|
-الشيء ونقيضه -ثنائية فلسفية عميقة تؤثث ديوان -بين -ذراعي قمر-* للشاعرة فاطمة الزهراء بنيس.
مصطفى لغتيري
الحوار المتمدن-العدد: 2283 - 2008 / 5 / 16 - 07:43
المحور:
الادب والفن
"الشيء و نقيضه "من المقولات العميقة التي حكمت الفكر الإنساني منذ القدم، و قد اتخذت هذه المقولة لنفسها لبوسا متعددة ، أبرزها جبة "الخير و الشر" التي ارتدتها الديانات باختلاف مرجعياتها ، وقد نقح الفكر الفلسفي هذه الثنائية حتى اتخذت لنفسها طابعا مغريا ، أضحت معه قادرة على احتواء كثير من المفاهيم تحت مظلتها ، حتى أن فلسفة بعينها قامت على أساسها، أقصد فلسفة الفيلسوف الألماني كانط الذي صاغها في عبارتي"الشيء في ذاته" و" الشيء لذاته" .
ولما كان الأدب منشغلا إلى أبعد الحدود بالكشف عن العمق الذي يحكم الإنسان و يوجه تفكيره وأحاسيسه ، فقد وجد الشعراء في كثير من المقولات الفلسفية ضالتهم ، فركبوا مطيتها من أجل صياغة قصائد شعرية عميقة و بعيدة الغور ، ومن هذه المقولات ثنائية "الشيء و نقيضه". و المطلع على ديوان " بين ذراعي قمر" للشاعرة فاطمة الزهراء بنيس ستلفت انتباهه- لا محالة - هذه الثنائية ،التي تؤثث قصائد الديوان على امتداد صفحاته، و المتمثلة في " الماء و النار" ، ومما يؤكد أن الشاعرة قد عمدت إلى هذا التوظيف عن سبق إصرار و ترصد ، و لم يأت عفو الخاطر ، أنها عمدت إلى عنونة قصائد من الديوان بما يوحي بذلك ، أعني حضور" الماء و النار" ، أو أحدهما ،أو ما يدل عليهما في العنونة ، و أبرز هذه العناوين " لهب الماء " و " عرش من يحموم" بحر ليس كالبحار" و ملذات الجحيم" . و يمكن من خلال رصد معجم الديوان و تراكيبه و صوره الشعرية ومن ثمة رؤيا الشاعرة أن يتأكد ما ذهبنا إليه و يتزكى لدى القارئ. فعلى مستوى المعجم ، يلاحظ المتلقي طغيان الحقل الدلالي للماء و النار ، بحيث يخترق هذان الحقلان الدلاليان جل القصائد ، ويفرضان على النصوص حضورهما القوي و الفاعل، حتى أنهما يطغيان على ما دونهما من الحقول الدلالية الأخرى ،و يجعلانها تابعة لهما ، فتكتسب هذه الحقول الدلالية عمقها الدلالي من خلال الاحتدام بين هاتين اللفظتين المتناقضتين ، فيولد تضادهما- نتيجة لذلك- معاني بلا حصر ، تنفتح معها شهية التأويل على مصارعها . فبالنسبة للحقل الدلالي للماء يمكننا أن نقف على الألفاظ التالية أمطرت – يرتويان – بحر- الموج – شلال – مسكوب – الماء – ري – غيمة – سالت – جرعة..
أما فيما يخص الحقل الدلالي للنار ، فيمكن رصد الألفاظ التالية .. لهب- - تلتهب – أذاب – الشرارات- الجحيم – يحموم- النار- النور – صهدنا.. و قد ساهم التكرار الذي توسلت به الشاعرة في إغناء معجمها الدلالي للماء و النار في تعميق هذا الاتجاه، من خلال الاستناد على توظيف المعطى الصرفي ، بما يعني ذلك من مشتقات تؤدي نفس وظيفة اللفظتين المبؤرتين للقصائد ، أعنى لفظتي الماء والنار ، وهكذا تناسلت في القول الشعري كلمات من قبيل : اللهب يلهبني – تلتهب -سال – سيول- سيل - سيلي - يسيل - أمطر – المطر – أستمطر- الممطر- أمطرتني و قد أثر هذا المنحى، الذي ارتضته الشاعرة فاطمة الزهراء بنيس لنفسها منهجا في صوغ قصائدها، على المنحى العام، الذي اتخذته الجملة الشعرية في الديوان ، فجاءت – نتيجة لذلك - قلقة ، تتوسل صيغة الاستفهام ،و الشاعرة هنا ليست معنية بتقديم أجوبة، و إنما هي شديدة الحرص على أن تبقي جذوة الأسئلة متأججة ، تحرق بلوعتها كل من راودته نفسه على ملامسة القصائد و التعاطي معها ، ويمكن أن نرصد بعض هذه الجمل المعبرة عن ذلك فيما يلي، مع مراعاتنا الحرص في تقديم هذه النماذج ، على ضرورة انسجامها مع معجم" الماء و النار" إما بتوظيف اللفظتين مباشرة أو ما يدل عليهما - كيف للماء /أن يعتق صهدنا؟ - أية نار مست عماي؟ كيف كان انسيابك/ بين الشقوق؟ من يعيرني حاسة / أتجرع بها معناي؟ - أي نار/ مست عماي؟ أكانت رؤيا / أم كانت لوعة من السماء؟ من مخر غيمة العميان؟ و قد تأكد هذا اللا يقين، الذي تضرب الشاعرة في أرضه غير هيابة، من خلال الطابع البصري للكتابة على صفحات الديون ، إذ جاءت الجملة موزعة كليغرافيا على الصفحة بما يعزز هذا التوجه، فيذكي في وجدان المتلقي و ذهنه حيرة مضاعفة ، تستحثه لملء البياض أو الضرب عنه صفحا ، حتى لا يتورط في عالم شعري لا يقدم نفسه بسهولة ويسر . و تسلك الصورة الشعرية في الديوان نفس المسلك ، إذ أنها ساهمت في تأجيج روح "الشيء و نقيضه "المتمثل في ثنائية الماء والنار ، فانبنت الصور الشعرية على خلفية هذه الثنائية ، لتكسب الديوان انسجاما يتلاءم مع معجمه و تركيب جمله ، ويمكننا أن نقف عند نماذج من ذلك على سبيل التمثيل لا للحصر، فنذكر منها : -يفوح/ عبر زخات جمر -نقعت شهواتي / في كلمات -يرقد الماء. -شيعت ذاكرتي/ في تابوت من زلال - سال العراء بومض خاطف من مخر غيمة العميان. أمطر بحارا. بلهيب الوحي ذابت. وانسجاما مع طبيعة المعجم و الأساليب و الصورة الشعرية، كما تم التطرق إليها أعلاه ،جاءت رؤيا الشاعرة متسقة مع ذلك كله ، إذ أن الحيرة والشك واللايقين تحكمها منذ بداية الديوان حتى آخره ، فهذا التضاد الدلالي المؤطر للقصائد ألقى بظلاله الثقيلة على النفس الشعري للديوان فألقي به في متاها ت اللايقين.. تقول الشاعر "لست على يقين/ بمداي"و في مكان آخر "هيهات أن أمتلك معنى"و في مكان ثالث " باللامعنى/ هامت دائخة/ بنفح من قمر" و أمام هذا اللايقين والعماء لم تجد الشاعرة بدا من الارتماء في حضن التيه و اللا انتماء ،معبرة- من خلال ذلك- بعمق عن حيرة الإنسان الحديث و فقدانه للمعنى في العالم والقيم، تقول الشاعرة" كم يطيب لي/ أن أنغرس/ في اللانتماء/ كأنني هباء" ورغم ما يطبع القصائد من أجواء تميل نحو الاحتفاء باليباب و اللاجدوى و اللايقين ، فإن الشاعرة سرعان ما تباغتنا بيقظة مفاجئة ، تنتصر فيها للأمل و التمسك بحقها في المضي قدما في دروب الحياة ، و كأنها عنقاء تنبعث من رمادها ، لتشق طريقها نحو المستقبل بقوة وثبات ،فتنشد ملء الصوت و الحواس "كالماء /أبدع مجراي / و أمضي/ لأنبع/ من غيم آت/ أو / من صمت مشحون". و أخيرا فإن المتصفح لديوان " على ذراعي قمر "لاريب سيلمس عن كثب كيف ساهمت ثنائية "الشيء و نقيضه " في منح القصائد بعدا جماليا و عمقا فكريا لا غبار عليهما ، و أهل - بالتالي- القول الشعري في الديوان ليكون محفزا على تعدد القراءات و الإغراق في متاهات التأويل ، وتلك - لعمري- بعض سمات نجاح النص الأدبي. * فاطمة الزهراء بنيس- بين ذراعي قمر – دار ملامح للنشر القاهرة الطبعة الأولى 2008.
__________________________________________________
#مصطفى_لغتيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المفارقة والسخرية في مجموعة (تسونامي)*
-
قصص قصيرة جدا من تسونامي
-
قراءة في حب على طريقة الكبار لعزالدين الماعزي
-
المغرب بلد قصصي بامتياز
-
السخرية والغرابة في رجال وكلاب لمصطفى لغتيري
-
حوار مع رئيس الصالون الأدبي المغربي
-
عندما يطير الفلاسفة
-
حوار
-
بيت لا تفتح نوافذه لهشام بن الشاوي
المزيد.....
-
كأنها خرجت من أفلام الخيال العلمي.. ألق نظرة على مباني العصر
...
-
شاهد.. مشاركون دوليون يشيدون بالنسخة الثالثة من -أيام الجزير
...
-
وسط حفل موسيقي.. عضوان بفرقة غنائية يتشاجران فجأة على المسرح
...
-
مجددًا.. اعتقال مغني الراب شون كومز في مانهاتن والتهم الجديد
...
-
أفلام أجنبي طول اليوم .. ثبت جميع ترددات قنوات الأفلام وقضيه
...
-
وعود الساسة كوميديا سوداء.. احذر سرقة أسنانك في -جورجيا البا
...
-
عيون عربية تشاهد -الحسناء النائمة- في عرض مباشر من مسرح -الب
...
-
موقف غير لائق في ملهى ليلي يحرج شاكيرا ويدفعها لمغادرة المسر
...
-
بأغاني وبرامج كرتون.. تردد قناة طيور الجنة 2023 Toyor Al Jan
...
-
الرياض.. دعم المسرح والفنون الأدائية
المزيد.....
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
-
البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان
...
/ زوليخة بساعد - هاجر عبدي
-
التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى
/ نسرين بوشناقة - آمنة خناش
-
تعال معي نطور فن الكره رواية كاملة
/ كاظم حسن سعيد
-
خصوصية الكتابة الروائية لدى السيد حافظ مسافرون بلا هوي
...
/ أمينة بوسيف - سعاد بن حميدة
المزيد.....
|