|
أقاليمٌ مُنجّمة 9
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2281 - 2008 / 5 / 14 - 11:26
المحور:
الادب والفن
ـ " لن أذهبَ مرة اخرى إلى البيت ، ذاكَ " قالها " بشير " ، مُشدداً على المفردة الأخيرة . ما كانَ لي إلا أن أقرّع نفسي ، بسببٍ من هَفوةٍ ـ أو سوء تقدير بالأصح ـ وضعَ صديقي في موقفٍ بغاية الإحراج . ففي صباح اليوم نفسه ، كانت " فريدة " ، لدى دخولها الصالون ، مرتدية ً غلالة شفيفة ، صارخة اللون ـ كما سروالها المُخرّم النسُج ، المُتبدّي تحتها . لحظتها إذاً كيفَ تسمّرت ثمة ، بمدخل الردهة ، وقد فجأها حضورُ أخيها ، حدّ أنها تبدّت غيرَ مُصدقة عينيها . تسنى لي ، بطبيعة الحال ، أن أعاين التعبير المدهوش ، المُرتسِم على وجه " بشير " ، وما تبع ذلك من إطراقته ، المتطاولة ، إثرَ فرارها إلى حجرة النوم . ثمّ عادتْ ، على كلّ حال ، بعدما تداركتْ الأمرَ بملبس آخر ، أكثرَ حِشمَة ، لتأخذ بين يديها ، الملهوفتين ، ذلك الشقيق القريب لقلبها . كنتُ الملومُ ، الوحيد ، في هذا الموقف ؛ طالما شئتُ تدبيره بنيّة حسَنة ، مُفترضة المفاجأة السارّة لكلا الأخوَيْن . لم أدر عندئذٍ أنّ " نظير بك " كان في غرفة المتعة ، تلك ؛ هوَ الذي ما عتمَ أن ظهرَ بدوره ، مرتدياً الروب دي شامبر ، ليفتتح فصلاً مأسوياً ، جديداً ، من يومنا هذا .
ما إستقبَلنا في بيتنا يومئذٍ ، لم يكن ليُبشر بخير ، أيضاً . إذ عادَ أخي " جيان " ، للمنزل مباشرة ً بُعيدَ إجازة إمتحاناتي ، الأخيرة . شاءَ الحلول في عليّتي ، بحجة أنها توفرُ له مجالاً للفرار ، عبرَ الأسطح ، ما لو داهمه المطاردون من أفراد الأمن ، العسكريّ . هكذا قضيتُ وضيفي الليلة في حجرة المطبخ القديم ، فيما صخبٌ مُدمنٌ يكاد يقطع علينا متعة الإسترسال في أحاديثنا ، الحميمة . وها هيَ " صافية " تأتي للسلام على الشاب ، بعدما إطمأنتْ لإنصراف رجلها مع زبانيته . وكان مني أن صعدتُ معها إلى العليّة ، تاركاً الضيف في رعاية أحلامه . من النظرة الأولى ، أرعبني أنّ غرفتي ، المُفتقدة ، قد أمسَتْ أشبه بإحدى مسارب العالم الأسفل . على الشرفة ، قالت لي إمرأة أخي بحذر : ـ " إستاء حينما أخبرته عن صديقكَ ، وأنه ربما يقيم هنا فترة حتى يتدبّر مسكناً " ـ " ما شأنه بضيفي ؛ وهوَ من يصطحب أصحابَ السوء لمنزلنا ، كلّ ليلة ؟ " ، ندّتْ عني بسخط . صمتت قليلاً ، ثمّ تكلمتْ من ثمّ مومئة ً ناحية شرفة البيت ، المُقابل : ـ " قال أنه يكفي العائلة ذلك العار ، الذي جلبته قريبتكم بعملها في المسرح .. " ـ " المأفون ! وكأنما جعلَ لسمعة آلنا ، أجنحة ً ملائكيّة " ، عدتُ أغلي غضباً . وراحتْ هيَ ، على الأثر ، تقصّ عليّ ما إستجدّ من خبر " مريم " ، وأنّ شقيقها ، العتيّ ، قد تهددها وزوجها قبيل إختفائه من الحارَة بعدما شُددتْ الإجراءات الأمنيّة ، مؤخراً . ما رغبتُ بسماع المزيد . تركتها على الشرفة مع سيكارتها ، الخالدة الجذوة ، ثمّ هبطتُ الدّرج متفكراً بدورة النجوم ، المُتكررة حدّ الضجَر .
