مهما قيل من كلام في ماضي الرئيس بوتين كضابط في الاستخبارات السوفياتية سابقاً فهو يبقى في الحقيقة ديموقراطياً بكل معنى الكلمة ما دام لا يتعاطى وحسب مع زعماء الكتل النيابية وأعضاء الحكومة وممثليه في الدوائر الفدرالية وكبار رجال الأعمال، بل أيضا مع أبناء الشعب وجماهيره العريضة من الذين يهاتفونه أو يكاتبونه عبر الإنترنت أو يسائلونه كرئيس للدولة من خلال وسائل الجسر التلفزيوني مباشرة. وقد لفت بوتين منذ بداية "تحدثه إلى الشعب" إلى أنه ليس مرتبكا ما دام لا يكذب على الناس ولا يعدهم بما ليس ممكناً. فهل الأمر كذلك يا ترى؟ يمكن أن نقول في آن: نعم ولا. فبوتين لا يعد فعلا بشيء غير ممكن التحقيق مثلما فعل سلفه يلتسين الذي أقسم أن يلقي بنفسه على سكة الحديد إذا ما ارتفعت الأسعار في عهده، غير أنه وإن لم يكذب مباشرة فهو خدع شعبه في نهاية المطاف. ففي معرض رده على الأسئلة التي، كما هو واضح، أعدت وانتقيت مسبقاً قال بوتين الكثير ولكنه لم يقل الحقيقة كاملة، ولم يجب عن الأمر الأهم في الموضوع شارحاً بعض التفاصيل ونائياً عن الجوهر.
مثلا تشكى أحد عمال المناجم للرئيس من أنه يسكن في بيت يكاد ينهار على ساكنيه، وهو لا قدرة له على شراء بيت جديد، فما العمل؟ فأجاب الرئيس الذي نمّ جوابه عن اطلاع جيد على المسألة حين تذكر "عن ظهر قلب" أن في روسيا حاليا مساحة 89 مليون متر مربع من المساكن التي يتهددها الانهيار، بأن الحل في القروض السكنية مقابل الرهن. فبرأيه أن عامل المنجم الناجح الذي يتقاضى شهريا على عمله المضني حوالي الـ400 دولار أميركي سيمكنه أن يحصل على قرض لشراء مسكن له، علماً انه سيكون عليه أن يحرم نفسه من كل شيء مدى 15 سنة فيصبح مرتهنا للبنك عبداً له. غير أن بوتين ما لبث أن اعترف بأن منح البنوك السكان قروضاً سكنية مقابل رهن لن يضحي ممكناً قبل اتخاذ قوانين تسمح بطرد من اشترى مسكناً جديدا من مسكنه إذا ما أضحى بين ليلة وضحاها غير قادر على مواصلة دفع الأقساط المترتبة عليه لقاء حصوله على المسكن. فلن يعطيك أحد قرضاً سكنياً إذا لم يكن ممكناً إخراجك إلى الشارع من بيتك عندما أصبحت لسبب ما غير قادر على أن تسدد القرض. وهكذا قد ينتهي شراء العامل الذي يتقاضى جيدا اليوم شقة جديدة نهاية غير حميدة، إذ لا أحد يعرف كيف ستتغير أحوال السوق غدا وكم ستخفض هذه الأجرة المرتفعة.
