في إحدى المناطق النائية على ضفاف النيل بأقصى أقاصي الشمال، ترقد قرية وادعة وداعة النيل وأهلنا الطيبين هناك. كان للقرية عمدة شأنها شأن جميع قرى المنطقة، محبوباً كريماً محترماً من جميع أهل القرية والقرى المجاورة، حتى تلك التي لم تكن تخضع لسلطانه المباشر، وذلك مردّه لما كان يتمتع به من صفات حميدة وأخلاق فضيلة جعلته أحد الرجال القلائل الذين يشار إليهم بالبنان.
وكان للقرية أيضاً – كما هو شائع في تلك المناطق – شيخٌ يرعى الشئون الدينية لسكانها، ويقوم بإجراء الطقوس الدينية والاجتماعية لأهلها، يؤمهم في صلاتهم، ويخطب بهم في يوم الجمعة، ويسجل زيجاتهم وطلاقاتهم، وما إلى ذلك. كان اسم الشيخ "وقيع الله" وينتمي إلى أرومة فاضلة، وعشيرة مانعة، وبعد ذلك رجل دين، له نفوذه الروحي على الآلاف من المؤمنين.
كان الشيخ وقيع الله مالكي المذهب، قادري الطريقة، وذلك هو الشائع في عرف ذاك الزمان، أن يكون لكل شيخ مذهب فقهي يسير عليه، ومذهب روحي يرشد به ويجمع المريدين من حوله في كل حين، وحيث أن الطريقة القادرية كانت هي الطريقة المنتشرة في كل مناطق شمال السودان قبل دخول الطريقة الختمية، فإن معنى ذلك أن نفوذه لا يمتد على حدود قريته، بل يتجاوزها لعشرات الحلال والقرى المجاورة وغير المجاورة، بل ويعبر خط النيل الفاصل بين الشرق والغرب، إلى قرى الضفة الأخرى من النهر.
كان بين العمدة والشيخ علاقات ووشائج ممتدة ووطيدة، فعدى علاقات النسب والمصاهرة والأرومة الواحدة التي تحدر منها الجميع، فإن الصداقة والمحبة التي جمعت بين الاثنين كانت فوق ذلك، وتتجاوزه بمراحل عديدة، ولم يصدف في يوم من أيام الله في تلك القرية أن مر عليها يومٌ لم يلتقي فيه عمدتها الحاج حسن مع الشيخ وقيع الله، حتى في ليالي الشتاء الكئيبة كان الاثنان يصرّان، رغم بعد الشقة ورداءة الطقس، على وجوب الوصال واللقاء.
وكان للقاءات والأبواب المفتوحة على مصراعيها بين البيتين – بيت العمدة وبيت الشيخ - أسباب أُخر .. غير ما يبدو للناس من أسباب الوداد الظاهر، كان لذلك سِرٌ قديم لم يكن يعلمه إلا القليل من كبار السن في القرية وبعض النساء العاطلات عن العمل، حيث رزق العمدة قبل سنوات طوال ببنت قبيحة قباحة القرود، من زوجته الحسناء التي توفيت بعد ولادة ابنته هذه مباشرةً، مما أدخل العمدة في حالة نفسية سيئة، نصفها بسبب الحزن على وفاة زوجته، والنصف الآخر بسبب قباحة ابنته التي فاتت حدود الوصف والخيال.
كانت زوجة العمدة المتوفاة تدعى مريم بت نعمان، صبية في مقتبل العمر حين تزوجها، ووالدها "نعمان" شيخ مشايخ الطريقة القادرية في شمال السودان، فجمعت بين الحسنيين : حسب كريم، وجمال سار بذكره الركبان بين القرى والحلال. بداية معرفة العمدة حاج الحسن بمريم تعود إلى قصيدة سمعها ذات يوم تُغنى، يقال أن كاتبها شاعر من إحدى القرى المجاورة، حل ضيفاً على والدها الشيخ نعمان، وحين هم بالخروج ووداع الشيخ، لمح لمحة عابرة رأى فيها فتاة لم يستبن منها سوى نور جمالها الأخاذ الذي صعقه، فكتب قصيدة عنها حوت من محاسن الوصف ما لا يقال ! وقيل أيضاً أنها كانت القصيدة العاشرة التي تخرج مجهولة الأب والأم من ظلام إحدى القرى تغني لجمال مريم.