رأيتني أنساقُ نحوَ " المزرعة " ، وكأنني مَسحورٌ بعطر الغريبة . بدَتْ الشقة ، في ساعة متأخرة كهذه ، كهفَ أشباح ، مهجور . خطرَ لي الإنسحاب والعودة إلى رحمة الشوارع ، الخالية ، لحظة إبتدهني نداءُ " فريدة " . ما لبثَ سرير المتعة أنْ ضمّنا ، ثانية . سألتني بعدئذٍ عن شقيقها : ـ " هل أمكنه تأمينَ مسكن ٍ للإيجار ؟ " ـ " ليسَ بعد . ولكنه يقيم الآن في " مزة جبل " ، عند أصدقاء له " ـ " أريدكَ أن تخبره ، مؤكداً ، برغبتي لقياه " ـ " أين .. ؟ " ـ " في مكانه ذاكَ ، مثلاً " ـ " هوَ ذلك . فهذا المكان غير مناسبٍ ، كما تعلمين " ـ " كيف ؟ " ـ " أعني ، أنّ شخصاً بحساسيّة " بشير " ، لا يُمكن أن يَصْلحَ أنيساً لـ " نظير بك " .. " ـ " ولا لغيره ، على ما أعتقد ! " ، أجابتني ونظرة حانقة تغشى عينيها الحزينتين ، العميقتيْ السواد . أخلدتُ للصمت ، ولم أشأ إضفاءَ مزيدٍ من الكدَر على ليلتنا هذه ، المؤرقة . من جهتها ، فإنها عادتْ للإسترخاء والسيكارة في يدها . ومن خلل السحُب الرماديّة ، بدا لي أنها عبرَتْ إلى غابة سحريّة من أغراس نافرة ، غريبة الأشكال ، محاولة ً الإهتداء إلى فرعها المُفتقد ، البتول .
*** في الطريق إلى الصحبَة ، الطلابيّة ، إنشغلتُ بإستحضار صورة العقيد . مناوباتي الليلية ، في قطعتي الجديدة ، أضحتْ أكثرَ إنتظاماً . إذ راحتْ إلى غير رجعة الليالي تلك ، القديمة ، الهاربة من وحشة الهضبة ، المُطلة على غفوة البحر . ها هوَ طريق " الأوتوستراد " ، الواسع ـ كفم حوتٍ ، يتلقفني في العطفة المأهولة ، المتحدّرة من سفح " قاسيون " . كنتُ بصدد الإطلالة ، المألوفة ، على " بشير " وأصدقائه ، المقيمين في جادّة مستظلة بالصخور الواطئة . ثمة ، توغلتُ وعيني على المقام الأعلى ، فيما خطوي يتأثر خطى النبي " الياس " ، الحافية ، الهاربة تواً من مصحّ الجزام . رأيتني بعد قليل في حجرة الإيجار ، المتواضعة ، أجتلسُ على الأريكة العتيقة ، المُفترشة ببطانياتٍ خلِقة ، تفصلني عن صديقي طاولة من حديدٍ ، فظ الصدأ . ثمّ ما عتم أن توالى حضور أصحاب " بشير " ، والذين كنتُ على معرفة ببعضهم . ها هيَ صديقة فتانا هنا ، أيضاً ، وكان فيما مضى قد حدّثني عنها ، مطوّلاً . ما كادتْ تقدّم لي نفسها ، بإسم " سهيلة " ، حتى أفاقتْ بلمحةٍ ذاكرتي .
