الوعي الاجتماعي كساحة المعركة .
مسرح جديد للحرب
واحدة من أهم المقولات الماركسية ـ المادة هي التي تحدد الوعي أو البناء التحتي يحدد البناء الفوقي . وهذا صحيح ، بشكل عام . إن وعي الفرد والوعي المجتمعي يجب أن يتبلورا انطلاقا من الشروط الموضوعية المحيطة ـ من الحياة ، و إلا فإن أفعال الإنسان والجماعات ستكون منحرفة ، غير منسجمة مع الواقع .
ولكن مع نشوء المجتمع الإعلامي ، فإن الوضع قد تغير . فالإنسان يتواجد بشكل دائم ضمن تأثير حقل إعلامي . ففي كل بيت يوجد تلفزيون ، متوفر الراديو و ومختلف وسائل النشر والطباعة ، وبالتالي فإن عقل الإنسان يتعرض بشكل متواصل لتأثير وسائل الإعلام الجماهيري ، على الرغم من أن ذلك قد لا تكون له أية علاقة بالواقع .
في الحرب النفسية ـ الإعلامية ، الحرب من نوع جديد ومختلف ، يتم استخدام التأثير المباشر على الوعي الجمعي ، على عقول الناس . تكمن المهمة في إجبار الكتل الجماهيرية على فعل ما يراد منها حتى ولو كان ذلك متناقضا مع مصالحها ، وفي معسكر العدو أو الطرف الآخر خلق انقسام بين الناس ودفعهم نحو التصارع بعضهم ضد بعض .
في الحرب الإعلامية تكتسب أهمية كبيرة الخبرات العملية من حيث التأثير على وعي الحشود . والولايات المتحدة الأمريكية لها باع طويل في مجال الدعاية ، سواء الدعاية من اجل تسويق سلع عادية أو في إجراء حملة انتخاب الرئيس . ويتضح حجم النشاط الدعائي من خلال الإحصائيات التالية : إن حصة المواطن الامريكي العادي من الإعلانات الدعائية تتجاوز 1500 إعلان في اليوم الواحد ، سنويا توزع عبر مؤسسة البريد حوالي 16 مليار ! منشور دعائي ، والساعة المسائية في التلفزيون تحتوي 30 عرضا دعائيا . والقضية لا تختصر في و لا تتوقف على حجم الأعمال الدعائية ، بل في الاستخدام الهائل للخصائص النفسية عند الناس . هناك يجري تعليم أسس و أساليب الدعاية في مختلف المراحل : في المدارس ، المعاهد و في الجامعات .. ثم يتم اختيار المتميزين ليجري توزيعهم في شركات الإعلان والدعاية ، التي تقوم بدراسة نتائج الإحصاءات ، مختلف عمليات السبر والاستمارات ومدى فاعلية الإعلانات الدعائية ذات التوجه الجماهيري .
الناظم الأساسي في مجال التأثير على وعي الناس هو أبحاث العلماء الذين قاموا بدراسة هذه الظاهرة . والفضل في نشوء أسس ( ربما بشكل أدق ـ نواظم ) نظرية الوعي المجتمعي أو الجماعي ، يعود إلى أعمال الفلاسفة الروس " المثاليين " ، خاصة ف . س . سولوفيوف ، س . ن . بولغاكوف وغيرهم ، إلى جانب أبحاث دوركهايم وتلاميذه في الغرب . ففي القاموس الموسوعي لعام 1954 ترد التوصيفات التالية لهؤلاء العلماء ( " ف . س . سولوفيوف : فيلسوف روسي رجعي ـ غيبي ، مؤمن بالله ... ، س.ن . بولغاكوف : فيلسوف واقتصادي روسي رجعي برجوازي ، مؤيد للثورة المضادة وعدو لدود للسلطة السوفييتية ... ، دوركهايم : عالم اجتماع فرنسي رجعي ، من مؤيدي نظرية مالتوس ، عنصري و مدافع عن الإمبريالية " ) ، تلك التوصيفات تعكس الحالة المزرية " للماركسية ـ اللينينية " ذاك الزمن .
الخلاصة الرئيسية لأعمال أولئك الباحثين تقول بان الوعي المجتمعي ليس بناء فوقيا يقوم على القاعدة ( الاقتصاد ) ، و إنما عالم مستقل يتطور طبقا لقوانينه الخاصة . لا شك ، إن المجتمع يتكيف بهذا الشكل أو ذاك مع تغيرات الظروف الخارجية . لكن إلى جانب ذلك تظل قائمة في الوعي المجتمعي قضايا الماضي ( بما في الماضي البعيد ) ، لكن في صيغة مختلفة ( وتتبدل بصورة دائمة ) .
