أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إبراهيم إستنبولي - مبادئ الحرب الإعلامية















المزيد.....


مبادئ الحرب الإعلامية


إبراهيم إستنبولي

الحوار المتمدن-العدد: 703 - 2004 / 1 / 4 - 12:24
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الوعي الاجتماعي  كساحة المعركة .

مسرح جديد للحرب

واحدة من أهم المقولات الماركسية ـ المادة هي التي تحدد الوعي أو البناء التحتي يحدد البناء الفوقي . وهذا صحيح ، بشكل عام . إن وعي الفرد والوعي المجتمعي يجب أن يتبلورا انطلاقا من الشروط الموضوعية المحيطة  ـ  من الحياة ، و إلا فإن أفعال الإنسان والجماعات ستكون منحرفة ، غير منسجمة مع الواقع .

      ولكن مع نشوء المجتمع الإعلامي ، فإن الوضع قد تغير . فالإنسان يتواجد بشكل دائم ضمن تأثير  حقل إعلامي . ففي كل بيت يوجد تلفزيون ، متوفر الراديو و ومختلف وسائل النشر والطباعة ، وبالتالي فإن عقل الإنسان يتعرض بشكل متواصل لتأثير وسائل الإعلام الجماهيري ، على الرغم من أن ذلك قد لا تكون له أية علاقة بالواقع .

      في الحرب النفسية ـ الإعلامية ، الحرب من نوع جديد ومختلف ، يتم استخدام التأثير المباشر على الوعي الجمعي ، على عقول الناس . تكمن المهمة في إجبار الكتل الجماهيرية على فعل ما يراد منها حتى ولو كان ذلك متناقضا مع مصالحها ، وفي معسكر العدو أو الطرف الآخر خلق انقسام بين الناس ودفعهم نحو التصارع بعضهم ضد بعض .

 في الحرب الإعلامية تكتسب أهمية كبيرة الخبرات العملية من حيث التأثير على وعي الحشود . والولايات المتحدة الأمريكية لها باع طويل في مجال الدعاية ، سواء الدعاية من اجل تسويق سلع عادية أو في إجراء حملة انتخاب الرئيس . ويتضح حجم النشاط الدعائي من خلال الإحصائيات التالية : إن حصة المواطن الامريكي العادي من الإعلانات الدعائية تتجاوز 1500 إعلان في اليوم الواحد ، سنويا توزع عبر مؤسسة البريد حوالي 16 مليار ! منشور دعائي ، والساعة المسائية في التلفزيون تحتوي 30 عرضا دعائيا . والقضية لا تختصر في و لا تتوقف على  حجم الأعمال الدعائية ، بل في الاستخدام الهائل للخصائص النفسية عند الناس . هناك يجري تعليم أسس و أساليب الدعاية في مختلف المراحل : في المدارس ، المعاهد  و في الجامعات .. ثم يتم اختيار المتميزين ليجري توزيعهم في شركات الإعلان والدعاية ، التي تقوم بدراسة نتائج الإحصاءات ، مختلف عمليات السبر والاستمارات ومدى فاعلية الإعلانات الدعائية ذات التوجه الجماهيري .

الناظم الأساسي في مجال التأثير على وعي الناس هو أبحاث العلماء الذين قاموا بدراسة هذه الظاهرة . والفضل في نشوء أسس ( ربما بشكل أدق ـ نواظم ) نظرية الوعي المجتمعي أو الجماعي ، يعود إلى أعمال الفلاسفة الروس " المثاليين " ، خاصة  ف . س . سولوفيوف ، س . ن . بولغاكوف وغيرهم ، إلى جانب أبحاث دوركهايم وتلاميذه في الغرب . ففي القاموس الموسوعي لعام 1954 ترد التوصيفات التالية لهؤلاء العلماء ( " ف . س . سولوفيوف : فيلسوف روسي رجعي ـ غيبي ، مؤمن بالله ... ، س.ن . بولغاكوف : فيلسوف واقتصادي روسي رجعي برجوازي ، مؤيد للثورة المضادة وعدو لدود للسلطة السوفييتية ... ، دوركهايم : عالم اجتماع فرنسي رجعي ، من مؤيدي نظرية مالتوس ، عنصري  و مدافع عن الإمبريالية " ) ، تلك التوصيفات تعكس الحالة المزرية " للماركسية ـ اللينينية " ذاك الزمن .