كانت الحافلة ، المُتجهة إلى " أوغاريت " ، قد توقفت يومئذٍ في مدخل المدينة ، عند نقطة تفتيش ، أمنيّة . رأيتُ خلل النافذة ، المغسولة بالمطر ، أحد رجال المفرزة وهوَ يُغادر البراكيّة ، الكئيبة المظهر ، متجهاً إلينا . وكانت جارتي في المقعد ، الفتيّة ، قد إستلفتها على ما يبدو المشهدَ نفسه . على أنها سرعان ما تبدّت ضجرة ً ، مُستنفرة الأعصاب ، بسبب بطء رجل الأمن في حركة تدقيقه للبطاقات الشخصية . قالت له ، أخيراً ، بعدما إنتهى من مهمّته : ـ " هلا تتكرّم ، مُتفضلاً ، وتدعنا نمضي في طريقنا ؟ " ـ " هذا ليسَ شغلكِ ! " ، هدرَ صوتُ الرجل ، فيما هوَ يتأمل بعينين ، متفحّصتين ، هيئة مواطنته هذه ، الأنيقة . ولكنّ الطائشة ، على أيّ حال ، لم تأبه بوعيده : " وهل شغلكم هنا ، مجرّد تعطيل الخلق ؟ " . دقيقة ، على الأثر ، وغادر رجلنا الحافلة مغضباً ، بعدما رفضت الفتاة مرافقته إلى نقطة الحاجز تلك . ثمّ آب بعدئذٍ رفقة عددٍ من الأفراد ، المدججين بالأسلحة الاتوماتيكية . برز أحدهم إلينا ، فأمرَ بإخلاء الحافلة فوراً . خارجاً ، كان ثمة مساء شباطيّ ، عابس ، شاءَ تحيّتنا بصبّ من مطره ، المُشبع برطوبة أبيه ، البحر . ساعة من الزمن ، بقينا على هذه الحالة . حتى إذا إطمأن من ثمّ أحدهم على رثاثة حالنا ، فإنه أشار للسائق بأمر الإنطلاق .
تصافحتُ إذاً و " سهيلة " ـ كصديقين قديمين . وعقبتْ هيَ ، مازحة ً ، على ما سرَدْته من حكاية لقائنا تلك : ـ " الدنيا صغيرة ، وقد يلتقي جبلان أحياناً " ـ " لم أدر ، يومئذٍ ، أنني أجلس قربَ صبيّةٍ تملك قلباً جسوراً " ـ " المهم ، في هذه الليلة ، ألا تكون مُجبراً على الوقوف ، بسببي ، تحت المطر ! " ـ " ألم يؤنبكِ ضميرك ، عندئذٍ ؟ " ، ساءلتها وأنا في مزاج طيّب . صمتت الفتاة لبرهة ، وراحتْ بسمتها تتلاشى رويداً . أجابتني أخيراً وتعبيرٌ آخر ، قاس ، يعتري ملمحَها وصوتها في آن : " لم نشهَدَ ، في تلك الليلة ، سوى مداعبة طفيفة حسب . الفلتان المرعب للآلة الأمنيّة ، الجهنميّة ، بدأ الآن للتوّ . والقادمُ أعظم " . قلتُ لنفسي ، إنها متطرفة ـ كالآخرين . وأسرّ لي " زكرَوَيه " ، أنّ إحدى بنات جنسها قد حملتْ راية الدعوة ؛ وأنّ فرقتيْ " الخرّمية " و " الراوندية " ، تقولان بإمامتها .
