|
المأثرة والعبرة
باقر ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 2269 - 2008 / 5 / 2 - 03:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الهجوم الكاسح الذي شنته على مقراتنا، قوات الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك)، سبقته علامات كثيرة. فقد كان أنتقالنا إلى المكان الجديد ـ بشت ئاشان ـ في «العمق» مستعجلاً جداً، وبتأثير توقع هجوم إيراني على مواقعنا. لذا كانت حملة انتقالنا، في حالة من الارتباك لاتوصف. وبعد أشهر طويلة من استقرارنا في مكاننا الجديد واخلاء ناوزنك لم يحتلها أحد. أنهمك أنصارنا بهمة عالية وحماسة لتوسيع الأبنية وبناء مقرات جديدة وتخزين الأغذية قبل حلول الشتاء... وفي بداية سنة /1983/، فجر الثالث من كانون الثاني هرب السجناء من سجن المقر. وخلّف ذلك أثرا معنوياً سيئاً بين انصارنا. فقد ترك السجناء الهاربون في غرفة سجنهم ورقة للرفاق الحراس قالوا فيها «نتمنى لكم نوماً هادئاً». أسوق هذه الحادثة لاعتقادي بأن وضعنا كله كان في حالة نوم هادئ. كذلك كان وضعنا الحزين الداخلي والوضع النفسي للانصار... اتسعت مظاهر الشكوى وعدم الرضى والبيروقراطية، يرافقها التسيب. والروح العنجهية، تلازمها علامات التراخي والتحلل... لاتستطيع وصف الوضع بسيادة الرخاوة او الآمرية فكلها موجودة ومترابطة.. وفي 6/ شباط / 1983 ذهب وفدنا للاجتماع بـ (أوك). وتوصلوا إلى اتفاقية ممتازة مع قيادة (أوك)... وعلى الأغلب انهم كانوا حتى خلال عقد الاتفاقية يبيّتون لنوايا اخرى غير الصداقة والتعاون. وهذا ما كشفت عنه الأحداث اللاحقة التي هي ليست مفاجئة. ونبهتنا بضعة قذائف تطلق لأول مرة على وادينا. وأدى بشت ئاشان في 18/ نيسان 1983 حينما هاجمنا جمع من (أوك) ثم ولوا الأدبار خلال نصف نهار... ربما كانت العملية لجس النبض أو التغطية بهجوم «حكومي» أو مرتزق، على هجوم آخر أهم، من قوة كانت حتى الأمس حليفة، وعقدنا معهم اتفاقية سميت «إستراتيجية»! فوجئنا بهجوم الأول من أيار /1983/.. فلم نعرف في البداية من هو المهاجم... السلطة «وفرسانها»، ام الاتحاد الوطني.. وكان ذلك أسوء ما في الموقف... ولكن ما يمكن قوله وإبرازه هو روح الدفاع البطولية. الدفاع عن الحزب وعن موقعه... روح الكرامة الثورية... الاستعداد للاستبسال، حتى مع قلة العدة والعدد للمقاتلين الجيدين وضألة عدد المتدربين أو الذين خاضوا معارك سابقة. حدك حذرنا من مخاطر الوضع... وهذا ما توضحه برقيتهم التالية إلينا. «برقية م.س حدك إلى م.س ح.ش.ع في 16/ 2/ 1983. برقيتكم 10؟ نداء جود في أربيل بهذا الصدد جيد؟ نتصور أن المؤامرة أكبر؟ نرجوكم رجاء رفاقياً أن تحذروا؟ قد يتركز التأمر عليكم في هذه المرحلة ثم يأتي دورنا والهدف هو ضرب وإفشال اتفاق طرابلس؟ المؤامرة من النظام وعملائه المندسين. ومن الضروري أن نحافظ على تماسك جود ومهما كانت المحاولات سننتصر حتما». أخترت هذه البرقية لما فيها من مغزى وخصوصا بتاريخها المحدد أعلاه. فهل كان (حدك) يهمه أن تزداد الشقة والفجوة بيننا وبين (أوك) وإلى حد القطيعة. نعم فتلك مسألة طبيعية في الصراع بين الحزبين... ولكن الأمر لايمكن أن يقتصر على ذلك. أما نصيحتنا إلى (أوك) ايجاد الحلول السلمية للصراع والحفاظ على التعهدات السابقة فكانت تقابل كالعادة باستجابة ايجابية في الظاهر فقط... من ذلك مثلا نذكر جوابهم على مقترحاتنا: «من م. س (أوك) إلى م. س (ح. ش. ع) في 26/ 2/ 1983. نثمن جهودكم ونقترح بذل الجهود المشتركة من أجل حل جميع الخلافات بالطرق السلمية وانهاء التوتر والتحقيق في جميع الحوادث». ومن الجانب السياسي المتعلق بوضعنا. فإن هزيمة الأول من أيار حصلت في فترة سبقتها انتصارات كثيرة. سياسية وفكرية وتنظيمية وعسكرية وتعبوية للحزب ولقوات الانصار التي تطورت وتعززت كثيراً. هذه كانت ظروف موضوعية لنمو واستفحال ظاهرة التطرف عندنا، والميل نحو الغرور وتتسم بعدة جوانب منها. 1ـ المبالغة في انهيار وضعف الخصم. 2ـ المبالغة في امكاناتنا وقوانا. وخاصة خوض معارك منفردة ومتوغلة كثيراً في العمق (اقتحام ربايا... الاكثار من دخول المدن الكبيرة.. الخ). 3ـ تفاقم الصخب والضجيج الاعلامي حول امكاناتنا لدرجة الهوس أحياناً. 4ـ على ضوء ذلك جرى نقل مقرات القيادة إلى العمق وكانت المعارضة داخل م.س و ل.م غير ضئيلة لهذا النقل. ولكن القيادة أرغمت وأخذت على أمرها. أن قوة خفية قاهرة كانت تدفع القوى إلى ذلك الوادي المشؤوم (بشت ئاشان) للتجمع فيه. وفي هذا الوادي كانت: ـ اكثرية اللجنة المركزية للحزب. ـ كل أعضاء المكتب السياسي. ـ كل أجهزة القيادة الحزبية المركزية وفي المقدمة الاعلام والإذاعة والطباعة الخ. ـ المكتب العسكري المركزي (معم) وأجهزته. ـ قيادة أقليم كردستان. ـ اضافة إلى الطبابة.. هيئات التحقيق. السجن ولجنة المضادات الجوية. ـ اعداد واسعة من كادر التنظيم الحزبي. ـ وعمليا حوالي 25% من كل القوى المسلحة للحزب (400 من مجموع حوالي 1600) ـ أجهزة الاتصال المركزية ـ العسكرية والحزبية. ليس هذا مقتصرا علينا فحسب. بل صرنا في ذلك قدوة لحزب آخر، الحزب الاشتراكي الكردستاني (حسك). وكنا نريد (لحدك) أن يقتدى تماما بوضعنا. وكل ذلك صار حالة علنية للعدو وللصديق.. أي وضع مركزنا القيادي. وكلما حصل انتقاد لهذا التجمع ولهذا الوضع الخطر كان يحصل جوابان ـ موافقة على الانتقاد ولكن دون عمل تصحيحي. أو يأس واستسلام تجاه امكانية المعالجة وعملياً، كان التجميع يأخذ بالازدياد. التزايد في التكديس في (الوادي القيادي) كان يتزايد حتى آخر يوم بل حتى آخر ساعة هل كانت المعالجة ممكنة؟ نعم ممكنة تماما واعتقد بما يلي: بـ أولا: توزيع مبكر قبل أشهر أو حتى أسابيع لتفادي جسامة الخسائر. ثانيا: معالجة سريعة كانت ممكنة حتى قبل أيام تتفادى الخسارة أو تقللها إلى حد كبير. وكانت تعتمد فقد على رؤية سليمة لمهمة وامكانية الانسحاب والتخطيط لذلك ثم لتجنب التصادم العسكري. وكان نهج قيادة قاطع السليمانية في تجنب الاصطدام، الذي أقر بتعاون مسؤول القاطع بهاء الدين النوري، والمسؤول السياسي عدنان عباس والآخرين، جدير بالتفحص والدارسة. أما الذي كان يتحقق فهو علميا (خطة الانسحاق)، كما اسماها بعضنا. أن وجود عامل (أوك) في الموضوع لا يغير من الأمر شيئا بل على العكس كان يتطلب المزيد من اليقظة والحذر. كان ذلك ممكناً ابتداءً من أواسط شباط بعد الخرق المتعمد والمفتعل للاتفاق بيننا وبين (اوك) المعقود في 6/ شباط / 1983 وتدبير المجزرة لمفرزتنا في أربيل في 12 / شباط / 1983. وربما غذى ميل رفاقنا في قيادة قاطع أربيل للانجرار وللاصطدام، ذلك الخرق. هل يتصور الانسان مدى حذرنا من الهجوم الجوي؟ ومدى استعدادتنا لاستخدام الدفاعات الجوية؟ لقد كثرت (الانتشارات) التي أنهكت الرفاق جسديا ومعنويا... ثم حلَّ الهجوم، ولم تكن ثمة أية حاجة لدفاعاتنا الجوية بل ظلت خرساء حيث لم تظهر في الأجواء أية طائرة. لقد كان على المقاتلين وعلى كوادر ليست مهيئة للقتال أن تدافع عن الموقع ببسالة وبطولة وهكذا دافعت واستشهدت. وكانت التضحيات ضخمة ومريعة. هل ثمة ضرورة لذلك التكديس للكادر والناس والأجهزة هل كان ثمة ضرورة لهذا الدفاع عن الأرض؟ لولا ذلك التكديس؟ هل كان هذا التكديس في «العمق» منفصل عن الموقف الفكري والسياسي في تقدير الموقف والامكانات؟ وهل كان ينفصل عن «الخطة العسكرية» المتخلفة الموضوعة لنا؟ إذا كان ثمة شيء يسمى خطة؟ لا يمكن إلا الاعتقاد بأن كل نقاط الضعف قد درست بعناية من قبل خصومنا. أن احد شروط القيادة الناجحة في القتال «أن لا نقدم لخصومنا اهدافنا يسهل عليهم تدميرها» ونحن قدمنا لهم أحسن اهدافنا (مركز القيادة) وكأسهل هدف. لقد كانت بشت ئاشان لقمة سهلة سائغة وأن من لا يتقدم لازدرادها، فهو غبي ولم يكن خصومنا بلداء. بشت ئاشان: هذا الإسم يعبر عن وادٍ مزدهر في كردستان العراقية ـ محافظة أربيل. وكان يضم عدة قرى مكتظة وعامرة بالسكان قبل التهجير. وقد غدت هذه التسمية مشهورة في الصراعات السياسية الحادة، بين الأحزاب المتواجدة. أنذاك في كردستان. كيف سارت الأحداث؟ مرّ يوم الأول من أيار، بقتالٍ شرسٍ ودامٍ، إستخدمت فيه جميع الأسلحة المتوفرة: المدفعية والرشاشات والبنادق الآلية. بعد منتصف الليل، أي فجر الثاني من أيار، عقد اجتماع طارئ في موقعنا لأعضاء اللجنة المركزية للحزب، الموجودين آنذاك في الموقع. وحضره: كريم أحمد وعمر علي الشيخ وعبد الرزاق الصافي وباقر ابراهيم وسليمان يوسف واحمد قادر بانيخيلاني وسليمان محمد (أبو سيروان) وفتاح رسول وعبد الوهاب طاهر ومهدي عبد الكريم. افتتح الحديث كريم أحمد. وفي ذلك الجو النفسي المتوتر، قال بصوت متوازن، ما مضمونه: إن مواقعنا قد اخترقت من جانب أوك. وأن قواته تجتاح هذه المواقع، والمقاومة لم تعد مجدية، بل مهددة بالانهيار. فما هو رأيكم؟ هل نطلب التفاوض، ننسحب، أم نواصل المقاومة؟ كان اول المتحدثين عبد الرزاق الصافي، الذي اقترح أن نرسل برقية عاجلة بطلب التفاوض. وحينما كان دوري للحديث، قلت أنه فات أوان التفاوض، وأنه سيكون سبباً في إلحاق المزيد من الخسائر ومضيعة للوقت، علينا الإنسحاب فوراً بعد أن تأخرنا كثيراً فيه... وتحدث آخرون. في الحصيلة، أقر الرأي الذي عبرت عنه أعلاه، بعد جملة مناقشات. كنا نحو20 فرداً في مسيرة الإنسحاب الأولى. الطريق مجهول من قبل جميع السائرين فيه. وهو مايزال مغطى بثلوج كثيفة. كان مرشدنا هو حاج محمد. وهو من سكان القرية القدماء. وبعد مسيرة نحو ثلاث ساعات، حينما اقتربنا من قمة مسيرتنا، أنهى دليلنا مهمته. وقبل عودته عبر عن شكوكه في قدرة جميع المشاركين في تلك المسيرة على