الخلاصة الرئيسية لأعمال أولئك الباحثين تقول بان الوعي المجتمعي ليس بناء فوقيا يقوم على القاعدة ( الاقتصاد ) ، و إنما عالم مستقل يتطور طبقا لقوانينه الخاصة . لا شك ، إن المجتمع يتكيف بهذا الشكل أو ذاك مع تغيرات الظروف الخارجية . لكن إلى جانب ذلك تظل قائمة في الوعي المجتمعي قضايا الماضي ( بما في الماضي البعيد ) ، لكن في صيغة مختلفة ( وتتبدل بصورة دائمة ) .

في الاتحاد السوفييت ، وبفضل منظّري الحزب الشيوعي السوفييتي ، لم تكن تنشر أعمال وأبحاث الاختصاصيين في مجال الوعي الاجتماعي .  ولم تدرس . بكلمة أخرى ، لقد حصل نزع سلاح أحادى الجانب في هذا المجال . و الآن سنتوقف على ظاهرة الوعي الاجتماعي .

 

تركيبة الوعي الاجتماعي

المجتمع ـ هو عبارة عن مجموعة ملايين كثيرة من الناس . وكل هذه الكتلة تنقسم إلى طبقات مختلفة ، اتحادات ، و مجموعات ، تشغل أمكنة محددة في التوليفة الاجتماعية . .  و رغم أن لكل من تلك الأقسام ، كما هو للأفراد المنعزلين ، منظومة آراء مميزة ، و أحيانا جد متناقضة  ، فإنه توجد ظاهرة الوعي الجمعي أو المجتمعي ، التي تربط الناس في وحدة متكاملة  .  كما كتب الفيلسوف الإسباني الشهير خ . اورتيغا ـ ي ـ  جازّيت ( Ortecha-I-Gasset ) : " قد يتعارض رأينا الخاص مع الرأي العام ، لكن الأخير لن يصبح من جراء ذلك اقل واقعية ولا باي شكل من الأشكال . من خصائص الرأي العام الواسمة هي استقلاليته عن كون هذا الإنسان أو ذاك يتفق معه بمفرده . فمن وجهة نظر حياة كل شخص منفرد ، إن الاعتقاد الجمعي يتخذ ما يشبه الحالة المادية . بكلمة ، إن الواقعية الملموسة للرأي الجماعي لا تقوم على ما إذا كنت أنا أو أنت متفقين معه ، بل بالعكس ، إنه هو بحد ذاته ، من دون إرادتنا ، يفرض علينا الأمر الواقع مجبرا إيانا على أخذه بعين الاعتبار . "

ممل لاشك فيه هو أن حياة الإنسان الذي لا يشاطر القناعة المجتمعية ( الرأي العام ) ستكون مختلفة بشكل جوهري عن حياة الإنسان الذي يتقبلها . والوعي الجمعي ( كما الفردي ) من حيث المبدأ ، يجب أن يعكس الواقع بشكل موضوعي ، و أن يتكيف مع تبدلانه .  لذلك  فإن المقولة ، المادة تحدد الوعي هي صحيحة جزئيا فقط . فالوعي ، بحد ذاته ، منفصل عن الواقع ويشكل وحدة ذاتية متغيرة وفق قوانينها الخاصة . على الخصوص ، إن الوعي المجتمعي في فترة معينة يمكن أن يتسم بطابع أصم ( غير معقول ) ، كما الإنسان الذي يمكن أن يعيش في عالم مُتَخيل .