في الاتحاد السوفييت ، وبفضل منظّري الحزب الشيوعي السوفييتي ، لم تكن تنشر أعمال وأبحاث الاختصاصيين في مجال الوعي الاجتماعي . ولم تدرس . بكلمة أخرى ، لقد حصل نزع سلاح أحادى الجانب في هذا المجال . و الآن سنتوقف على ظاهرة الوعي الاجتماعي .
تركيبة الوعي الاجتماعي
المجتمع ـ هو عبارة عن مجموعة ملايين كثيرة من الناس . وكل هذه الكتلة تنقسم إلى طبقات مختلفة ، اتحادات ، و مجموعات ، تشغل أمكنة محددة في التوليفة الاجتماعية . . و رغم أن لكل من تلك الأقسام ، كما هو للأفراد المنعزلين ، منظومة آراء مميزة ، و أحيانا جد متناقضة ، فإنه توجد ظاهرة الوعي الجمعي أو المجتمعي ، التي تربط الناس في وحدة متكاملة . كما كتب الفيلسوف الإسباني الشهير خ . اورتيغا ـ ي ـ جازّيت ( Ortecha-I-Gasset ) : " قد يتعارض رأينا الخاص مع الرأي العام ، لكن الأخير لن يصبح من جراء ذلك اقل واقعية ولا باي شكل من الأشكال . من خصائص الرأي العام الواسمة هي استقلاليته عن كون هذا الإنسان أو ذاك يتفق معه بمفرده . فمن وجهة نظر حياة كل شخص منفرد ، إن الاعتقاد الجمعي يتخذ ما يشبه الحالة المادية . بكلمة ، إن الواقعية الملموسة للرأي الجماعي لا تقوم على ما إذا كنت أنا أو أنت متفقين معه ، بل بالعكس ، إنه هو بحد ذاته ، من دون إرادتنا ، يفرض علينا الأمر الواقع مجبرا إيانا على أخذه بعين الاعتبار . "
ممل لاشك فيه هو أن حياة الإنسان الذي لا يشاطر القناعة المجتمعية ( الرأي العام ) ستكون مختلفة بشكل جوهري عن حياة الإنسان الذي يتقبلها . والوعي الجمعي ( كما الفردي ) من حيث المبدأ ، يجب أن يعكس الواقع بشكل موضوعي ، و أن يتكيف مع تبدلانه . لذلك فإن المقولة ، المادة تحدد الوعي هي صحيحة جزئيا فقط . فالوعي ، بحد ذاته ، منفصل عن الواقع ويشكل وحدة ذاتية متغيرة وفق قوانينها الخاصة . على الخصوص ، إن الوعي المجتمعي في فترة معينة يمكن أن يتسم بطابع أصم ( غير معقول ) ، كما الإنسان الذي يمكن أن يعيش في عالم مُتَخيل .
يجب التمييز بين ثلاثة مستويات بنيوية في الوعي المجتمعي : العلوي ، الأساسي و العميق . للمستوى العلوي يمكن ضم الرأي العام ، الذي يتسم بالتقلب ، وهو غالبا غير مستقر و قصير العمر . أما المستوى الأساسي فيعادل لوحة العالم عند الإنسان الفرد . يُنظر إليه كقياس Paradigm . هذا المصطلح يتضمن منظومة المفاهيم القائمة ، المواقف ووجهات النظر في المجتمع ككل . هذا المستوى يتسم بالثبات الكبير . إن الوعي الاجتماعي يتطور كصيرورة ( عملية متواصلة ) من الانتقالات ـ الوثبات من باراديغما إلى أخرى . وإن عملية الابتعاد عن باراديغما معينة يمكن أن يجري بشكل كامن لفترة طويلة دون أن يلاحظ ( كما تبدل الوعي الاجتماعي في الاتحاد السوفييتي في بداية الثمانينات ) . أما المستوى العميق ( أو تحت أساس الوعي المجتمعي ) فيمكن مقارنته بشكل تقريبي مع الوعي الفردي الذي يتشكل عند الإنسان في الطفولة الباكرة ويترك بصماته مدى الحياة . في ذلك الحين تظهر الرموز والصور التي عليها ينشأ التفكير المحسوس للمرء . ينعكس هذا المستوى من الوعي في الأخلاق والمبادئ ، في الأهداف والقيم ، في مفاهيم الخير والشر ، وكذلك في التقاليد الروحية للشعوب . إنه مستقر وثابت جداً ، وعند تغير الباراديغما هو يتبدل قليلاً فقط . واكثر من ذلك ، إن تحول الباراديغما يجري على قاعدة البنى العميقة الموجودة أصلا ، والتي تكتسب شكلا جديدا دون أن تغير محتواها .
