لا محالة أن كل متابعة نقدية لما يطرحه الخطاب الديني في شقه المعاصر من مضامين معرفية ستجعلنا نصادف كثيرا من المغالطات والأوهام التي تحكمها رؤية تنبني على الإقصاء والرفض وتؤسس لثقافة الحقد والكراهية، إذ تضع الآخر دائما موضع اتهام مقابل تبرئة الذات والإدعاء بصفاء ونقاء سريرتها. هكذا يتم الترويج وبغرض الخلط والتشويش لأفكار توهم الناس بأن الحداثة - على سبيل المثال لا الحصر- هي في نهاية الأمر تحلل من كل التزام أخلاقي وهي تنصل من كل ضابط قيمي، إذ هي عبث ومجون أو شذوذ حتى...إن هذا الادعاء المبني على الافتراء والكذب والذي تحكمه منطلقات ثقافية تقليدية بائدة يتوخى خلق ذهنية ثبوتية طيعة يسهل استمالتها الشيء الذي يحقق مكاسب ليست بالضرورة مادية فقط لحاملي ذلك الخطاب.
ولاغرو أن مثل هذا الإدعاء تحدده خلفيات إيديولوجية تنتهي إلى اعتبار أن كل ترسيم لمختلف البنيات الحداثية وكل تكريس للغة العقل وإنتاجاته هو بمثابة إيذان بنهاية تصورات وممارسات ماضوية ومن تم انحصار دور الشيخ السلفي باعتباره حاملا لها. والأكيد أن الصراع في مستواه الإيديولوجي يبقى حتميا، لكن الذي لا نفهمه هو مبرر تلك المغالطات التي يروج لها حاملو الخطاب الديني المعاصر. إن التأويل الإسلاموي لمعنى الحداثة وما تحيل عليه من عقلنة لأسلوب الحياة ينبغي التصدي له ولو نظريا قصد فضح تلك الادعاءات المغرضة والتي توهم الكثيرين منا بأن السياق الحداثي هو الوقوع في منزلق قيمي خطير يمس وحدة الكيان الإجتماعي ويهدد تماسكه، إذ هو إلغاء للتاريخ وللحضارة.
ويتم إفهام المتلقي بأن قيم الحداثة هي مدخل لامحالة لمجال العبث والمجون وإحالة على كل ما هو رديف للاعقل....يسهل إذن ونتيجة هذا الخلط المتعمد بين الحداثة وبين ما بعد الحداثة بين العقل واللاعقل استعداء الناس وإثارتهم ضد النزعة العقلانية ومختلف تمظهراتها. لكن لماذا هذا الرفض لإبداعات العقل وإنتاجاته، ولماذا كل هذا الإزدراء لمختلف إفرازاته من قبل أنصار الخطاب الديني المعاصر؟ ألأن أسس الحداثة هي في واقع الأمر هدم وتعارض مع كل أشكال الوصاية وعلاقات التراتبية بين الناس؟ وهو هدف يطمح إليه - وبقوة - الشيخ أو الداعية السلفي مع أنه يدعي نبذ ذلك وعدم القبول به. لكن القارئ الناقد لجل مايروج له الخطاب الديني المعاصر من حقائق يتبين له مدى السعي الحثيث من قبل تلك الشخصية لأن تتأسس العلاقة بين الناس كعلاقة بين شيخ عارف وبين أتباع مريدين، بين أناس توهموا أنهم ارتفعوا إلى درجة القديسين والملائكة.. وبين من هم أحط وأقل شأنا، إذ هم في حاجة إلى من يكون وصيا عليهم. وفعل الوصاية هذا وما يستتبعه من استبعاد يبقى لحظة مرغوب فيها إذ هي تكريس لحضور الذات - ذات الشيخ.. - واعتراف أو إقرار بها على اعتبار أنها ظلت متلاشية فاقدة للاعتراف تعيش على الهامش في وقت سابق. وممارسة فعل الوصاية يكون مقرونا بالتأكيد - ضرورة - على امتلاك المعرفة ومثل هذا الإدعاء من قبل الشيخ يحقق في النهاية وبيسر ذلك الاعتراف المرغوب فيه مادام المتلقي أو المخاطب يبقى أميا أو جاهلا مفتقدا لكل حس نقدي. إن تلك الرغبة تكشف عن حالة قد تصل مستوى مرضيا، إذ تروم الاستعلاء وخلق تراتبية وتمايز بين الناس عبر تأسيس علاقة بينهم تؤطرها ثنائية الشيخ والمريد كعلاقة تبقى ضرورية لتحقيق النجاة والفوز بالنعيم . وهي علاقة لاشك تكفلت مختلف المذاهب العقلانية والحداثية بفضحها وتبيان منزلقاتها، من خلال التأكيد على ضرورة تكريس النزعة الإنسانية كنزعة تؤسس للمساواة والحرية. وهنا يكمن أحد مبررات العداء لكل ما هو حداثي وتنويري، هذا الذي لا يسمح في النهاية إلا بتأسيس علاقة اعتراف متبادلة قائمة على الحوار، هو ما لا يرغبه الشيخ أو »الأمير« أو الداعية الذي نصب نفسه كعارف مطلق أو وصي مصلح يقيم تواصله مع الآخرين على أساس الإمتثال