|
أقاليمٌ مُنجّمة 5
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2257 - 2008 / 4 / 20 - 09:03
المحور:
الادب والفن
في " أوغاريت " ، مرة اخرى . كان عليّ الإيابَ ، دونما إتمام إمتحاناتي ؛ أن أعودَ مثقلاً بالسأم والإحباط . فضلت المكوث فترة لدى أهل " فريدة " ؛ هيَ الفترة نفسها ، الهاربة من جوّ الدراسة في مسقط رأسي . وعلى ذلك ، إعتذرتُ ولا غرو عن عرض " بشير " ، مرافقته إلى منزل زملائه في " المشروع " ؛ أين سبق وقضى معظمَ شهر الإمتحان . كان على ثقة من ترفعه للسنة الثانية ، كيما يُحقق أمنيته في الإنتقال للعاصمة . وهيَ ذي " يسرى " ، تلج حجرة شقيقها في غروب اليوم ذاته ؛ هنا ، أين كنتُ متوّحداً مشمولَ الوجه بمنشفةٍ ، رطبة ، مُؤرّجة بعطر الاخرى ، الغريبة . ـ " عمّنا ، وإمرأته ، يدعوانكَ للعشاء " خاطبتني مُرسلة إليّ زرقة عينيها ، ما أن رفعتُ عن عينيّ حجابَ العتمة والعزلة . تابعتُ من ثمّ مضيّ قامتها الممشوقة ، الرشيقة ، إلى حيث كتبيّة الحائط . شئتُ مناكدة مزاجي ، العكر ، أكثرَ من محاولة إستفزاز الفتاة الوديعة ، حينما عقبتُ على إختيارها أحد الكتب ، متسائلاً : ـ " هل أنتِ مُغرَمة ـ كالفتيات الاخريات ، بهذا الثائر الوسيم ؟ " ـ " إنه شهيدٌ . ولم يكن نجماً سينمائياً ، على أيّ حال ، لكي يُغرم المرء به ! " ـ " لو كنتُ على معرفة بإهتمامك هذا ، لجلبتُ معي إحدى بوستراته التي تباع على أرصفة الشام " ـ " فكره الثوري هوَ ما يهمّني ويشدّني إليه ، لا صورته الجميلة " ، أكدتْ نبرتها المتماهية بالسخرية . من جهتي ، لزمتُ الصمت هنيهة تأمّل بحكاية الأفكار تلك ، المتوغلة في مسراب خرافتي ؛ من فتوحات " المُستخلف " إلى حلول " زكرَوَيه " .
ربما قدّر لي ، مجدداً ، الحلول ضيفاً في ملكوت المسوخ . كنتُ إذاً في الطريق الجبليّ ، الضيّق الوعر ، عبْرَ منطقة " الحفة " لزيارة قلعتها ، المشهورة . " بشير " ، رفيق الرحلة ، لم ينسَ التنويه بإشادة تاريخ " أبي الفداء " بالأثر الحربيّ هذا ؛ على أنه حصنٌ لا يُرام . ولكن ما كان يشغلني ، هوَ قلق ركوب الدراجة الناريّة ، التي بدا أنّ صديقي على دربةٍ بقيادتها ، شأن معظم شبّان الإقليم . وهيَ ذي " قلعة صلاح الدين " ، تبدو للنظر خلل شجيرات الوادي ، الصنوبريّة ، معتلية ً بمهابة قمّة جبل حالق ، مُشجّر بدوره . ممرّ عصيّ ، محفورٌ في الصخر الجلمود ، إستقبل أقدامنا الرخيّة ، متنقلاً بها رقية ً إثر رقية في الطريق نحوَ حصن الحصون ذاك . صخرة ٌ طولانيّة ، هائلة ، تناهضتْ من مركز الممرّ ، متوسّطة ً المساحة الفاصلة بين القلعة والجبل ، المقابل . ـ " ها هنا ، فوق الصخرة هذه ، كان جسرٌ عظيم يُتيح لحماة الحصن الإمداد والتموين ، خلال الحروب الصليبيّة ، المُطوّلة " ، قال مرافقي الفتى مشيراً إلى الجهة تلك . هاجرة تموز ، راحتْ تصبّ على رؤوسنا