العقل والإيمان
تتحدد أفعال الإنسان والمجتمع ككل بواسطة عاملين : العقل والإيمان ، اللذين هما مرتبطان بشكل وثيق ببعضهما كمكونين للوعي المجتمعي . وعند الحديث عن عقل الإنسان ، فالأحرى أن نقارنه مع عملية البحث المميزة للحيوان . إضافة لذلك ، عند الإنسان ، بفضل المنظومة الثانية ـ منظومة الإشارات ـ ظهرت الكلمة ، التي سمحت بالتعميم ، فظهرت الرؤية الرمزية للعالم ، بخلاف الحيوانات التي، من اجل الاحتكاك ، تستخدم المنبهات الصوتية والكيميائية ذات المعنى المحدد . والإنسان لا يمارس البحث فقط ، بل ويثبت المعلومات بواسطة الكلمات . وبما أن كل كلمة تقوم بالتجريد ، فإن ذلك يترافق كما لو بفعل خلق جديد . إن مجموعة المعلومات المتراكمة والمثبتة ـ العلوم ـ قد أصبحت أساس النظرة العقلانية إلى العالم المحيط . من ناحية أخرى ، بما أن كل إنسان يستطيع الاطلاع فقط على جزيئه من المعرفة عن العالم المحيط ، يتوجب عليه اخذ ـ على سبيل " الإيمان " ، كمسلمة ، ومن دون برهان الكمية الضخمة من الحقائق والنتائج . و الإيمان بالفطرة من خصائص الوعي الاجتماعي . وهو مرتبط قبل كل شيء بمحدودية المعرفة البشرية ، بالرغم من انه قد يعتمد على الخبرة اليومية ، المنطق السليم والتقاليد الخارجية . إن الإيمان يتسم بصفة فوق شخصية ( فوق فردا نية) . إنه يربط الفرد بالمجتمع . فالإنسان يتلقى القسم الأكبر من معارفه عن طريق المجتمع ، يتقبلها كما هي " على الثقة " .
هناك جانب آخر لكلمة " إيمان" ، يتعلق بالبنية الحاملة للصفات الشخصية والمجتمعية . أي انه يفترض وجود قيم روحية عليا قائمة فوق الإنسان : الإنسان يعيش ويعمل ليس لنفسه فقط ، بل و للآخرين . وقد كان هذا الجانب من الإيمان حاضراً بصورة دائمة عبر التاريخ وفي جميع مراحل تطور المجتمع ، و إن اتخذ أشكالا مختلفة . يمكن الحديث عن الإيمان في الله ، في المستقبل الشيوعي ، في شخص تم تأليهه . لقد شرح ذلك اورتيغا ـ ي – جازيتOrtega –I-Gasset : " حين يقال ، لا يوجد دين من دون الله ، فإن السؤال الذي طرحناه حول الخصوصية الرئيسية الواسمة للكائن ، المدعو الله ، يجاب علينا أو حسب المعتقد كما يلي : الإله عبارة عن إضافة( علاوة ، زائدة ) إلى الإنسان ، وأما الدين ـ فهي بالتحديد ذلك النمط من الحياة الذي يربطنا مع " زائدتنا " ، موفراً لنا إمكانية الوجود فيها . بدون تلك الإضافة لا يستطيع الإنسان العيش ، و بدونها يشعر بكيانه قاسيا ومشوها بشكل عميق ، وفاقدا المعنى والغاية ... كل ما يساعد الإنسان كي يتحسس حياته جزءا من الكل ، دون أن يشعر أنها مشوهة بشكل معيب غير قابل للإصلاح ، يفتح الطريق أمام الدين .. ربما أن ، ما قد يرضى به البعض ، سيبدو سخافة غير مفهومة بالنسبة للبعض الآخر ، لكن إذا هم حقاً قبلوا بذلك ، وبه هم قادرون على دعم حياتهم ، والشعور من خلال ذلك بالأرض الصلبة تحت أقدامهم ـ فلا شك في هذا يتبلور دينهم ."