وما لا نعلمه حتى هذه اللحظة، أن الشيخ وقيع الله، كان عم مريم، وشقيق والدها "نعمان"، وأنه أخذ مشيخة الطريق وسجادة الطريقة القادرية من والدها قبل وفاته، لأن والد مريم لم يكن له أولاد ذكور، وإن شئنا الدقة، لم يكن أولاد إطلاقاً سوى مريم الحسناء. المهم في الموضوع أن العمدة بعد وفاة زوجته حاول أن يطلق الدنيا، فأبى الناس عليه، وجربوا معه شتى الطرق لثنيه عن قراره هذا، فوافق بشرط وحيد !
كان شرط العمدة أن يأخذ أحدهم ابنته كلتوم القبيحة، وأن لا يرى وجهها مدى الحياة، فوافق الشيخ وقيع الله، والذي كان من ضمن الحضور، على أخذها وتربيتها في منزله، خاصة وانه لم يكن ينجب، وخاصة أخرى وأن كلتوم هي حفيدة شقيقه المرحوم الشيخ نعمان، والذي كان يُكن له حباً وتقديراً عميقاً يفوق الوصف.
بهذه العملية الفدائية من قبل الشيخ وقيع الله، عادت الأمور إلى مجاريها، وعاد العمدة يزاول مهامه ونشاطاته من جديد، وتم التكتم على القصة وقيل للناس أن مريم ماتت هي وابنتها في مخاض النفاس. نسي الناس هذه القصة في زحمة الحياة، واختفت كلتوم من خارطة وجود القرية تماماً، حيث لم يكن مسموحاً لها بالخروج من حدود دار الشيخ وقيع الله إلا لأقصى الضرورات.
شبت كلتوم، وقبحها يزداد يوماً بعد يوم .. ولكنها من جانب آخر، كانت تملك قلباً نقياً نقاء البلور لم يكن الناس يستطيعون رؤيته، وكانت بنتاً لأناس صالحين، فشبت على الصلاح والتقوى، كانت تلازم الشيخ وقيع الله منذ دخوله إلى منزله إلى خروجه منه، فتخلع له عمامته وتغسل أقدامه، وتجهز له فراشه. وفي المقابل كان الشيخ وقيع الله يحبها حباً شديداً، وينظر بعين الرحمة لضعفها، وكان كثيراً ما ينصفها وينصرها على نساء البيت اللواتي كن يعاملنها معاملة الخادمة.
ذات يومٍ من أيام السنة، استدعى الشيخ وقيع الله كلتوم بعد صلاة العصر، ويبدو أن النسيم الرطب الذي حمله النيل وامتزج بحرِّ النهار قد أشعل حماس الشيخ ورغبته في تلقين الطريق لابنته كلتوم، جلس الشيخ وقيع الله على عنقريبه العتيق، وأجلسها على الأرض، وجعلها تضع جبهتها على ركبته اليمنى، ثم تمتم بأوراد وأشياء غريبة في سره وحرك شفتيه، ليقول لها بعد ذلك : مبروك، من الآن فصاعداً لا أب لك ولا أم، أبوك الطريق وأمك المسيد.
كانت كلتوم تخرج أحياناً من منزلهم لشيء طارئ أو لورود الماء من الترعة القريبة، فكان لزاماً عليها أن تلبس عباءة سوداء تغطيها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، وذلك كي لا يراها أحد، وبالأخص العمدة حاج الحسن، الذي ربط وجوده في هذه الحياة، بغروبها هي عنها. كان منظرها بهذه العباءة غريباً على سكان القرية، فكان أطفال القرية ينادونها : "بت الغراب .. واردي الحفير .. شايلي الجُراب .. بت الغفير .. سفي التراب" !
صنعت أهازيج الأطفال عقدة نفسية لبنت الغراب، إضافة إلى العقدة الأصلية التي صنعها لها والدها العمدة بتبرؤه منها، فصممت على تجاوزهم جميعاً بما لا يستطيعون عمله، وفكرت كثيراً : ما عساه لدي ولا يملكونه حتى أتفوق عليهم به ؟ وجدت أنها لا تملك شيئاً من حطام الدنيا تستطيع أن تباهي به الآخرين سوى الوقت ! كانت تملك وقتاً خرافياً فائضاً عن حاجتها، ولم تكن تعلم ما تفعل به ....