*** أنهيتها أخيراً ، بسلام ، الحقبة المعلومة ، المنذورة لخدمة الوطن . وكان صديق العمر ، " نورو " ، قد طوّحَ به خارج ملاك الكلية الجوية ، ولسببٍ بقيَ لغزاً . أحاديث حجرة الجلوس ، في بيتنا ، كانت تتناثر أحياناً في سمعي ؛ وأنّ " ماما دنيا " ، صارت توصد بحرص نوافذ منزلها ، المُستضيف ثرثرتها وقريباتها . ما كان الأمرُ هناك مرهوناً للريح الشتويّة ، بل للخبر الجديد ، المُتعلق بتسريح الإبن ، الأثير . ـ " كثرت أحاديثهنّ ، بهذه المناسبة ، وأفضنَ لأول مرة بذكر صاحبك ، العقيد . ليسَ لتعداد مآثره وأوسمته ، ومناهبه حسب ؛ وإنما للتذكير خصوصاً بحذف إسمه من قائمة المستحقين للمعاش التقاعدي " ، علق " نورو " على ذلك بسخرية مريرة . تناوله بإستخفاف سيرة مُلهمي ، المرحوم العقيد ، كان له أن يسيئني وكاد أن يخرجني عن طوري . بيْدَ أنني راعيتُ حالته النفسية ، المُحبطة ، مُلتزماً من ثمّ الصمت . وعلى كل حال ، فإنّ إتفاق تسريح كلّ منا كانَ ، ولا غرو ، مناسبة ً تشدّ من جديد أصرة َ صداقتنا ، القديمة . ما قدرّ لأخي الرضاع ، إذاً ، أن يتغيّر إلا شكلاً حسب . قامته الفارعة أضحَتْ أكثرَ إمتلاء ، وما عادتْ بشرته ، البرونزية ، منسجمة مع رواء عينيه وإزدهارهما . بالمقابل ، لم يشأ هوَ تأكيد ما أشيعَ في العائلة ، عن إستعداده للهجرة إلى الولايات المتحدة ، بمعونة صهره الغنيّ . من جهتي ، أيضاً ، إحتفظتُ لنفسي بما كان من زعم " زين " ( صاحب الألقاب ، القدسيّة ! ) ، عن معرفته للعصبة البائدة ، الكوكشيّة ، عن طريق قريبي هذا : إنّ تجنب ذكر " فريدة " ، عندئذٍ ، سيكون من المُحال ؛ وقد تبدو أسئلتي ، والحالة هكذا ، كما لو أنها بدافع الغيرة .
ها هيَ " عايدة " لدينا . تناهى لي أنها صارت تلازم أمّي كثيراً ، بعدما بَرمَ الآخرون بشكواها . تأتيها منذ الصباح ، لتروي خلل الدموع ، الذليلة ، ما إستجدّ من حالها مع إمرأة إبنها ، " محمد علي " ؛ هذا العائد مؤخراً من مصر ، بعد إقامته فيها زمناً . كانت أمّي ، بحساسيتها المُفرطة ، لا تحبّذ أن يقطع أحد خلوتهما . مُتجاهلاً هذا الإعتبار ، مضيتُ مساءً إلى حجرة الجلوس ، كيما أرى فِعلَ الزمن بآخر إمرأة في الحريم ، القادريكيْ . لدهشتي الكبيرة ، بدَتْ " آموجنيْ " شائخة ، مُتهدّمة ـ كأنني أنا من فارقها دهراً . مطوّلاً تملتْ فيّ ، لتخاطبني على الأثر بصوتٍ مُرجف : " لتكن بارّاً بأمّك ، بني . إنها راعية آلنا ، فإرعَ شيخوختها في قادم الأيام " . وقالت لها والدتي بنبرة حزينة ، متهدّجة : ـ " أستغفر الله ، " آموجني " . إنكِ أنت راعيتنا ، والكل يعرف قدْرَك " ـ " لا قدر لي عندَ أحدٍ ، غيركِ .. " ، أكدتْ العجوز المسكينة . جازَ لي حينئذٍ ، في معاينة حدقتيْ المرأة ، المشدوهتيْن ، أن أذكرَ ربيبتها ، البائسة ، المختلة العقل . وكأنما الفكرة نفسها قد برقتْ ، أيضاً ، في رأس العجوز . إذ عادتْ للإستطراد قائلة ً : " يا للمنكوبة ، " قمر " ! إمرأة إبني ، الذئبة ، تتهددني ، أنا الغريبة ، بحجز الفتاة في " إبن سينا " . وكأنما هيَ ليستْ إبنة عمّها " . مُنتهزاً فرصة الصمت ، المديد ، رحتُ أستعيد ما وصلني أخيراً عن حالة قريبتنا تلك ، المعتوهة ، وأنّ صراخها الليليّ ، الدائب ، صارَ يثير تذمّر الجيران . على الأثر ، تناهضتُ للتوجّه إلى عليّتي لإعداد ما يلزم للسهرة صحبة " نورو " ، مراوحاً قدميّ على العتبة ، فيما " عايدة " تسترسلُ بنفض غبار القهر عن داخلها : " ولو أنّ عمّكم ، المسكين ، كان بصحته ، لما تجرأ كائناً من كان على مُجرّد التنفس في دارنا . إنما هيبته ضاعتْ في الحارَة ، حينما قتلوا " عيسى " ، الذي كان مشمولاً بحمايته ؛ وحينما راحتْ " مريم " تدور على حلّ شعرها وبقوادة رجلها . فكأنما نحن في الزمن ذاته ، المُنذر بظهور الأعور الدجّال " . وهوَ ذا " زكرويه " ، غامزاً إياي بعينه ، الوحيدة ، يُبشرني أنّ الهيكل الذي بناه " الضحّاك " ، سيكون له في المستقبل من الزمان شأنٌ جليل ، ويَعقدُ فيه مَلِكٌ عظيمٌ مُمتطٍ بقرة .
