافيوزو العجوز وجاء البيدق الشاب، وعلى كتف هذا الأخير سيربت جورج بوش مراراً وتكراراً!