طبقاً لاورتيغا – ي – جازيت ، إن الإيمان قد يتخذ أشكالا مختلفة جداً . وقد أشار هو إلى ارتباط العقيدة مع جوهر الحياة ـ و إلا لأجل ماذا يجب أن نعيش في هذه الدنيا المليئة بالكذب والظلم . بالفعل ، لا بد من إضافة معينة إلى الإنسان . فهو لا يستطيع العيش بنفسه لنفسه ، إنه جزء من المجتمع ، إحدى مكوناته . وهذا محفور في أعماق الوعي البشري . بكلمة أخرى ، الإيمان هو انعكاس للجانب الاجتماعي من الكينونة الإنسانية . وكيف الوصول إلى معرفة هذا الجزيء . يشير اورتيغا إلى عدم صلاحية العقل الفيزيائي لهذه الغاية . واقع الإنسان ـ هي حياته ، ذلك الذي يأتي معه . إن التاريخ هو عبارة عن حركة المجتمع ، الوعي الاجتماعي خلال الزمن . هنا ينشأ شكل جديد للعقل ـ العقل التاريخي .
الإيمان ، الدين يعكسان الجانب المجتمعي وليس الفردي من حياة الناس . توجد هنا علاقة وطيدة مع الوحدة العضوية للوطن ، مع مفاهيم الخير والشر . بهذا المعنى ، هنا تناقض واضح مع الفردانية ، التي تبيح كل شيء غير ممنوع ، أو بكلمة أخرى ـ ممكن فعل كل شيء شريطة أن لا أتحمل المسؤولية . وليس صدفة كان مجيء المسيحية للحلول بدلاً من إيديولوجية المجتمع المادي لروما القديمة ، الذي غرق في الفردانية ، النفعية ،الفساد والقسوة . فقط المسيحية هي التي دلت على طريق الخروج من تلك الحالة المنحرفة للوعي الاجتماعي ، الذي كان متسيداً في الإمبراطورية الرومانية القوية جداً . نفس العملية ، من حيث تراجع و انحطاط الوعي الاجتماعي ، تجري في أقوى دولة في العالم الآن ـ الولايات المتحدة الأمريكية .
الوعي التاريخي
إن الوعي المجتمعي غير جامد ، هو متحول . تغير العالم المحيط و تحول الوعي في الماضي ـ هذا هو التاريخ . فالماضي يدخل كلية في الحاضر . الناس والمجتمع ككل يختارون في كل لحظة ، وهذا الطريق المختار يظل في الوعي الاجتماعي . بل يمكن القول أن أساس الوعي المجتمعي هو الوعي التاريخي .
في الظروف الطبيعية من التطور المتوازن ، يعتبر الإنسان نفسه جزءا من العملية التاريخية ، جزءا من تاريخ شعبه أو البشرية بأكملها . وفي الفترات الانتقالية ، إن الناس يرجعون إلى تاريخهم ، من اجل الحصول على أجوبة للقضايا الماثلة أمامهم في الوقت الحالي من ماضيهم ، من أجدادهم . لكن هنا قد تكمن خطورة التلاعب بالوعي . لهذا الغرض قد تستعمل قياسات معينة لتقييم هذه أو تلك من الموضوعات ، دورها ، أهميتها وحدود استخدامها . لا يمكن التقييم السليم بدون الأخذ بعين الاعتبار خصائص ومكونات الحقبة المعينة . ومع ذلك ، غالبا ما يجري قسر الحاضر في إطار الماضي ، فينشأ وضع يعيش المعاصرون في الزمن الفائت، و يجري النظر إلى العلاقات بين الناس من وجهة النظر المعتادة ، التي تُعلن الوحيدة الممكنة. عن مثل هذه الحالة نورد أبيات غوته :
" لا تلمسوا القديم البعيد . لن نستطيع كسر أقفالها السبعة .
وما يسمى روح العصر ، هو روح المفاهيم والأساتذة ،
الذي يقدمه هؤلاء السادة بدون حق كأنه الحقيقة .
كيف نتصور نحن النظام القديم ؟ كالكرار المملوءة سقط المتاع ،
والبعض بل أسوأ بكثير ـ كمسرح العرائس ، كمعرض المجون .
فحسب رأي البعض ، أجدادنا لم يكونوا بشرا ، بل دمى " .