يجب التمييز بين ثلاثة مستويات بنيوية في الوعي المجتمعي : العلوي ، الأساسي و العميق . للمستوى العلوي يمكن ضم الرأي العام ، الذي يتسم بالتقلب ، وهو غالبا غير مستقر و قصير العمر . أما المستوى الأساسي فيعادل لوحة العالم عند الإنسان الفرد . يُنظر إليه كقياس Paradigm . هذا المصطلح  يتضمن منظومة المفاهيم القائمة ، المواقف ووجهات النظر في المجتمع ككل .  هذا المستوى يتسم بالثبات الكبير .   إن الوعي الاجتماعي يتطور كصيرورة ( عملية متواصلة ) من الانتقالات ـ الوثبات من باراديغما إلى أخرى .  وإن عملية الابتعاد عن باراديغما معينة يمكن أن يجري بشكل كامن لفترة طويلة دون أن يلاحظ ( كما تبدل الوعي الاجتماعي في الاتحاد السوفييتي في بداية الثمانينات ) . أما المستوى العميق ( أو تحت أساس الوعي المجتمعي ) فيمكن مقارنته بشكل تقريبي مع الوعي الفردي الذي يتشكل عند الإنسان في الطفولة الباكرة ويترك بصماته مدى الحياة . في ذلك الحين تظهر الرموز والصور التي عليها ينشأ التفكير المحسوس للمرء . ينعكس هذا المستوى من الوعي في الأخلاق والمبادئ ، في الأهداف والقيم ، في مفاهيم الخير والشر ، وكذلك في التقاليد الروحية للشعوب . إنه مستقر وثابت جداً ، وعند تغير الباراديغما هو يتبدل قليلاً فقط . واكثر من ذلك ، إن تحول الباراديغما يجري على قاعدة البنى العميقة الموجودة أصلا ، والتي تكتسب شكلا جديدا دون أن تغير محتواها .

 

العقل والإيمان

      تتحدد أفعال الإنسان والمجتمع ككل بواسطة عاملين : العقل والإيمان ، اللذين هما مرتبطان بشكل وثيق ببعضهما كمكونين للوعي المجتمعي . وعند الحديث عن عقل الإنسان ، فالأحرى أن نقارنه مع عملية البحث المميزة للحيوان . إضافة لذلك ، عند الإنسان ، بفضل المنظومة الثانية ـ منظومة الإشارات ـ  ظهرت الكلمة ، التي سمحت بالتعميم ، فظهرت الرؤية الرمزية للعالم ، بخلاف الحيوانات التي، من اجل الاحتكاك ،  تستخدم المنبهات الصوتية والكيميائية ذات المعنى المحدد . والإنسان لا يمارس البحث فقط ، بل ويثبت المعلومات بواسطة الكلمات . وبما أن كل كلمة تقوم بالتجريد ، فإن ذلك يترافق كما لو بفعل خلق جديد . إن مجموعة المعلومات المتراكمة والمثبتة ـ العلوم ـ قد أصبحت أساس النظرة العقلانية إلى العالم المحيط . من ناحية أخرى ، بما أن كل إنسان يستطيع الاطلاع فقط على جزيئه من المعرفة عن العالم المحيط ،  يتوجب عليه اخذ ـ على سبيل " الإيمان " ، كمسلمة ، ومن دون برهان  الكمية الضخمة من الحقائق والنتائج . و الإيمان بالفطرة من خصائص الوعي الاجتماعي . وهو مرتبط قبل كل شيء بمحدودية المعرفة البشرية ، بالرغم من انه قد يعتمد على الخبرة اليومية ، المنطق السليم والتقاليد الخارجية . إن الإيمان يتسم بصفة فوق شخصية ( فوق فردا نية) . إنه يربط الفرد بالمجتمع . فالإنسان يتلقى القسم الأكبر من معارفه عن طريق المجتمع ، يتقبلها كما هي " على الثقة " .