قطعها بسلام. ونصح بإعادة بعضهم، وخاصة المرأة الوحيدة فيها زوجتي (إم خليل). وامام التوسلات المصرة من جانب بعض أعضاء القيادة، ونصائح الآخرين، عادت (أم خليل) من حيث بدأت. لكنها عادت لترجع بعد ساعات مضنية سالكة مع الآخرين المنسحبين نفس الطريق، ضمن مسيرة ضخمة منهم، ضمّت هذه المرة (111) شخصاً. بعد إكمال (الإنسحاب)، سافرت من مستقرنا المؤقت قرب «خانة» إلى (رازان) حيث مقر قيادة حدك، صحبة عبد الرزاق الصافي، وبقرار من أعضاء القيادة المتجمعين هناك بعد الإنسحاب، بهدف ترتيب أوضاعنا بالتعاون مع أطراف (جود). كانت لقاءات أطراف (جود) تتركز على يحث إعادة تجميع القوى للدخول في معركة ثأرية مع (أوك). وقد حضرها إلى جانب حدك، والحزب الشيوعي، ممثلو الحزب الإشتراكي الكردستاني (حسك). بشخص قائده المرحوم رسول مامند. وظهرت التقديرات المتناقضة بين أطراف جوك حول الموقف. فالجميع توحدهم الرغبة في الإنتقام من المجزرة الدموية والهزيمة التي ألحقها بهم أوك. كما أن قيادة حدك كانت تبدي ميلاً واضحاً للإستعانة، أو معاونة القوات الإيرانية في موقفها الهجومي الجديد داخل الأراضي العراقية. وبرزت تناقضات شديدة في مواقف قيادة الحزب الشيوعي العراقي من هذه المسألة وغيرها. فيما أتخذ أوك منذ فترة طويلة موقف التفاهم والتفاوض مع الحكومة العراقية. قضينا شهري إيار وحزيران، وحتى العاشر من تموز / 1983 /، في قرى (سيلوه) و(كردي كاولان) وغيرها من القرى الإيرانية المتقاربة. وخلال هذه الفترة عقدت اللجنة المركزية اجتماعها الطارئ غير الكامل. وأصدر المكتب السياسي في 20 حزيران / 83 نشرته الداخلية التحليلية. والتي تضع مهمات للمستقبل، على ضوء تجربه أحداث بشت ئأشان. وقد تضمنت النشرة، النقد والنقد الذاتي الواضح قدر الإمكان، للنواقص ولأخطاء الحزب. وكنت على رأس اللجنة التي كلفت بوضع صياغات هذه النشرة وتعديلها، والمكونة مني ومن مهدي عبد الكريم وعدنان عباس. وقد جمد توزيع هذه النشرة والتثقيف بها في الخارج، باستثناء نشر موجز عنها، لأنها لم ترق لأعضاء القيادة في الخارج ومقرها في (دمشق). وكانت التناقضات ودواعي التمزق بين أعضاء القيادة، ظاهرة للجميع. وقد بذلت أنا والأخرون، الجهد لمعالجتها وحصر تأثيراتها السلبية. علماً أن النشرة الداخلية التي وضعت آنذاك، كانت تبحث أيضاً في إمكانات تصحيح أوضاع الحزب وتعزيز ثقة أعضائه بالمستقبل، على أساس معالجة النواقص في وضعه، وفي جبهة حلفائه وخاصة في (جود) وكذلك الأطراف الأخرى، وتجاوز حالة التردي في المعنويات والتفكك وظهور التكتلات وانعدام الثقة بالقيادة وبصورة خاصة القيادة العسكرية لقوات الأنصار. وكانت هذه النشرة الداخلية تحمل عنوان: «حول النكسة التي أصابت الحزب في بشت ئاشان: أسباب النكسة والدروس: الإجراءات اللازمة». كانت منظمات الحزب، وقوات الأنصار وقد وجهت أدانات للمسؤول الحزبي الأول في القيادة، كريم أحمد وكذلك لأحمد بانيخيلاني لتوقعيهما البيان المشترك مع السيد جلال الطالباني وهما في أسره، وذلك في العاشر من أيار (مايو) وأذيع في الحادي عشر منه، في إذاعة (أوك). لجأ كريم أحمد إلى موقف النقد الذاتي ووضع صيغة مكتوبة بذلك وكان يعقد جلسات عامة لهذا