غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2271 - 2008 / 5 / 4 - 09:32
المحور:
الادب والفن
حكاية بنت اسمها عبله
" إلى شهيدة جاورت أبا بكر الصديق"
كانت بيضاء كفلق الصبح,جدائلها شلال شمس, يخجل البحر من زرقة عينيها, كانت أصغر إخوتها الصبيان,أسمتها أمها عبلة.
وكان يكبرها بعام ,سمرته غامقة, وعيناه سوداوان لامعتان,, شعره أجعد, في ملامحه صرامة الرجال, واسمه محمود.
يلعبان معا, في دارها, في داره, في الشارع, في ظل الجامع, أمه تخطب ود الصغيرة, وتتمناها عروساً له, تعابث أمها, تنفخ أمها صدرها, وتفرد كفيها بأنفة الواثق من قوادم الأيام:
- عبلة ما ينام في طولها غير عنترة زمانه.
نادته أمه عنترة, فشمخ وارتاح للاسم, وفرد صدره, نفش كديك الحبش, لكن بدون ادعاء, قرأت أمه آية الكرسي تطرد الحسد, لهجت " يا أرض إحفظي ما عليكِ "
كانت عبلة تحب لعبة العريس والعروس, تمارس دلالها, وتفرد ضفيرتيها على كتفيها, وكان هو يفضل لعبة العرب واليهود, كانت تكره القتل والأسر والتعذيب, وفي قرارة نفسها ترتاح لرغبته, فهو يؤكد أنه لا بد محررها من الأسر, تندمج في اللعب, يأسرونها, فيمتشق سيفه الخشبي.. يصبح السيف بندقية, يهاجم, يقتحم, ينتصر, ويعود بها , تحل ضفيرتها, تهدلها على وجهه.. ورغم صرامته يبدو جميلاً.
***
ضاحية النصر, شارع المشتل, على ناصية الشارع الفرعي يقوم جامع أبي بكر الصديق, البيتان متقابلان, يفصلهما الشارع.. تطل الشرفة على الشرفة.. يكبر الصغار.. عبلة صبية ريانة, وعنترة يدب على مشارف رجولة مبكرة, وقد نبت في وجهه شارب خفيف.. تخجل كلما رنا إليها, وهو يغض الطرف عندما يتصادف وجود أمها إلى جانبها في الشرفة.. فتضحك أمه في سرها.. يخدرها عبور الفرحة إلى صدرها, تضاحك نفسها " لكأن الولد يخجل من حماته.. ",وتبقى الأمنية عصفور شوق.. لو تضم دارها عبلة..
***
هاجت الدنيا, أمطرت حجارة, وانشقت الأرض عن دخان الإطارات, وانتصبت في الشوارع الحواجز تلو الحواجز.. وفي شارع المشتل غلف الدنيا سواد غاضب, لم يطمس صوت الآذان, وهامة أي بكر الصديق تطاول السحاب, وترقب حذر, وجحافل الصغار والكبار من تلاميذ مدرسة ابن سيناء القريبة..فالمواجهة لعبة يومية, والناس حشود وشهود..
***
يستيقظ الناس.. يطرق الفجر بوابات الأمكنة.. تستيقظ عبلة.. يستيقظ محمود, تمسح هي مساحة الشارع, ترصد سيارات قادمة, أو خشخشة لاسلكي ينعق.. تطمئن, توميء له, يقذف من مقلاعه.. يتأرجح الحجر في الهواء.. يتدلى العلم مشبوحا في سلك الكهرباء, يصافح وجه القمر.. يستقبل تباشير المصلين القاصدين أبا بكر الصديق, يدق قالبه.. يرتعش صدرها, ويتورد وجهها, ويتسرب خدر خوف لذيذ من مراقبة عيون الأهل والجيران..
***
يوماً, تنفس الصبح حزينا, وخرج صوت المؤذن مشروخا, وقفت في الشرفة تومئ له كعادتها, كانت خيوط الفجر كاسفة, اعتصرت صدرها حنينا, رف في الصدر زغلول حمام افتقد وليفه, والوليف لكثرة ما مارس جهامته, هاجم, هُوجم, ضَربَ, ضُربَ, كر وفر, لحقوا به.. كسروا ضلعه, تكاثروا, وتصالبت عليه الهروات وأعقاب البنادق والأحذية, وقع طريحا, ونُقل إلى المستشفى.. وسقطت دمعة عندما تناهى إليها صوت أمه تصلى الفجر حاضراً, دعواتها تصعد إلى السماء.. خرجت أمه إلى الشرفة, طافت بالكون وتهجدت " أصبحنا وأصبح الملك لله.. الحمد لله على هذا الحال وعلى كل حال.."
- صباح الخير يا خالة..
أضاء وجه الأم.. نور الفجر يحط عليها شحوباً وخشوعاً وصبراً:
- محمود يُسلم عليكِ يا عبلة, السلام أمانة.
رفرف عصفور القلب, وقررت أن تذهب والطالبات لزيارة الجرحى, تستشرف جمال جهامته.. تلاقت عيناها بعين الأم, وانحدرت دمعتان تفصل بينهما مساحة الشارع.. وخيم عنترة على المكان
***
غريب هذا الجسد في حالاته وتشكله.. نقلوه إلى المستشفى مقتولاً.. ميتاً, قاوم رضوضه, وصد نزيف الدم في مواضع كثيرة, واستعاد لياقته بسرعة حيرت الأطباء, لم تسعفهم مراجعهم للوصول إلى سر الحالة.. هل يتميز هذا الجسد الشاب بطاقة غير عادية!؟
قال طبيب معروف يمتلك عيادة مشهورة وشهادة تخصص عالية:
- هذه ظاهرة نادرة الحدوث, وهي جديرة بالاهتمام.