ونحن عندما نعصرن الماضي ، نلجأ إلى إلصاق وجهة نظرنا بأناس ذلك الزمن . وعندها يمكن إنجاز أي تحريف ، عن طريق تحويل الأشخاص ، حسب الضرورة ، إلى أشرار أو إلى ملائكة . هنا تنفتح الإمكانية لخوض الحرب التاريخية ، مصوبين بشكل مباشر على الماضي .
اتجاهات تحول الوعي الاجتماعي
يمتاز القرن الأخير بالتدمير التدريجي للمجتمع التقليدي . فالمجتمع التقليدي شكل عائقا قويا على طريق الأشكال السلبية لسلوك الإنسان . فالمجتمع التقليدي قام بشكل أساسي على السكان العاملين في الزراعة ، والذين كانوا حتى نهاية القرن العشرين اكثر من سكان المدن . لكن الحالة تبدلت . فقد حصلت على مستوى العالم عملية انتشار المدنUrbanization بشكل متسارع للغاية . والآن تقطن في المدن الكبيرة مجموعات بشرية ضخمة ـ ميغالوبوليس Megalopolis . وهناك نشأت شروط جديدة لعيش الناس : التزاحم ، ضيق المساحة ، الضجيج ، التلوث ، ازدحام حركة المرور ، قلة الحركة ، لكن مع نمط حياة مليء بالتوتر ـ كل ذلك ساعد على انتشار مختلف أنواع الأمراض بما فيها التحسسية والسرطانات. وعند الكثير من الناس في المدن الكبيرة تنشأ انحرافات نفسية : فقدان التوازن ، عدوانية ، اكتئاب ، الشعور بالوحدة وغير ذلك . و من الصفات المميزة لحياة المدينة : الإدمان على المخدرات والكحول ، العنف ، الجريمة ، البغاء . تزداد شريحة الأشخاص الغير قادرين على التأقلم مع ظروف المجتمع الحديث . في تلك المدن الكبيرة ، حيث الناس متفرقين ، يصبح من السهل التحكم بهم .
تقوم وسائل الإعلام الجماهيرية ، خصوصا التلفزيون ، بصياغة الموضة ، القيم ، ومعايير السلوك . دون أن يتحسسون العالم المحيط بشكل صحيح ، يعيش الكثيرون في عالم افتراضي ومتخيل . أما في الواقع ، فإنه تتم عملية فقد التقاليد ، التواصل وتتالي الحقب الزمنية . وهذا ينسحب بالمناسبة على اتجاهات تغير الوسط الروحي أيضا . إن تدمير المجتمع التقليدي و شرذمة الناس ترك آثارا سلبية قوية على الجانب الإيماني ، على جاهزية الإنسان العمل من اجل خدمة الآخرين . ومع انه في المجتمع ما بعد الصناعي يجري كلام كثير عن الدين ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية مكتوب " نحن نؤمن بالله " ، فإنه لم يبق من الدين سوى المظاهر الطقوسية فقط . وبحيث انه من شكلي الوعي الاجتماعي : الشخصي والمجتمعي ـ قد اصبح الجانب الشخصي هو الأقوى والأكثر تأثيرا . ترسخت عبادة جديدة ـ عبادة الاستهلاك . إذا كنت تملك النقود وأنت قوي ، فأنت يمكنك أن تحصل على كل شيء . لكن ، إذا لم يوجد الإيمان ، فسيكون " كل شيء مسموح " ، كما كتب ف . م . دستويفسكي في روايته " الاخوة كارامازوف " .
تزداد كمية المعطيات التي تشير إلى أن مجتمع الاستهلاك يقود إلى طريق مسدود ـ إنه النهاية . وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية المركز العالمي لمجتمع الاستهلاك و الفردانية كمنظومة إيديولوجية .
وكرد فعل غريزي على التغيرات في الوعي الاجتماعي عند الناس تبدأ بالظهور الرغبة والميل إلى الاتحاد ، إلى القيم العامة ، وليس فقط إلى الربح والاستهلاك . وهذا اكثر ما يتبلور في ازدياد دور الدين ، خصوصاً الإسلام . هناك الكثير من رجال الدين الذين ينظرون إلى التحولات الجارية في الوعي كمؤشر على الشر الكوني . على كل حال ، إن التطور الجاري يسمح بالحديث عن اضطراب كوني قادم للوعي الاجتماعي .
د . إبراهيم استنبولي