      هناك جانب آخر لكلمة " إيمان" ،  يتعلق بالبنية الحاملة للصفات الشخصية والمجتمعية . أي انه يفترض وجود قيم روحية عليا قائمة فوق الإنسان : الإنسان يعيش ويعمل ليس لنفسه فقط ، بل و للآخرين . وقد كان هذا الجانب من الإيمان حاضراً بصورة دائمة عبر التاريخ وفي جميع مراحل تطور المجتمع ، و إن اتخذ أشكالا مختلفة . يمكن الحديث عن الإيمان في الله ، في المستقبل الشيوعي ، في شخص تم تأليهه . لقد شرح ذلك اورتيغا ـ ي – جازيتOrtega –I-Gasset  : " حين يقال ، لا يوجد دين من دون الله ، فإن السؤال الذي طرحناه حول الخصوصية الرئيسية الواسمة للكائن ، المدعو الله ، يجاب علينا أو حسب المعتقد كما يلي : الإله عبارة عن إضافة( علاوة ، زائدة ) إلى الإنسان ، وأما الدين ـ فهي بالتحديد ذلك النمط من الحياة الذي يربطنا مع  " زائدتنا " ، موفراً لنا إمكانية الوجود فيها . بدون تلك الإضافة لا يستطيع الإنسان العيش ، و بدونها يشعر بكيانه قاسيا ومشوها بشكل عميق ، وفاقدا المعنى والغاية ... كل ما يساعد الإنسان كي يتحسس حياته جزءا من الكل ، دون أن يشعر أنها مشوهة بشكل معيب غير قابل للإصلاح ، يفتح الطريق أمام الدين .. ربما أن ،  ما قد يرضى به البعض ، سيبدو سخافة غير مفهومة بالنسبة للبعض الآخر ، لكن إذا هم حقاً قبلوا بذلك ، وبه هم قادرون على دعم حياتهم ، والشعور من خلال ذلك  بالأرض الصلبة  تحت أقدامهم ـ  فلا شك في هذا يتبلور دينهم ."

 طبقاً لاورتيغا – ي – جازيت ، إن الإيمان قد يتخذ أشكالا مختلفة جداً . وقد أشار هو إلى ارتباط العقيدة  مع جوهر الحياة ـ و إلا لأجل ماذا يجب أن نعيش في هذه الدنيا المليئة بالكذب والظلم . بالفعل ، لا بد من إضافة معينة إلى الإنسان . فهو لا يستطيع العيش بنفسه لنفسه ، إنه جزء من المجتمع ، إحدى مكوناته . وهذا محفور في أعماق الوعي البشري . بكلمة أخرى ، الإيمان هو انعكاس للجانب الاجتماعي من الكينونة الإنسانية . وكيف الوصول إلى معرفة هذا الجزيء . يشير اورتيغا إلى عدم صلاحية العقل الفيزيائي لهذه الغاية . واقع الإنسان ـ هي حياته ، ذلك الذي يأتي معه .  إن التاريخ هو عبارة عن حركة المجتمع ، الوعي الاجتماعي خلال الزمن . هنا ينشأ شكل جديد للعقل ـ العقل التاريخي .

الإيمان ، الدين يعكسان الجانب المجتمعي وليس الفردي من حياة الناس . توجد هنا علاقة وطيدة مع الوحدة العضوية للوطن ، مع مفاهيم الخير والشر . بهذا المعنى ، هنا تناقض واضح مع الفردانية ، التي تبيح كل شيء غير ممنوع ، أو بكلمة أخرى ـ ممكن فعل كل شيء شريطة أن لا أتحمل المسؤولية . وليس صدفة كان مجيء المسيحية للحلول بدلاً من إيديولوجية المجتمع المادي لروما القديمة ، الذي غرق في الفردانية ، النفعية ،الفساد والقسوة . فقط المسيحية هي التي دلت على طريق الخروج من تلك الحالة المنحرفة للوعي الاجتماعي ، الذي كان متسيداً في الإمبراطورية الرومانية القوية جداً .   نفس العملية ، من حيث تراجع و انحطاط الوعي الاجتماعي ،  تجري في أقوى دولة في العالم الآن ـ الولايات المتحدة الأمريكية .