مص غليونه, وتطلع إلى ساعته,.. نهض وتسلل من المستشفى رغم نفير سيارات الإسعاف القادمة من مخيم الشاطئ, وابتسم طبيب أغلق عيادته لأجل غير مسمى, واعتصم بقسم الجراحة, منذ تصاعدت أعمدة الدخان في أرجاء القطاع, وانهمك في توقيع بطاقات الخروج للجرحى الذين تماثلوا للشفاء, وكان محمود ينتظر بحيوية ظاهرة رغم شحوبه.. عانقه الطبيب ود لو يسأله " هل تتحدث مراجع الطب عن طاقة الحجر..؟"
***
أطل على الشارع شاحباً وسيماٌ.. كانت شرفتها تكتظ بأطفال الحارة يرفرفون بأياديهم, بفردون أصابعهم بإشارة النصر.. وكانت تحتضن الأطفال.. برقت البسمة على شفتيه, فآمنت بلعبته المفضلة واهتاجت شوقا, وانهدلت الكوفية على كتفيها عن شلال من خيوط الشمس, وتاه البحر في عينين زرقاوين صافيتين,.. فود لو يغتسل في البحر يتخلص من آلام رقاده..
غرد طفل على صدر أمه.. زغردت جارة, وأجابت الزغاريد على الزغاريد..
عنترة يعود...
لوح للجيران, وحطم في داخله كل سيوفه الخشبية, وأعاد النظر في أعراف القبيلة, فيما كان شباب الحار يقيمون المتاريس عند أول الشارع, وحتى أعتاب أبي بكر الصديق, ويمنعون التجول على قوات جيش الدفاع..
***
في المدرسة تتعلم الطالبات الحياكة والتطريز أشغال الإبرة, حصة الأشغال محببة أثيرة.. عبلة مشغوفة بلعبة المقص والقماش, والمعلمة مبهورة بقدرتها على التفصيل.. وفي يوم توقفت المعلمة عند دفتر عبلة.. خافت عليها, الصبية ترسم موديلات لم تألفها من قبل.. فالأحمر والأخضر والأسود والأبيض رموزها, قبلتها, وكتبت على صفحة الدفتر كلمة شكر وتشجيع, وفي فجر اليوم التالي, فردت دفترها أمامه, خفق قلبها واتسعت مساحة صدرها, وأشارت إلى المقص والقماش, أومأ موافقا, وتململ في القلب برعم ينبئ بانبثاق وردة..
***
صلاة العصر, والشيخ أحمد عبد الله والركعة الأولى.. يندفع الصبيان بين المصلين.. زخات الطلقات.. وصوت المصلين وراء الإمام:
- آمين..
جُنت الدورية..متاريس وعلم يخفق.. الله أكبر, هالة نور تحيط بالمسجد, وعبلة حذرة في الشرفة تشير له, يقبض على حجر, ويتوارى خلف الجدار.. صوب الجنود نحو العلم.. العلم يرقرق, يتدلى من خيط رفيع, يقاوم, يزداد جنون الجنود أمام رهافة الخيط, أطلت من الشرفة, صرخت تحذره, تيبست أصابع الضابط على الزناد..
سكنت الريح, هكذا يؤكد سكان الضاحية, ويقسم عنهم الشيخ عز الدين الغزاوي.
مرت على الدنيا سحابة حمراء غطت وجه الشمس, فانعدمت الرؤية للحظات. وهذا ما أجمع عليه سكان المخيم الشمالي.
وانسلت أشعة الشمس, تخترق الغيمة, وأصبح لون الشفق دموياً, وأكد ذلكَ رحيل النوارس صوب البحر هروبا من عاصفة رمادية..
اغتاظ الضابط, وتيبست أصابعه على الزناد مهزومة, وغلف ضباب العتمة الموجودات فجأة, وسقطت عبلة.. تدلى رأسها على جدار الشرفة, نفر دمها, غسل جدائلها, وبرقت في المكان صفرة لاهبة.. وخلف الجدار تفجر البرعم في صدره.. تلفت, كانت سيوفه خشبية متكسرة مثل أعواد الهشيم, تشي بطفولة الأشياء.. غادر طفولته, وانتصب ماردا.. طوح بقبضته, وقذف الحجر.. وفرقعت الدنيا..
أهو الانفجار..!!
يؤكد الناس في ضاحية النصر وعلى امتداد شارع المشتل, أن رعدا تفجر في السماء, ولاحت الشمس تنشر على صدر الأرض رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً وصبايا وحوامل وأرامل.. وانفجرت الغيمة, وزخت حجارة.. وطاف في الأزقة والشوارع رجل عتيق عاصر أزماناًَ بعيدة وقريبة, سأل إمام الجامع:
- ألا تدلني عن نبوءة الحجارة؟!
ابتهل الإمام :
- إن الله على كل شيء قدير.
استزاد الرجل, فأردف الإمام:
- علم الإنسان ما لم يعلم, ولكل فعل أوان.
ومضى الرجل يطوف بالناس, توقف أمام صبية حامل, أرهف السمع على جدار بطنها, صاح في المكان:
- إني أسمعه.. يخرج من ظلمة الرحم.. ولكل شيء أوان.
خضبت الدمعة لحيته, وسقطت على الأرض, وتبلورت قنديلا صافيا كفلق الصبح, أرسل شلال شمس هبط على صدر البحر, فتوهجت عبلة..
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