الغرض. وكان في حالة انكسار نفسي عميق بسبب الأدانات الصريحة والشاملة لموقفه واضطر للقبول بإجراء تنحيته عن مهمة المسؤول الحزبي الأول. كان من بين الإجراءات الأخرى التي قررها ذلك الإجتماع للجنة المركزية، حل المكتب العسكري وتكوين مكتب حزبي عام كنت أنا مسؤوله، وعدنان عباس احد أعضائه. لكن عمل ذلك المكتب لم يستمر طويلاً حيث عادت الأمور إلى مجاريها الأولى عند عودة عزيز محمد من الخارج. اتخذ كريم احمد، أمام الحملة الواسعة ضد مواقفه أثناء الأسر، حالة الأنزواء القيادي بتأثير ذلك الإنكسار. وكان موقفي في القيادة، آنذاك التأكيد على أننا ينبغي أن لا نسمح بتمزق صفوفنا بسبب الأخطاء السياسية العامة، أو أخطاء الأفراد. وأننا سنظل نحتاج الجميع. وقد ذكرّت الرفيق كريم أحمد بمواقفي هذه، حينما قابلني مع أعضاء آخرين من القيادة لمحاسبتي على أفكاري ومعارضتي السياسية بعد ثلاثة أعوام من ذلك التاريخ، وحينما كرر القول بأن موقف المناضل الشيوعي يمتحن في الظروف الصعبة...! لم أكن من المتحمسين للدخول في المعركة الثأرية مع (أوك). وقبل أن تتحرك قوة الحزب الشيوعي التي تقرر أن تساهم في هذه المعركة، تحدثت على انفراد مع آمر تلك القوة وممثلنا في القيادة المشتركة، وهو نعمان علوان (أبو رائد) الذي تربطني به علاقات صداقة ومصارحة. قلت له أن هذه المعركة التي تنتظرنا غير متكافئة القوى وعلينا تجنب السير وراء دواعي الإنتقام فقط. ومن رأيي أنها معركة ليست حاسمة... واقترحت عليه المساهمة الرمزية فقط، وأن لا تكون قوة الحزب الصغيرة والتي ما تزال مثخنة بالجراح، في المقدمة. لم يعترض المستمع على ملاحظاتي، وبعد وضوح النتائج السلبية لتلك المعركة، أخبرني بأن موقفهم كان ينسجم مع الملاحظات التي كنت قد عبّرت عنها. خطة هجوم قوات (جود) في تموز ـ أيلول / 1983 كانت دفاعية وثأرية في آن واحد. وكانت المبادرة كما يفترض أن تكون بيد جود. ولذلك تقررت الأمور التالية في اجتماعات هيئات جود. التوجه بثلاثة محاور رئيسية (أحد المحاور الرئيسية وهو محور ناوزنك ألغى فيما بعد ويحشد له 1100 مقاتل و 300 احتياط وكانت حصة حدك من ذلك 800 مقاتل). المحور الثاني ينطلق من باديناوه ـ والمحور الثالث من كونه لاجان. ونوقشت الخطة في اجتماعات جود في 27/5 وفي 31/7/ 1983، هاجمت قوات (أوك) قوات جود وهو نفس اليوم المحدد لمبادرة جود الهجومية وشاركت الطائرات العراقية في العمليات... وفي 21/ أب تكرر هجوم غير ناجح لقوى جود. في صبيحة الأول من أيلول استطاعت قوات (أوك) ضرب المواقع الأمامية لحدك التي أصيبت بضربة قوية قتل فيها أحد أبرز قادة قوات حدك (حسو ميرخان زازوك) مع (46) شهيدا وكان عدد مقاتلينا (368) وحسك بحدود (250) وحدك (459) أي أكثر من الألف بقليل. والمهم أن استعدادات (أوك)، عدةً وعدداً، كانت أكبر. لقد تقررت المعركة هذه بإرادة واتفاق جميع أطراف جود، وخاصة الحزبين اللذين تلقيا أكبر ضربة في عدوان (أوك) في أيار، وهما حزبنا والحزب الإشتراكي الكردستاني (حسك). وقد درست معركة الرد على العدوان والدفاع عن حق قوى جود في العودة إلى مواقعها الجغرافية والجماهيرية السابقة في ظروف كانت قيادة (أوك) تصعد من شروطها المجحفة