*** أثناء صحبتنا للعَرَق ، راح " نورو " ، مُنكسراً ، يحدّثني لأول مرة عن مشروعه للهجرة إلى أمريكة . وقال ، أنه يرغب بالإستقرار فيها نهائياً . لهجته معي المُعتادة ، الساخرة ، لم تريحني . هذا ، وبالرغم من تقديري لصدق معاناته وكربه . وبالنبرة ذاتها ، أخذ يستعيد ما أسماه " حبّنا الأول ، المُشترك ، لإمرأة واحدة " . كان يُشير ، المرة تلو الاخرى ، إلى جهة " البرج " . ثمّ آبَ من بعد إلى موضوع تسريحه ، المُفاجيء ، من الجيش . لحظتُ مدى تأثره بكلمات " الميدانيّ " ؛ مُنشد حاضرتنا : " الشام ، لولا المظالم ، كانت فوق المدن جنة " . حينما آذنت الساعة الثانية ، بعيدَ منتصف الليل ، بدا صديقي كما لو أنه يتهيأ للإنصراف . ولكنه ، منطفئاً وبائساً ، إلتفتَ إليّ عند باب الحجرة ، قائلاً : " تعالَ ، كي نقتل الطاغية .. ! " . ما إهتممتُ لقوله ذاك ، ولا لخروجه إلى الشرفة . " سيبقى ثمة برهة ، يتأمل نجمَ نحسه " ، فكرتُ في سرّي . على أنّ صوت إرتطام قدميه على السطح المُجاور ، المُفضي لحديقة كبير آلنا ، كان لا بدّ له أن يُخرجني من لا مبالاتي . صدمني مشهده ؛ هوَ المترنح في العتمة ، الغافية . هكذا رأيتني أسارع إلى موقفه هناك ، المُشرف على الدار الكبيرة ؛ أين غرفة العمّ ما فتأت مُضاءة . تشبثتُ بالصديق الثمل ، مُحاولاً إقناعه همساً بالكفّ عن تصرفه الصبيانيّ ، الأخرق . فما كان منه إلا دفعي في صدري بعنف ، وهوَ يلتفتُ ناحية الغرفة تلك ، هاتفاً بقوة : " قادريكي ي ي .. ! " .
