|
ساعات الليل الوئيد
دينا سليم حنحن
الحوار المتمدن-العدد: 2274 - 2008 / 5 / 7 - 09:13
المحور:
الادب والفن
انتشر النور داخل الحجرة الصغيرة عندما فُُتح بابها، بسط ضوءه فيها باعثا بعض الدفء على سرير الجدة. لقد جيء لها بطعام الغداء، لقد أصبحت الساعة الواحدة ظهرا. لقاء الوجبات أدقُ من عقارب السّاعات. ما أن تنتهي من تناول وجبتها كالمعتاد حتى يوصد عليها بابها ليفتح مرة أخرى مساء حيثُ تأتيها كنتها بالعشاء.
صمت مهيب يهيمن على المكان منذ سنوات، وساعات طويلة من الانتظار، انتظار اللاشيء، يخترقُ ذلك الصمت وقع أقدام تعرفها الجدة كلما اشتمت رائحة الطعام، لكنها تعودت أيضا على سماع وقع أقدام أخرى، خطوات حقيقية لا تعيق الصمت أبدا. بسعاله العميق يغلق باب حجرته المقابلة لحجرتها، يقف أمام نافذتها يتأمل صفحة السماء المضطربة حيث السروة العالية التي تقف بحزم أمام الريح. يحدق في البعيد، غيوم تأبى التواري الا بعد أن تعلّق قطراتها الثقيلة على السروة السامقة، فتتسحب القطرات بين الأغصان الخضراء، تنتشيها وان أتاها الصحو تحتلها يمامتان تأخذان القمة للتداعب. كلما حطتا بجسديهما عليها مالت فتضطر احداهما التنازل فتطير، تعبّ الريح لبرهات ثم تعود لتحلق بأجنحتها حول اليمامة الأخرى معاودة الكرة مرارا وتكرارا، تؤازرها على مضض، تتجولان معا في لحظات السعادة، في مكان واحد تمضيان فترميان بعض غبارهما على الكون، تقرآن ذاكرة الآخرين.
كان الساكن وحيدا أيضا اتخذ الأمل والانتظار ملاذا لهُ، تؤنسه الحركات المتموجة التي تغزو سروته المتوّجة .
تعاقبت الأيام على هذين الغريبين في هاتين الحجرتين، منفردين، منعزلين تغمرهما الذكريات، الجدة تعيش الماضي بأحداثه، فقد ضاع منها الوليف الونيس، زوجها، تأنس بصورهِ كشريط سينمائي مكرر، أحداث حصلت وانتهت، تستمد الحياة من اليمامتين، انها تشبه اليمامة التي لا تتمكن من مبارحة مكانها، أو ربما تشبه التي تحلّق مبتعدة... لم يعد لها مكانا على تلك القمة! تنتظر الخلاص من داخل حجرتها البيضاء، لا تملك الا البكاء أسفا، بينما هو ينتظر الفرار ليعيش المستقبل، يحبس الأوهام ويطلق الأحلام للتجول على غير مستقر فيشبه ملاحا تائها يبحث عن خليلة يُتيمُ بها، تنعش حجرته الكئيبة، تعينه على اجتياز حدود النهار الطويل وتعيق ليلهُ الوئيد. ينظر الى الطيرين باهتمام بالغ فيرى نفسه يحوم حول خليلته، يطمح اليها، يطلق آهاته المكبوتة، ينتفخ صدره وتتعلق دقات فؤاده من أجل حب وهمي لفتاة أحلامه، يطبع ملامحها في عينيه، يسهد على زفرات أنفاسها الدافئة، يحاورها جاهدا، يرمقها معاتبا ويبتسم حنينا لها. عبر الأفق يراها قاصدة اياه تأتيه من الفضاء الخارجي، تتنصل من بين الغمام فتهوى على نافذته الموصدة تقف خلفها فتدُق زجاجها .