حممها ـ كمنجنيق الأيام تلك ، الآبدة . وكما سلفَ لنا توقعه ، كانت أفواج السيّاح الأجانب ، والخليجيين ، تتدفق على المكان دساكرَ فاتحين . ومعهم تمشينا في أرجاء الحصن ، المندثر العمران بمعظمه ، وبشكل أقلّ أبراجه المطلة على الوديان السحيقة . كانت حاجة المعدة المتطلبة ، علاوة على الجسد المنهك ، دافعنا لولوج خان ٍ ، تمّ تحويله لمطعم . كان المكانُ معتماً نوعاً ، ولكنه على جانبٍ من الرخاء في عمارته المرممة . فيما يدي تتناول شطائرَ اللحم المقدد ، البارد ، مع البيرة اللبنانيّة المثلجة ، كانت عيناي تعتادا الرؤية رويداً ، بفضل مصابيح على شكل مشاعل مزخرفة ، لطيفة الإنارة . ملتذاً برطوبة الجدار ، المداعبة ظهري المُتعرّق ، رحتُ مهوّماً في نعاس متثاقل ، مُجيلاً الطرف فيمن يحوطني من خلق . ثمة ، على الطاولة الحجرية المُحاذية لمجلسنا ، كان عددٌ من السياح ، الإفرنج ، يتحلقون حول دليلهم ، المترجم . هذا الأخير ، الذي بدا من ملامحه ولهجته أنه إبنٌ للإقليم الساحليّ الجبليّ ، كان قد دخل للتوّ في مجادلة ما ، تاريخيّة ، مع مواطن آخر ، كانت لهجته تشي بدورها بإنتماء حمويّ ، بيّن . ثمّ ما عتم " بشير " أن إستأذنهما في إستباحته النقاش الخافت النبرة ، والذي ما أسرع أن إنقلبَ إلى مجادلةٍ صخابة .
لا بدّ أنّ أمراً ما ، مُلغزاً ، قد جدّ في جلستنا هذه . ما كانت لهجة المجادل الحمويّ ، المرتفعة التوتر ، من سبّبَ حيرتي . ملابسه الحريريّة ، ذات التطاريز الموشاة بخيوط مذهّبة ، علاوة على عمامته الكبيرة المُختالة بريشة مُظفرة ؛ هذا الملبس الغريب ، ذكرني بصورة المهرّج في الأفلام التاريخيّة . ولكن هيَ ذي عيني ، بالدهشة عينها ، تتلقى مشهد الآخرين ، الذي لم يقلّ غرابة . أيقظني من حيرتي ، الطارئة ، ما كان من وقع قبضة ذي العمامة على الطاولة . فقلتُ ، أنه يرغب إستعراضَ نفسه أمام لمّة النسوة ، الشقراوات ، المتحلقات حول رجلهنّ الدليل . بلهجة فصيحة النذر ، خوطب هذا الأخير من لدن مُجادله : " كان عليكَ ، أولاً ، معرفة آداب الحوار ؛ خصوصاً في حضرة ممثل الأمير " ركن الدين " ، حاكم هذا الإقليم ونائب الملك الناصر ، أعزه الله " . ـ " هوَ سوء فهم بيننا ، لو سمحتَ لي . كما أنّ هدايا " البرنس " ، الذي أمثله بدوري ، كافية برهاناً على معرفتنا وتقديرنا لسليل آل " منكورس " ؛ هؤلاء الشجعان ، الممتدّ حكمهم من مدينة " حماة " الداخلية إلى حصن " بغراس " الساحلي " ، أجاب الدليل ، الإفرنجيّ ، مهدئاً ثورة الآخر . تشديدي على أصل الرجل ، الصليبيّ ، هوَ يقين رؤيتي لعلامة الكفر المعقودة بسلسال في عنقه . هذه الرؤيا ، جذبها من ثمّ مشهدُ مجادل آخر ، كان قابعاً على مقربة من مجلسي . كان الرجلُ ذا هيئةٍ ، غامضة ؛ بعينيه الحادتين ، المشتعل أوارهما خلل لثام وجهه القاتم ، الكتوم . وإلى الرجل الغامض