والطاعة فيكون ما يقوله وما يصدره من أحكام هي الحقيقة عينها أو المعرفة التي لا ترقى إلى شك، وكأن الناس لاحق لهم في المعرفة أو في إنتاجها أو إبداعها، كيف لا وهو الذي أفتى بأن كل بدعة ضلالة، ومن تم فمعرفة العالم وأسراره تمر عبر ما يروج له من مضامين معرفية متهالكة وكأنه العارف والكاشف للأسرار. إن الحداثة وبخلاف استراتيجية الشيخ تقوم على فضح كل ادعاء بامتلاك المعرفة، إذ هي إنتاج بشري بامتياز لا تعطى ولا يختص بها البعض وأنها لا تودع فيه. إن انتشار المعرفة وشيوعها والقدرة على ابداعها سيسمح بخلق مسافات نقدية بين الناس تحررهم من كل وصاية أو استيلاب حيث يتحدد الإنسان ككائن عاقل. وهو ما يناقض طموح الشيخ أو السلفي وما يبغيه، وهذا ما يدفعه إلى تقديم صورة مختلقة عن الحداثة وعن القيم العقلانية مع أنها قيم تروم في النهاية تأكيد انسانية الإنسان وتساميه وهو مالا يرتضيه الداعية السلفي الذي يبغي الانتقاص من قيمة ذلك الكائن، إذ يجعل منه عبدا على الدوام أو كائنا طيعا يمكن تطويع أفكاره وأفعاله. والواقع أن الحداثة هي الشرط المؤسس لإنسانية الإنسان، وهي الشرط الحقيقي الذي يعطي لهذا الأخير إمكانية أن يطل على العالم بواقعية ومعقولية أكبر. إذ تمد ذلك الكائن بإمكانيات مثلى للعيش تمنحه إيمانا أكبر بالحياة كتجاوز للموت وللفناء أو العدم والإقبال على الحياة بتفاؤل وبفعالية، إذ ينطلق من توظيف إمكانات الوعي لديه كإمكانات تحرره من كل أشكال الوصاية والإستعباد ليتحدد
كسيد على ذاته وعلى الطبيعة. إن الإنفلات من كل إشكال الوصاية هي اللحظة التي ضمنها ينكسر طموح السلفي والداعية والذي يستهدف خلق تفاوت وتمايز بين الناس على اعتبار أن البعض منهم هم أشراف أو أخيار يتمتعون بمواصفات يفتقدها الآخرون ومن تم جواز وصايتهم على الناس، والشيخ وغيره من الأصوليين يقدم ذاته على أنه واحد من هؤلاء الأخيار الذين ينبغي اتباعهم أو الإنصات إليهم وإلا كان المآل كارثيا. وحتى يتسنى ذلك لابد من الإبقاء على المتلقي أو المريد كشخص عديم التفكير مستهلك لخطاب متهالك متخم بالوهم والدجل، ويعتقد بأن كل انفتاح على ما ينتجه الآخر المخالف يعد إثما أو خطيئة كبرى، إذ يطل على العالم من زاوية حلال حرام. إن الشيخ هنا يوظف آلية التحريم كآلية ناجعة تمكنه من جعل المريد ممتثلا منقادا حيث تسعفه في التسلط رمزيا عليه. ثم ألا ينطوي هذا الإلحاح من قبل الشيخ ورجل الدين عموما على تأسيس التواصل بين الأفراد على قاعدة تؤطرها ثنائية الشيخ والمريد على رغبة ذاتية دفينة تبحث عن إعادة الإعتبار إلى ذاته أو الإقرار بها على أساس أنها ذات ظلت مقصية تعيش على الهامش.
وتكون لحظة الوعظ والإرشاد هي اللحظة المواتية لمعانقتها، وكأن ذلك لا يتم إلا عبر مصادرة الوعي وتسييج القدرة على التفكير لدى الآخرين أي عبر الوصاية عليهم. والأكيد أن فعل الوصاية هو احتقار للآخر وتبخيس لقيمته وهو في نفس الوقع إعادة الإعتبار للذات التي تمارس ذلك الفعل كذات ظلت منكسرة ومهزومة ومنحها من تم صفات التميز والإستعلاء. وحتى يتحقق ذلك كان لابد من تحريم لغة العقل وما تحيل عليه، بل إن ذلك الأمر يدفع السلفي إلى الإلتجاء إلى آلية التضليل والخلط، حيث يخلط في أحد المستويات بين الحداثة كالإلتزام ومسؤولية أخلاقية وبين ما بعد الحداثة باعتبارها تحيل على العبث والجنون... إن هذا الرفض للحداثة وللغة العقل من قبل الأصولي هو بحث عن وضع آمن يوفر له حظوة ومكاسب... إذ يعلم جيدا أن باستدخال مبادئ العقل سيكون مدخلا لإعادة النظر في وضعه ذاك، فمن أجل إدامة ذلك الشكل العلائقي غير المتكافئ بينه وبين مريديه يلجأ إلى الإتكاء على آلية التكفير لمناهضة خصومه الحداثيين، إذ يلجأ إلى تأويل معطيات النص الديني اعتمادا على رمزيته كشيخ تأويلا يجعله في منأى عن كل مسائلة أو نقد.