تؤرق الهواجس مضجعه وأحلامه الفاترة تصيبه بالخيبة، احتياجاته جميله ليس لها مضار على الآخر، وفي أقصى حالات ضعفه يحتاج الى حب يغمره ولو على مستوى الاشارة. بينما تشبثت الجدة بالحياة، أنزفت من عرقها وأذرفت، لم يبقَ لها حجة في مداعبة الزمن، حملته، أي الزمن، في عفوية أسمتها الحياة وكبرت معه على الطريق، خرجت به من مغارة الولادة ووصلت حدود الشمس نحو الغروب، لم يتحرك بها شيء الا دقات قلبها الواهن، دقات لم تعد تكفيها لاشغال حيز في الوجود. ما بعد الخريف الا شتاء باك ربما قطراته تمحو آثار الغبار على الأشجار، فتهيء الفرص لجو صاف من أجل الاستمرار قدما في حياة جديدة . أما هو فما يزال يصبو الى الكثير، انه في ربيع العمر، طموحاته تتعدى تلك الحجرة النائية... لن يدعها تذهب هباء.
يستعد للخروج قدما، فتسمعه الجدة مغادرا، يتعمد اصدار الأصداء فيهزّ الصمت ويقلق الوجل. وعند عودته الى مستقره يدير المفتاح داخل القفل بمهارة، يطرد الوساوس الدفينة، يبددها، للحظات، يدخل حجرته شاحبا كامدا يخشى فقدان الوجود فيتيه عنه المستقبل. لقد سئم الليل الوئيد وحيدا الداعي الى اكفهرار وجهه، فتخالجه شتى الأفكار من قلق، فراغ، وحزن.
أشرقت الشمس، اخترقت الثلوج في القمم البعيدة، بحث عن السروة وعن وليفته المتخلفة، لم يلمحها على القمة، أحس بخوف فقدانها... ارتعشت الجدة رعشة الموت عندما فقدتهما، انهما لستا هناك... ملأتها الدموع، بلغها الشعور بالوحدة، آرقتها العاصفة الشديدة المتعلقة بفصل الشتاء، مستقبلها الناهي. حدّقت بالنهار الأبيض، أيقنت انها ستفارق الحياة تحت وطأة البرد القارس، تلحق الآخرين الذين سبقوها...حتما ستغادر الحياة ...
بعد فترة وجيزة عادت اليمامتان الى مسقط رأسيهما، تعتليان القمة المعهودة، تتحاوران، تتمايلان وتملآن الكون هديلا، لا يفهمه جرذان الأرض، ولا العابرون على بقايا الأجساد، جليّة واضحة غير مفتعلة لغتهما، يستمتع بموسيقاها ذلك الشاب الذي يعيش زمن انتفاخ الحب وإن لم يستطع ثقب ورمه الخبيث بغياب معشوقته.
انقطعت أصوات الأقدام المتعاقبة، أقدام الكنة الحزينة بفقدان الجدة، فتصل الى المكان أقدام جديده تحذو كعبا يطرق السكون بدقاته المختالة... ضجيج جميل مغاير وكأنه أصداء أغنية ما، وقع أقدام امرأة تقرقع أجواء الوضوح، كسرت صنم سكونه، توجهت نحو حجرته الهادئة، طرقت بابه طرقتان متتاليتان، أعدّت مائدة الحب على أمل أنه زمن رحيل عصر البوم، لا حجّة بعد اليوم لمواعيد الخراب. يدار المفتاح بعجل، يفتح الباب للحظات ثم يغلق عليهما، رحلة حب تبتديء فتقطع عليه أخيرا ساعات ليله الوئيد.
دينا سليم_ استراليا [email protected]
#دينا_سليم_حنحن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المرأة في الثامن من آذار
-
هل مات الدمع
-
مستنقع الحياة
-
اصدار جديد
-
المفاتيح كاتمة اسرار
-
الحاسة السابعة
-
الضباب
-
مغادرة نافذتي
-
حفل تأبين نازك الملائكة في أستراليا
-
مطلوب حارس شخصي
-
ردا على مقال الزميلة رائدة الشلالفة
-
صانع الاحتجاجات – باسم فرات
-
عيني تمطر خجلا
-
بحثت عن أدونيس وقاسم حداد
-
صدور (تراتيل عزاء البحر)للأديبة دينا سليم
-
عيد البيض
-
عيد الأم أشعر أني ملكة
-
الثامن من آذار
-
قبعتان وغمزة
-
طائرات العيد
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|