بعد أن أسكرتها نشوة الانتصارات والتعاون مع الحكومة، وفي ظروف التهديد الجديد من قبل الغزو التركي لأرض بلادنا والهجوم على قوى جود من منطقة بهدينان في حزيران /1983. إن هدف المعركة كان يتحدد في العودة إلى مواقع جود الجغرافية والجماهيرية وإزاحة قوات (أوك) منها وحمله على التخلي عن شروطه للتعامل مع الأطراف الأخرى ومنها مطالبته بالإقرار (بالجيش الثوري الكردستاني الموحد) الذي يعني وحدانية (اوك) بالتواجد العسكري في كردستان. كان حزبنا مع الحزب الاشتراكي الكردستاني (حسك) اشد ميلاً للاستعجال في المعركة وكسب الوقت في حين كانت قيادة حدك الذي يمثل بقواه العسكرية الضاربة الأساس الأهم للرد على (اوك)، أكثر ميلاً للتريث في المعركة. وفي مقـدمة أسباب التريث لدى قيادة حدك في الرد على (اوك)، هو ربط معركة الرد تلك بالهجوم الإيراني المرتقب على بعض المواقع، حيث اتضحت فيما بعد خطتهم بفتح الجبهة الشمالية وتوسيعها – معركة حاج عمران ومن ثم بنجوين.. إلخ. وقد أصبح هذا الاختلاف بين موقف حزبنا في استعجال المعركة وفي استقلالية القرار لـ(جود)، وبين موقف حدك في الارتباط بخطة الهجوم الإيراني، أساسا للتناقض ومن ثم الانسحاب من الخطة بعد فشلها في مرحلتها الثانية. المعركة أيضاً رافقتها نواقص وثغرات جدية وقاتلة برزت منذ البداية وكانت موضع الانتقادات وخاصة من جانب حزبنا. وتجسدت في الجوانب التالية – ـ الخطة العسكرية ونواقصها. ـ الخلل الكبير في إدارة المعركة وتموين القوات. ـ الخلل في القيادة وتنافرها وابتعادها عن ميدان المعركة. ـ الاخلال في التعبئة العددية المقررة وخاصة من جانب حدك. • وكما أشرنا فإن السماح لممثلي الجيش الإيراني و(الباسدار) بالتسرب والاختلاط مع قوات جود، الذي مثل خرقاً من جانب حلفائنا لما اتفق عليه، كان عاملاً هاماً في اضعاف معنويات مقاتلينا وحماسهم للمعركة ومن ثم تسريع عملية الغاء الخطة. • وتلك النقاط أعلاه وغيرها تحتاج إلى دراسة تفصيلية لاستخلاص الدروس والعبرة من نتائج معركة بشت شان الثانية (أو معركة نادوشت). • وقد القت النشرة الداخلية الصادرة من م. س. في 25/أيلول/ 1983 الأضواء على بعض الجوانب عن نتائج معركة بشت تاشان الثانية وتجربتها. • إذا حكمنا بأن المعركة هذه كانت عادلة سياسياً وعسكرياً، لأنها تمثل رداً على العدوان، ومن أجل استعادة حقوق طبيعية لقوى جود، فلابد من تسجيل حقيقة وبديهية، هي أن الانطلاق في الخصومات السياسية وخوض المعارك من مجرد الثأر، هو موقف يتطلب التدقيق وتجنب الإنجرار إليه. وخاصة عندما يكون توازن القوى لغير صالحنا كما أثبتت النتائج. • ولم يكن توازن القوى لصالح قوات جود ارتباطا ليس بالإمكانيات الكبيرة التي توفرت لقوات (اوك) والدعم الحكومي والعمق لذلك الدعم، بل بالإضافة إلى ذلك، بالارتباط بثغراتنا الكبيرة التي اشرنا إليها اعلاه. وكان في مقدمة نواقصنا الثغرات في الوضع العسكري والمعنوي وخصوصاً الناجمة عن الإنكسار في معركة بشت ئاشان في أيار/1983. • كما أن البلبلة السياسية/الفكرية كانت موجودة في صفوفنا وفي وسطنا القيادي أيضاً باتجاهات عديدة وخاصة الموقف من المشاركة في معركة الرد على (اوك) مع قوات جود. • إن المعركة