هذا ، إتجهت إشارة يدِ ممثل سلطاننا الإلهيّ في الأرض ، في قوله للإفرنجيّ : " إعلموا إذاً أنّ هؤلاء الدعاة ، المُجدّفين ، همُ الأشدّ خطراً على مصالحنا ، المشتركة . ونحن نتوقع من مرشدهم متاعب أكثرَ جدّة ، خصوصاً إثرَ إنجازنا معاهدة السلام مع ملككم ، الشهم " . ثمّ أعقبَ قائلاً بلهجةٍ وديّة ، مبطنة بالتهديد : " أن تكفوا عن الإتصال بهؤلاء الكفرة ، الحشاشين ، سيكون في مصلحتكم أولاً . ولا أتكلم هنا عن شروط الصلح بيننا ، بقدر ما أريد جلب إنتباهكم لحقيقة ، أنّ هذه الدعوة إنما هيَ خطرٌ أكيدٌ ، داهمٌ ، على طرفيْنا " . في تلك اللحظة ، المتواترة بالجدل ، كانت قد حانت مني إلتفاتة إلى صاحب الخان ، الذي راح يُغادر موقفه الصامت ، المترقب ، مقترباً من موقفنا الصخاب . وضع من ثمّ على الطاولة قدحَيْن مُترعيْن بشرابٍ ما ، أصهبَ اللون ، وأقفل بعدئذٍ عائداً إلى سدّته . العتمة البهيمة ، إشتدّت في تلك الهنيهة ، وما عدتُ لأبصر حولي سوى الرجل الملثم ، الغامض ؛ هذا الما عتمَ أن راح يحدّق بي بعينه الوحيدة ، المُريعة البريق ، والمطبقة شيئاً فشيئاً على أنفاسي .
*** على حافة الشرفة إنحناءُ هامتي ، فيما العتمة ما تفتأ ، أزلاً ، منحنية على كياني . كمأخوذٍ ، أستنهضُ الجرأة فيّ ، متسائلاً ما إذا كان إبن الساحرة مسكوناً في الكثافة هذه . ولكن ، ليس ثمّة نأمة ، مهوّمة ، من حولي . مُتلهياً عن هواجسي ، رحتُ أتكلفُ قلقا على صديقي " موفق " ، المتأخر يوماً عن موعد إنتهاء إجازته ، الأسبوعيّة . سيارة مُسرعة ، مرّت لحظتئذٍ في الشارع الممتدّ تحت موقفي . تنفستُ إذ ذاك الصعداءَ بفضل ضوئها وضوضائها . جمجمة سعال ، قويّة ، إنبعثْ على الأثر من مكان ما في الأعالي . رفعتُ رأسي جهة َ السطح ، وكان مقفراً إلا من وميض نجمه . ثمّ ما لبث الرجلُ أن دلف بنفسه ، خلل باب الشقة ، إلى حيث حضرتي المشمولة بالعتمة . بلا تحيّة ، تناول كرسياً ومضى به نحو الركن القصيّ . ـ " لا بدّ أنه يهربُ برائحة جلده ، القذر " كنت أفكرُ على الأثر . نظرته على كلّ حال ، وهوَ هناك في مكانه النائي ، متململٌ ربما من تسلط أضواء الشرفات الاخرى ، الجارة ، على جهامته . ولكنه إستعادَ خصلة اللا مبالاة ، المتأثلة بطبعه ، حينما أنشأ يقول لي : " أبصرتكَ في الجبل ... " . ثمّ تطلع ناحية نجمه ، المُلهم ، مستطرداً : " وأنارَ الربّ بصيرتكَ ، فأبصرتني بدوركَ " . واصلتُ تأمله بصمت ، غيرَ عابئ بتجلياته . بيْدَ أنه شاء على ما يبدو إثارتي ، بالقول : ـ " أنت إذاً تماشي ذلك الفتى ، المتهوّر ؟ " ـ " خبرني أنتَ ، ماذا تأخذ عليه إلا كونه شقيقَ المرأة ، التي هجرتكَ ؟ " ـ " أنا لا تهمني بعدُ ، أيّ إمرأة ! " ، قالها بغضب . ثمّ سكتَ لبرهة ، قبل أن يردف مُستعيداً نبرته المُستفزة : " ولا يعنيني ، أيضاً ، محاولتكَ إغواء الاخرى .. ! " .