هبوب الهواء ، ، إشتدّ عندئذٍ وراحَ يخترق صدري ـ كمسمار . أرعشني الخلاءُ وظهور سيّده ، المُحتمل ، أكثرَ مما فعله البرد . ولكن هيَ ذي دقيقة اخرى مرّتْ ، وما من جلبَة ثمة ، تحتنا . على أنّ " نورو " بدا هادئاً نوعاً ، حينما أخذ طريق العودة إلى جهة عليّتي . الضوءُ الأرجوانيّ ، السهاريّ ، المُتناهي خافتاً من حجرة " البرج " ، إستوقفه ملياً . بسمة غريبة ، شيطانيّة السِمة ، أنارتْ بدورها سحنة صديقي : " الكلّ موتى . وحده ، الممرض ، من يُجري عمليّة تشريح ! " ، قالها فيما يلوّح بإشارة من يده ، بذيئة . عليّ كان أن أنتهره بعدئذٍ ، مُعنفاً ، حينما شرعَ بقطف ليمونة من الفرع المتطامن إلى السطح ، وفي نيّته رميها إلى تلك الناحية ، المُضاءة بمصباح حالم . في حجرتي ، إستجمَعَ شتاتَ نفسه ، مخلداً لصمتٍ متطاول . رفع رأسه من ثمّ ، ليقول متهكماً : " إسمعْ ، يا عقيد ! أترغب بسماعي ؟ حسنٌ . حينما إستغربتَ أنتَ من قراري التطوّع بالكلية الجويّة ، قلتُ لكَ : " إنني أفكر بقصف قصر كبيرنا " . نعم ، تلك كانت مزحة . وأنتَ لم تش بي ! " . ثمّ أضاف ، ولهجته الساخرة تتفاقم رويداً : " أمّي ، ما غيرها ، تتكلم الآن بالسياسة والتقارير الأمنيّة . ما شاء الله ! الحق ، فما تهيأ لها ان تعلمَ بعدد المرات ، التي مكثتُ فيها في السجن ، مُعاقباً . يبدو أنني موهوبٌ ! " . بالمقابل ، كنتُ محتفظاً بلساني في مكانه المألوف ، منصتاً بحزن لتجديفات صديقي . وهو ذا يختتمُ القول ، المرّ ، مُستفزاً إيايَ بلا هوادة : " وهذا العمّ ، العظيم ! أنتَ تقدّسه ، أليسَ كذلك ؟ مُقدّس ـ كالربّ : كنْ ، فيكون ! ولكن جاء دوره ، أخيراً ؛ جاءَ من سيحجر عليه ، جنباً لجنب مع ربيبته ، التي أضاع ظلمُه عقلها .. " ـ " دعكَ من هذا الهراء ! " قاطعته بصوتٍ ، مُصمّ ، أعماه الحنق . مدهوشاً ، تساءل " نورو " وكأنما أفاق للحظته : " علامَ تثور أنتَ ؟ " . ثمّ أردفَ هادئاً ، والبسمة نفسها ، الهازئة ، تتأثره : ـ " أم أنّ إشارتي للحبيبة ، القديمة ، قد ضايقتكَ ؟ " ـ " أنتَ سكرانٌ .. " ـ " لا تنسَ ، يا عقيد ! ، أنها أختي أيضاً " ـ " دعكَ من هكذا تهريف ، لأنه لا يليق بكَ " ـ " سكرانٌ ومهرّفٌ ؟ وداعاً ، إذاً ! " ، قالها بلا مبالاة . ثمّ خرجَ خلل الباب ، المُؤدي للشرفة ؛ أينَ السماء المتجهّمة والمنجّمة ، في آن .
*** زهرة اخرى ، هيَ ذي ، تذروها الريح الشتائيّة ، فتذوي رماداً في مهبّها . إستحال عليّ ، هذه المرة ، أن أهتديَ لمستقرّ " فريدة " ، الجديد ، ما فتأ رجلها الأول ، صاحبُ العلامة ، مختفٍ بدوره . حينما عدتُ لشقة " المزرعة " ، كيما ألاقي صديقتها ، المتخلفة ثمة ، إذا بي أفاجأ بمرأى صبيّة ، غريبة . وإذاً هناك عند الباب ، رأيتني أمامَ غادة ، مُزوّقة ، تتطلع إليّ بفضول وحيرة ، وما لبثتْ أن إستفهمت مني عن مرادي . ما أن شرعتُ بمساءلتها عن قاطني الشقة ، القدامى ، حتى إنبعثَ من الداخل صوتٌ ذكوريّ ، مائع النبرة : " أغلقي البابَ ، يا حاجّة ! هذا ليسَ مكتب إستعلامات .. " .