ضد (اوك) كانت تجري في ظروف اشتد فيها هجوم الحكم في إيران على القوى الديمقراطية وضرب حزب توده وتراجع القيادة الإيرانية نحو اليمين. الأمر الذي عقد من صعوبات الموقف وتشابكه. • كما كانت الهيئة القيادية المكلفة بقيادة قواتنا في المعركة في حالة صارخة من البلبلة وعدم الانسجام والوحدة. والأمر الذي يمكن استنتاجه أن اختيارها بالتركيب الذي كانت عليه لم يكن موفقاً. • إن استخلاص الدروس من نقاط ضعفنا في هذه الأحداث ينبغي أن يستهدف بالدرجة الرئيسية ليس إدانة الأفراد والتركيز على هذا الجانب، كما يجري عادة عندنا، بل لفائدة الأجيال الجديدة من قوى النضال الوطني والتقدمي. استقيت بعض المعلومات الفنية، عن الخطة المذكورة أعلاه، من أحاديثي مع ممثلنا في القيادة المشتركة، الأخ (أبو رائد). كانت الخسائر في بشت ئاشان، في الأول والثاني من أيار (مايو) /983، هي (65) شهيداً إضافة إلى (10) شهداء في قاطع اربيل و(12) في المصادمات التي سميت بشت ئاشان الثانية، في أيلول (سبتمبر) /983. وبذلك يكون مجموع الضحايا من القتلى (87) شهيداً، إضافة إلى المئات من الجرحى والأسرى والمفقودين.
تحية للذكرى العطرة لشهداء بشتاشان الاماجد.
عن مذكرات باقر إبراهيم ص 210-220
دار الطليعة/بيروت 2002
#باقر_ابراهيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عقلانية الحلول وتجميع القوى ! المصالحة لتحرير اوطن اولا
-
المرتدون عن الشيوعية وعن الوطنية ذيليون دائمون للأسياد الكبا
...
-
شيوعيو العراق : أين حقيقتهم ؟ في الحديقة السوداء أم بمأثرة ا
...
-
العراق المقاوم وحديث صريح عن أخطار الفرقة
-
اعادة تأسيس الجيش العراقي مهمة وطنية اولى
-
نظرة لمستقبل العراق: من توازن الرعب الي توازن الحل العقلاني
-
الفرقة 17 خانت بغداد
-
تحت رماد الخذلان يستعر جمر المقاومة
-
قيادة الشيوعي العراقي تنكّرت لوطنية حزبها
-
آخر صرعات العولمة: شيوعية الاحتلال
-
مجلس حكم ام مجلس وطني لمقاومة الاحتلال؟
-
مناهضة الاحتلال المعيار الاول للوطنية العراقية
-
الاحتلال وثقافة البيعة
-
الوحدة الاسلامية والوطنية سلاح العراق لمقاومة الاحتلال
-
الطيبون يخلدون وداعا علي كريم
-
وداعا شهيد اليمن , شهيد العرب جارالله عمر
-
الديمقراطية ودولة القانون رهن بصد العدوان الامريكي
-
العراق بعد العفو العام مبادرة إلى الانفتاح الديموقراطي
المزيد.....
-
قرار الجنائية الدولية.. كيف يمكن لواشنطن مساعدة إسرائيل
-
زيلينسكي يقرّر سحب الأوسمة الوطنية من داعمي روسيا ويكشف تفاص
...
-
إسبانيا: السيارات المكدسة في شوارع فالنسيا تهدد التعافي بعد
...
-
تقارير: طالبان تسحب سفيرها وقنصلها العام من ألمانيا
-
لبنانيون يفضلون العودة من سوريا رغم المخاطر - ما السبب؟
-
الدوري الألماني: ثلاثية كين تهدي بايرن الفوز على أوغسبورغ
-
لحظة سقوط صاروخ إسرائيلي على مبنى سكني وتدميره في الضاحية ال
...
-
سلسلة غارات جديدة على الضاحية الجنوبية في بيروت (فيديو)
-
مصدر مقرب من نبيه بري لـRT: هوكشتاين نقل أجواء إيجابية حول م
...
-
فريق ترامب الانتقالي: تعليق القضية المرفوعة ضد الرئيس المنتخ
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|