 

الوعي التاريخي

إن الوعي المجتمعي غير جامد ، هو متحول . تغير العالم المحيط و تحول الوعي في الماضي ـ هذا هو التاريخ . فالماضي يدخل كلية  في الحاضر . الناس والمجتمع ككل يختارون في كل لحظة ، وهذا الطريق المختار يظل في الوعي الاجتماعي . بل يمكن القول أن أساس الوعي المجتمعي هو الوعي التاريخي .

      في الظروف الطبيعية من التطور المتوازن ، يعتبر الإنسان نفسه جزءا من العملية التاريخية ، جزءا من تاريخ شعبه أو البشرية بأكملها . وفي الفترات الانتقالية ، إن الناس يرجعون إلى تاريخهم ، من اجل الحصول على أجوبة  للقضايا الماثلة أمامهم في الوقت الحالي من ماضيهم ، من أجدادهم . لكن هنا قد تكمن خطورة التلاعب بالوعي . لهذا الغرض قد تستعمل قياسات معينة لتقييم هذه أو تلك من الموضوعات ، دورها ، أهميتها وحدود استخدامها . لا يمكن التقييم السليم بدون الأخذ بعين الاعتبار خصائص ومكونات الحقبة المعينة . ومع ذلك ، غالبا ما يجري قسر الحاضر في إطار الماضي ، فينشأ وضع يعيش المعاصرون في الزمن الفائت، و يجري النظر إلى العلاقات بين الناس من وجهة النظر المعتادة ، التي تُعلن الوحيدة الممكنة. عن مثل هذه الحالة نورد أبيات غوته :

          " لا تلمسوا القديم البعيد .  لن نستطيع  كسر أقفالها السبعة .

  وما يسمى روح العصر ، هو روح المفاهيم والأساتذة ،

  الذي يقدمه هؤلاء السادة بدون حق كأنه الحقيقة .

  كيف نتصور نحن النظام القديم ؟ كالكرار المملوءة سقط المتاع ،

  والبعض بل أسوأ بكثير ـ  كمسرح العرائس  ، كمعرض المجون .

  فحسب رأي البعض ، أجدادنا لم يكونوا بشرا ، بل دمى " .

 

ونحن عندما نعصرن الماضي ، نلجأ إلى إلصاق وجهة نظرنا بأناس ذلك الزمن . وعندها يمكن إنجاز أي  تحريف ، عن طريق تحويل الأشخاص ، حسب الضرورة ، إلى أشرار أو إلى ملائكة . هنا تنفتح الإمكانية لخوض الحرب التاريخية ، مصوبين بشكل مباشر على الماضي .

 

اتجاهات تحول الوعي الاجتماعي

يمتاز القرن الأخير بالتدمير التدريجي للمجتمع التقليدي . فالمجتمع التقليدي شكل عائقا قويا على طريق الأشكال السلبية لسلوك الإنسان . فالمجتمع التقليدي قام بشكل أساسي على السكان العاملين في الزراعة ، والذين كانوا حتى نهاية القرن العشرين اكثر من سكان المدن . لكن الحالة تبدلت . فقد حصلت على مستوى العالم عملية انتشار المدنUrbanization  بشكل متسارع للغاية .  والآن تقطن في المدن الكبيرة مجموعات  بشرية ضخمة  ـ ميغالوبوليس Megalopolis   . وهناك نشأت شروط جديدة لعيش الناس : التزاحم ، ضيق المساحة ، الضجيج ، التلوث ، ازدحام حركة المرور ، قلة الحركة ،  لكن مع  نمط حياة مليء بالتوتر ـ كل ذلك ساعد على انتشار مختلف أنواع الأمراض بما فيها التحسسية والسرطانات. وعند الكثير من الناس في المدن الكبيرة تنشأ انحرافات نفسية : فقدان التوازن ، عدوانية ، اكتئاب ، الشعور بالوحدة وغير ذلك . و من الصفات المميزة لحياة المدينة : الإدمان على المخدرات والكحول ، العنف ، الجريمة ، البغاء . تزداد شريحة الأشخاص الغير قادرين على التأقلم مع ظروف المجتمع الحديث . في تلك المدن الكبيرة ، حيث الناس متفرقين ، يصبح من السهل التحكم بهم .