وفي إدامة ذلك الإمتياز وتلك الحظوة يضمن الشيخ الأصولي توازنه النفسي الذي افتقده وهو على الهامش..إنها الذات التي تلاقي الإعتراف نتيجة ممارسة فعل الوصاية على الناس وهي لن تفرط في ذلك حتى وإن تطلب الأمر شرعنة القتل، قتل كل من حاول خلخلة تلك العلاقة أو المعادلة التي ينجزها السلفي مع أتباعه ومريديه. فنحن أمام استثمار وفق رهانات ذاتية إذن. وما يخشاه الأصولي حقا هي عملية استدخال العقل - لمختلف مناحي الحياة - باعتباره الأقدر على خلخلة تلك العلاقة التي تضفي على ذات الشيخ هالة من التميز والتقديس. حيث يعلم أن من خصائص العقل طرح السؤال والعمل به، ومن شأن ذلك إعادة ترتيب العلاقات بين الناس على أساس المساواة والإعتراف المتبادل، وهو ما لا يخدم مصالح الشيخ وطموحاته الذاتية. هاته التي تدفعه إلى توظيف آلية التضيل والخلط، إذ يرسم صورة مفتعلة ومتخيلة عن الحداثة محددا إياها بأنها اعتداء على الهوية ومس بالإنتماء الثقافي والحضاري...وهو ما يسهل تصديقه من قبل متلق ساذج اعتقد أن لغة العقل - دون دراية - هي لغة كفر وإلحاد. وما يعزز موقف السلفي من الحداثة ويبرره هو تملكه لرأسمال رمزي قوي استمده من الإنشغال، بالمقدس والترويج لمضامينه المعرفية.
والأكيد أن هذا الموقف سيتقوى ويهيمن إيديولوجيا كلما انخرط السلفي في الحقل السياسي أو اقتحمه، إذ تستثمر معطيات النص قنوات أخرى وتستخدم آليات وأساليب مغايرة لما كانت ستعرفها لو بقيت حبيسة الحقل الديني. استنادا إلى ماسبق نقول إن الأصولي وهو يعيد اكتشاف المرجعية الدينية يعثر وعبر عملية التأويل التي ينجزها على وجه آخر للحقيقة والذي يمده بسلطة على الأشياء وعلى العالم والآخرين وهو ما يثبت أناه وتميزه. هي امكانية متاحة لتأكيد الذات وتميزها عبر عملية »الحفر« في المعرفة التي تتيحها النصوص المقدسة. وكلما ازدادت معرفته واكتشافه كلما تقوت سلطته واعتقد الآخرون بقدرته على امتلاك الحقيقة، فنكون أمام تضخم للذات إزاء الآخر الشئ الذي يتيح لتلك الذات - التي عثرت على اناها لحظة عملية التأويل تلك - أن تنسج علاقة وصاية مع المتلقي، إذ يتحدد هذا الأخير بالنسبة لها كتابع ومريد يجوز توظيفه أو استعماله. وعملية البيعة التي تتم بين الطرفين تدل على هذا الأمر. إن مثل هذه الوضعية التي تخدم النزوع الأناني للشيخ والأصولي لا يمكن التفريط فيها أو التنازل عنها، لذا يكون من الضروري الإلتجاء إلى آلية المغالطة والتضليل ضد العقل وتجلياته أساسا باعتباره الإمكانية المثلى التي تعيد ترتيب العلاقة بين الناس، إذ تفضح أسلوب »التواصل« الذي يقيمه الشيخ العارف / الأصولي أو الممتلك للحقيقة، وترسخ مكانه أسلوبا بديلا قائما على الحوار، وهو ما يخلق معادلة جديدة قوامها المساواة والاعتراف المتبادل بعيدا عن كل أشكال الوصاية أو الإتباع الذي يصادر حرية الإنسان ومن تم إنسانيته وهو ما تنتقده قيم الحداثة وتعارضه لغة العقل، الذي يؤسس فعل الإنسان وسلوكه وفق ضوابط أخلاقية سامية ونبيلة تتجاوز أخلاق الطاعة والإمتثال، فقيم الحداثة هي النقيض العملي للقيم التي تميل إلى العنف والتسلط، إذ تروم تملك الآخر وتنفيه في بعض الأحيان.
باحث من الاردن