ثمّ شاءت المصادفة ، أخيراً ، أن ألتقيَ " سهيلة " ، في صباح تال ، وكانت خارجة ً من كافيتريا الكليّة ، الجامعية . ومنها علمتُ بخبر إعتقال " بشير " ، حينما كان في زيارة لأهله . وعلى ذلك ، تكوّنت لديّ صورة ما ، مُحتملة ، عن مسألة إختفاء الغريبة . الحق ، فصديقتها تلك ، التي كانت تشاركها الشقة ، قد سبق وحدثتني عن إنصراف " نظير بك " إلى متعةٍ اخرى ، أكثرَ جدّة ، إثرَ عودته من " بولندة " . في إيابه من ذلك البلد ، كان قد إصطحبَ فتاة شابّة ، تمتلك فضلاً عن ميزة جمالها ، السلافيّ ، معرفة اللغة العربيّة ـ كونها خريجة معهدٍ ، عال ، للآداب الإستشراقية . إلى شقة الغراميات ، المفتوح حسابها على رصيده المُتخم ، كان " الجملُ " يأتي بسكرتيرته تلك ، الجديدة ، ودونما نأمة إعتراض من " فريدة " ؛ هذه المحكومة بالفوز ، ما فتأت متغرّبة عن طبعها ، العنيد . أمّا وقد سقط الشقيق ، الأثير ، في براثن الكمين ، الأمنيّ ، فلا بدّ أنّ أمراً ، مختلفاً ، قد إعتملَ في العلاقة بين المليونير وعشيقته ، العتيقة : ربما قدّر جملنا ، وهوَ يتحسس جلده ، الرهيف ، أنّ ذلك " الماضي النضالي " ، الذي يا ما إفتخرَ هوَ به ، قد يؤخذ بعين الإعتبار ، ما لو توسّع رجالُ الأمن في تحرياتهم عن شقيق " فريدة " ، المعتقل ؟
* الحلقة القادمة : مختتم الجزء الأول ، من رواية " برج الحلول وتواريخ اخرى "
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غربُ المَوت ، للشاعر الكردي دانا صوفي
-
أقاليمٌ مُنجّمة 8
-
عزلة المبدع ، قدَر أم إختيار ؟
-
مسْرىً لمَغاورها
-
أقاليمٌ مُنجّمة 7
-
قراصنة في بحر الإنترنيت
-
أقاليمٌ مُنجّمة 6
-
النصّ والسينما : - كرنك - علي بدرخان
-
أقاليمٌ مُنجّمة 5
-
أقاليمٌ مُنجّمة 4
-
كما كبريتكِ الأحمَر ، كما سَيفكِ الرومانيّ
-
أقاليمٌ مُنجّمة 3
-
أقاليمٌ مُنجّمة 2
-
آية إشراق لنبيّ غارب ٍ
-
أقاليمٌ مُنجّمة *
-
مَناسكٌ نرجسيّة 6
-
سطوٌ على المنزل الأول
-
مَناسكً نرجسيّة 5
-
القبلة المنقذة في فيلم للأطفال
-
مَناسكٌ نرجسيّة 4
المزيد.....
-
مصر.. تأييد لإلزام مطرب المهرجانات حسن شاكوش بدفع نفقة لطليق
...
-
مصممة زي محمد رمضان المثير للجدل في مهرجان -كوتشيلا- ترد على
...
-
مخرج فيلم عالمي شارك فيه ترامب منذ أكثر من 30 عاما يخشى ترح
...
-
كرّم أحمد حلمي.. إعلان جوائز الدورة الرابعة من مهرجان -هوليو
...
-
ابن حزم الأندلسي.. العالم والفقيه والشاعر الذي أُحرقت كتبه
-
الكويت ولبنان يمنعان عرض فيلم لـ-ديزني- تشارك فيه ممثلة إسرا
...
-
بوتين يتحدث باللغة الألمانية مع ألماني انتقل إلى روسيا بموجب
...
-
مئات الكتّاب الإسرائيليين يهاجمون نتنياهو ويطلبون وقف الحرب
...
-
فنان مصري يعرض عملا على رئيس فرنسا
-
من مايكل جاكسون إلى مادونا.. أبرز 8 أفلام سيرة ذاتية منتظرة
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|