تقوم وسائل الإعلام الجماهيرية ، خصوصا التلفزيون ، بصياغة الموضة ، القيم ، ومعايير السلوك . دون أن يتحسسون العالم المحيط بشكل صحيح ، يعيش الكثيرون في عالم افتراضي ومتخيل . أما في الواقع ، فإنه تتم عملية فقد التقاليد ، التواصل وتتالي الحقب الزمنية . وهذا ينسحب بالمناسبة على اتجاهات تغير الوسط الروحي أيضا . إن تدمير المجتمع التقليدي و شرذمة الناس ترك آثارا سلبية قوية على الجانب الإيماني ، على جاهزية الإنسان العمل من اجل خدمة الآخرين . ومع انه في المجتمع ما بعد الصناعي يجري كلام كثير عن الدين ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية مكتوب " نحن نؤمن بالله " ، فإنه لم يبق من الدين سوى المظاهر الطقوسية فقط . وبحيث انه من شكلي الوعي الاجتماعي : الشخصي والمجتمعي ـ قد اصبح الجانب الشخصي هو الأقوى والأكثر تأثيرا . ترسخت عبادة جديدة ـ عبادة الاستهلاك . إذا كنت تملك النقود وأنت قوي ، فأنت يمكنك أن تحصل على كل شيء . لكن ، إذا لم يوجد الإيمان ، فسيكون "  كل شيء مسموح " ، كما كتب ف . م . دستويفسكي في روايته  " الاخوة كارامازوف "  . 

      تزداد كمية المعطيات التي تشير إلى أن مجتمع الاستهلاك يقود إلى طريق مسدود ـ إنه النهاية .  وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية المركز العالمي لمجتمع الاستهلاك و الفردانية كمنظومة إيديولوجية .

      وكرد فعل غريزي على التغيرات في الوعي الاجتماعي عند الناس تبدأ بالظهور الرغبة والميل إلى الاتحاد ، إلى القيم العامة ، وليس فقط إلى الربح والاستهلاك . وهذا اكثر ما يتبلور في ازدياد دور الدين ، خصوصاً الإسلام . هناك الكثير من رجال الدين الذين ينظرون إلى التحولات الجارية في الوعي كمؤشر على الشر الكوني . على كل حال ، إن التطور الجاري يسمح بالحديث عن اضطراب كوني قادم للوعي الاجتماعي .

 د . إبراهيم استنبولي



#إبراهيم_إستنبولي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دروس من التاريخ : من الوثائق السرية للجنة المركزية للحزب الش ...


المزيد.....




- -محتوى بعيد عن الإسفاف والبلطجة-.. ياسمين عبدالعزيز سعيدة بـ ...
- متحدث باسم المفوضية الأوروبية عن رسوم ترامب الجمركية: ردنا س ...
- متحدث حكومي يعلق لـCNN على ما قاله ترامب لولي عهد البحرين عن ...
- -للسيطرة على مساحات واسعة-.. إسرائيل تعلن توسيع عمليتها العس ...
- قاذفة أمريكية ثانية تصل الشرق الأوسط، وقاعدة دييغو غارسيا في ...
- ما وراء الهجوم الإسرائيلي على رفح قرب الحدود المصرية؟
- فيتسو: أسعار الغاز في أوروبا لن تشهد انخفاضا إلا في حال استئ ...
- موسكو: التهديد بقصف البنية التحتية للطاقة النووية في إيران م ...
- من الفصول الدراسية إلى قفص الاتهام.. فضيحة جنسية لمعلمة في م ...
- تنسيق لضمان انسيابية العبور.. أول اتصال بين الدبيبة وسعيد ب ...


المزيد.....

- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق
- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة
- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية / محمد علي مقلد
- النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان / زياد الزبيدي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إبراهيم إستنبولي - مبادئ الحرب الإعلامية