بدأت بنت الغراب في تعلم القراءة والكتابة، وحفظ كتب الدين، والفرائض، والفقه، واللغة العربية، وعلم العروض، والنحو والصرف، وأسرار الطريق، وكل شيء متاح للحفظ في ذاك الزمان. كانت تستهلك كل الوقت المتوفر لراحة الشيخ وقيع الله على حسابها، فتعلَّم الشيخ وقيع الله السهر إلى أنصاص الليالي في تعليم بت الغراب ما لا تعلمه، بدلاً عن وقته الذي كان يمضيه في ما مضى في عبادة الله والصلاة وقضاء حوائج المريدين، وكان يردد في سره "أن تعليم الناس أمور دينهم خير من ألف صلاة".
في حلقات الذكر التي كان يقيمها الشيخ وقيع الله في داره، كانت بنت الغراب، تلبس عباءتها السوداء، وتقف وسط الذاكرين، وتذكر بأعلى صوتها الذي كان حقيقة أقرب إلى نعيق الغراب : "لا اله إلا الله .. حسبي ربي تجلى الله .. وما بقلبي سوى الله .. نور محمد صلى الله"، مما جلب الضيق للذاكرين والمريدين من هذا السلوك الغريب عليهم والصوت المنكر الذي كانت تذكر به ويقطع عليهم خشوعهم في ذكر الله؛ نبهوا الشيخ، إلا أنه رفض الإصغاء إليهم، فهو كان يحب ابنته حباً يفوق ما يظنه الناس، وكان يسمح لها بما لا يسمح للآخرين به، وكانت هي بتصرفاتها تلك تريد بحسن نية أن تلفت انتباه الناس لها، وأن تجذب اهتمامهم نحوها، ولكنها حقيقة - دون أن تقصد - زادت من نفورهم عنها.
وتمر الأيام، والشيخ وقيع الله، يزداد حيرة وفي ذات الوقت إعجاباً ببت الغراب، فقد كان يعطيها الكتاب في الصباح قبل خروجه إلى زراعته، فيعود مساءً ليجدها قد غيبته عن ظهر قلب، وتسمعه له، وكأن الموضوع طبيعي لا غرابة فيه، أما الشيخ وقيع الله فقد حار في أمر هذه الفتاة، فهي في اليوم الواحد تحفظ ما لا يستطيع أن يحفظه هو في سنة، ولا حتى أجود الحافظين يستطيعون حفظه بهذه القدرة والتجويد، فتنبأ الشيخ وقيع الله بمستقبل باهر لابنته هذه (بت الغراب).
من ناحيةِ أخرى، على الرغم من قدرة بنت الغراب على الحفظ بهذه الصورة الاعجازية، فإنها كانت بليدة في كل ما يتعلق بنواحي الحياة الأخرى، فقد ظلت حتى صار عمرها قرابة العشرين سنة، لا تستطيع أن توقد نار الطعام، وحتى الطبخ لم تكن تستطيع أن تطبخ منه شيئاً، فإن فعلت خرج الناتج شيئاً لا طعم له ولا لون ولا رائحة. كانت هذه هي عقدة بنت الغراب الأشد وقعاً على قلبها، وكانت تحقد على بنات الجيران لكونهم طباخات ماهرات، وفوق ذلك جميلات، حتى أن أقبحهم تفوق بنت الغراب جمالاً بمراحل عديدة. ولكن محبة الشيخ التي كانت تغمرها كل حين، تنسيها هموم الدنيا، فقد كان يتنبأ لها دوماً بأنها ستبز أقرانها .. في كل شيء !
وحينما يزيد هذا الهاجس لدى بنت الغراب، وتحس أن الجميع أفضل منها كانت تخرج لبنات جيرانها وفي يدها الدواة واللوح، وأحياناً كتاب، وتجلس وسطهم لتبدأ سيول الأسئلة والمعلومات بادئة بألفية ابن مالك مروراً بعروض الخليل وانتهاءً بالموطأ .. كان البنات في بادئ الأمر معجبات ببنت الغراب وثقافتها الواسعة التي تتجاوز إطار المحلية إلى العالمية، وكان أهاليهن يداومن على حثهن على مصادقتها، ولكن بعد فترة وجيزة أدرك الجميع - بناتاً وأمهاتاً - أن بنت الغراب تحب فقط الاستعراض، وأنها حقيقة لا تستفيد من علمها شيئاً يذكر.