ضربته تلك ، وقعتْ بقسوة على قلبي ـ كمطرقة خرافيّة . فوجدتني أتهيأ لمقارعته بالقول : ـ " إسمعني ، يا " زين " ، جيّداً ... " ـ " لا أريدُ سماع هذا الإسم " ، قاطعني بتحدّ مستثار . فعدتُ أقول له : ـ " إسمعني ، " زكرويه " ... " ـ " حسنٌ ! " ـ " أنا أيضاً لا تعنيني معميّاتكَ . ولكن إعلم أنكَ تضيّع وقتكَ عبثا في تعقبي " ـ " ولم تعتقد أنني أهتمّ بذلك ؟ " ـ " أسلوب المراوغة لا أحبّذه ، فلتتكلم معي بصراحة " ـ " فلنقل ، إذاً ، أنّ إرادة ربانيّة شاءت توحيدَ مصيرَيْنا " ـ " عُدنا إلى الألغاز ؟ " ـ " يجوز أن يكملَ إنسانٌ أخاه ، كما الخير والشرّ في عقيدة الكون " كان يتكلم الآن بمقدار كبير من الإلفة ، على غير مألوفه . وبالنبرة تلك ، واصلَ دونما سماع جوابي : " مكتوبٌ أننا على سَفر ، لا نريم حتى يفنى أحدنا فيلحقه الآخر " . وفي زمن تال ، كان عليّ أن أستعيد حوارنا هذا ؛ عليّ كان أن أقرأ عندئذٍ تلك الرسالة ، المُنذِرة ، التي وصلتْ لجدّنا ، الأول ، من طرفِ الإسماعيليّ المُخيف ، المدعو " شيخ الجبل " . ولكنني في الجلسة الليلية هذه ، ما كنتُ مُهيئاً لأيّ تجديفٍ أو شطح . وعلى ذلك ، قلتُ لمُحدّثي مُحاولاً الهربَ من المجادلة : ـ " ولكن لا تنسَ تجاهلكَ لي ، في مستهل تعارفنا ؟ " ـ " أرسِلتْ على بصرنا غمامة ٌ ، تختبرني وتختبركَ " ـ " إننا ، على أيّ حال ، في طريقيْن مختلفيْن ، " زكرويه " .. " ـ " ولكنّ سَفرَنا واحدٌ ، " شيركويه " ! "
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أقاليمٌ مُنجّمة 4
-
كما كبريتكِ الأحمَر ، كما سَيفكِ الرومانيّ
-
أقاليمٌ مُنجّمة 3
-
أقاليمٌ مُنجّمة 2
-
آية إشراق لنبيّ غارب ٍ
-
أقاليمٌ مُنجّمة *
-
مَناسكٌ نرجسيّة 6
-
سطوٌ على المنزل الأول
-
مَناسكً نرجسيّة 5
-
القبلة المنقذة في فيلم للأطفال
-
مَناسكٌ نرجسيّة 4
-
من جسر ثورا إلى عين الخضرة
-
مَناسكٌ نرجسيّة 3
-
مَناسكٌ نرجسيّة 2
-
مَناسكٌ نرجسيّة *
-
دعاء الكروان : تحفة الفن السابع
-
ميرَاثٌ مَلعون 5
-
ميرَاثٌ مَلعون 4
-
ذهبٌ لأبوابها
-
ميرَاثٌ مَلعون 3
المزيد.....
-
أساطير الموسيقى الحديثة.. من أفضل نجوم الغناء في القرن الـ21
...
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|