بعد سنوات طوال، أخبر الشيخ وقيع الله أهله وبنت الغراب معهم أنه أحس بدنو أجله، وان لديه رحلة أخيرة للصعيد، كان يؤجلها منذ سنوات، ويجب أن يقوم بها قبل أن تدركه المنية على أن ترافقه كلتوم بت الغراب في رحلته هذه .. كانت بنت الغراب قد تجاوزت الأربعين خريفاً من العمر في ذلك الوقت حينما شدّ الشيخ وقيع الله رحال حماره، وأردف معه بنت الغراب، ميمماً وجهه شطر الصعيد. طالت الرحلة وغاب الشيخ وبنت الغراب عنهم لسنوات عديدة، حتى كاد الجميع أن ينساه، وظنوا أنه لاقى حتفه هو وبنت الغراب في رحلتهم التي لم تنتهي.
ذات يومٍ .. سمع الناس أصوات نوبات تجلد، وأجراس تقرع، وغبار كثيف، وأعلام خضراء وبيضاء تطاول عنان سماء القرية، فخرجوا مسرعين، ليجدوا مئات المريدين ودراويش الطريقة القادرية، يحيطون ببنت الغراب إحاطة السوار بالمعصم. لقد توفي الشيخ وقيع الله ودفن في الصعيد دافئ العظام في ضريح الشيخ الكبير جوار نار تقابة القرآن في مسيد القوم، والسادة الكرام أهل الله المدفونين في الضريح الكبير، وذلك بعد أن حصل على الإجازة من الشيخ تاج الدين لابنته بنت الغراب، وكان هذا خلاصة ما يطمح إليه، وما سعى إليه من رحلته، أن يحصل على إجازة ومشيخة الطريق لبنت الغراب، كان الشيخ تاج الدين حين ذهبوا إليه، رافضاً تمام الرفض لفكرة أن تتولى امرأة مشيخة الطريق، ولكنه حين رأى بنت الغراب واندهش لكمية ما تعرفه وتحفظه من أسرار الطريق، أصر هو الآخر على ألا تكون المشيخة لغيرها، ولكنه رهن موافقته على ذلك بشرط هو أن تدخل بنت الغراب في خلوة لمدة سنة كاملة لا تأكل فيها ولا تشرب، وأن تتفرغ للعبادة طوال عامها هذا !
خرجت بنت الغراب من خلوتها هذه بعد سنة، كالبعّاتي، شعثاء غبراء، جلداً على عظم، وعيناها غائرتان في محجريهما .. أعطاها الشيخ تاج الدين صك الإجازة المكتوبة فيه سلسلة الطريق ابتداءً من سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم مروراً بعلي الكرار فسيد القوم الجنيد في سلسلة طويلة تنتهي بكلتوم بت الغراب. خرجت جموع المريدين من أنحاء الصعيد احتفاءً بها كأول امرأة في التاريخ تتولى زمام مشيخة الطريق، وحلف مقدم الطريقة وأتباعه أن يوصلوها حافين إلى أهلها في شمال السودان، فكان هذا سر النوبات والطبول والأعلام التي ملأت ساحة القرية في ذاك النهار.
بدأت بت الغراب في نشر الطريق وإرشاد المريدين والسالكين في طريق القوم، ولم تتخلى طوال عمرها الذي تلى، عن ثوبها الأسود المميز، وكانت لا تقبل الناس في طريقتها إلا بعد أن يمروا بسلسلة من الاختبارات المعقدة والمملة، وبالأخص أبناء أطفال وبنات القرية الذين صار أبناؤهم شباباً يافعين في ذلك الوقت، كانت تدخلهم في خلوة مليئة بالثعابين والعقارب، وتطلب منهم الصوم - حتى عن الكلام - لأشهر طويلة، في أغلب الأحيان كانوا يفرون منها قبل إتمامها. وقبل أن تموت بسنوات .. كانت قد أفرغت كل عقد النقص التي تراكمت في عقلها الباطن .. ولاقت ربها بعد ذلك راضيةً مرضية.