من الواضح أن السماح بإخراج الناس من بيوتهم إلى الشارع سيجعل عدد الهائمين في الشوارع من العائلات أكثر من عدد المنتقلين إلى شقق جديدة. هذا ما لم يقل بوتين عنه شيئا طبعاً. فعن أية قروض سكنية مقابل رهن يمكن التحدث في بلدٍ الأجر الوسطي فيه 170 دولاراً. فمن سيعطي فقيراً قرضاً سكنياً يا ترى؟ المرجح بعد إقرار الدوما، بطلب من الرئيس المهتم جدا بالقروض السكنية مقابل الرهن، قوانين تتيح طرد الناس من بيوتهم، هو أن يبدأ طرد الفقراء من بيوتهم التي حصلوا عليها في ظل الاشتراكية عقابا لهم على ديون تراكمت عليهم. هكذا سيكون حل مشكلة الإسكان على طريقة بوتين!! فالرئيس هنا لم يكذب: الرهن يحتاج إلى قوانين تتيح طرد المتخلفين عن الدفع إلى الشارع حقاً. غير أن ما نسي الرئيس أن يقوله هو أن الرهن ليس حلا للجميع. فقد تستفيد منه شريحة رقيقة جدا من الطبقة الوسطى في المدن الكبرى ومن العمال ذوي الأجور المرتفعة. أما القسم الأعظم من السكان فسيبقى من دون شقة جديدة، ولربما بات أيضا بفضل القوانين الجديدة خارج شقته العتيقة. فالرأسمالية هي الرأسمالية، لا ترحم ولا تهمع من عينيها دمعة. هذه هي عدالتها مهما كانت جافية. والرئيس بوتين هنا لم يقل الحقيقة كاملة حين لم يذكر أن أية قروض مرهونة لن تنقذ نصف سكان روسيا إن لم نقل أكثر ممن حكمت عليهم الرأسمالية بالعيش في أكواخ جديبة. فقد ظهرت منذ الآن أحياء للأغنياء، وأخرى للفقراء البائسين لن تجد فيها سوى الوسخ والقمامة والروائح الكريهة والبيوت شبه المهدمة والسكر والمخدرات والبغاء والشقاء واليأس والبؤس. الرأسمالية بحاجة إلى أيد عاملة رخيصة، ولذا لا مناص من اكتظاظ سكاني حيث تعيش بضع عيال في غرفة واحدة. وإننا لنرى في موسكو العاصمة هذا منذ زمن حيث يعيش العمال الوافدون مثل هذه العيشة. وأية قروض مرهونة هنا لن تنقذ حالهم.
لم يلفت الرئيس أيضا إلى الأمر الأهم عندما تكلم عن الإصلاحات المزمعة في مجال دفع المعاش التقاعدي لجهة اعتماد مبدإ التراكمية. فهو يرى فيها كل العدل والإنصاف: كلما كان أجرك أكبر كان معاشك التقاعدي أكبر، لا كما كان في الاتحاد السوفياتي: مساواة مطلقة!!
إن نظام المعاشات التقاعدية الذي يكفل للمرء شيخوخة كريمة غير ممكن إلا في ظل الاشتراكية، في مجتمع التضامن فيما بين الناس جميعا، حيث يكون الجيل العامل حاليا مسؤولا عن الذين سبقوه إلى العمل وما عاد بوسعهم الآن فعل ذلك، فباتوا عالة على المجتمع ويحق له أن يرذلهم وينبذهم.
ورداً على سؤال عما إذا كان العراق سيستحيل فيتنام ثانية بالنسبة إلى الأميركيين قال بوتين الحريص كل الحرص على رضى المجتمع الغربي الراقي عنه "إننا حريصون على ألا تهزم الولايات المتحدة". وإننا نقول له من دون مزاح إن محكمة لاهاي تنتظره مهما كان لطيفاً ومتقناً للغات. فبوتين لن تغفَر له ذنوبه في ما يتعلق بقضية شركة "يوكوس" النفطية واعتقال صاحبها الأوليغارشي خودوركوفسكي والصراع مع الأوروبيين من أجل منطقة كالينينغراد ودحر الانفصاليين الشيشان وكل العصابات في القوقاز وعدم الرغبة في إخضاع اقتصاد روسيا لمنظمة التجارة العالمية خلال عملية التفاوض بغية الانضمام إليها وإنشاء معاهدة الأمن الجماعي والمجال الاقتصادي الموحد مع عدد من الجمهوريات السوفياتية سابقاً وإقامة الدولة الاتحادية مع بيلوروسيا ومحاولة انتهاج سياسة قومية روسية في جمهوريات رابطة الدول المستقلة والتعاون مع إيران وهلم جراً. وليس لبوتين طبعا ألا يعلم بما تهيئه الإمبريالية الغربية من مصير لروسيا. فتوسيع رقعة الحلف الأطلسي وإنشاء منظومة الدفاع القومية الأميركية ضد الصواريخ ودعم الانفصاليين الذين ارتكبوا أعمالا إرهابية رهيبة في روسيا وإعداد هذه الأعمال الإرهابية إعدادا مباشراً مثلما حدث في المركز المسرحي "نورد أوست" في موسكو وعقد المؤتمر الانفصالي الشيشاني في كوبنهاغن بالتوازي مع القيام بالعمل الإرهابي في هذا المركز، وهو ما لم يكن مجرد صدفة لا دخل للاستخبارات الإمبريالية في إعداده، وليّ الأيدي في مجال الاقتصاد بغية السيطرة على المقدرات الروسية، هي أمور تظهر بجلاء أن روسيا مرشحة لأن تكون في مكان يوغوسلافيا أو إيران لاحقاً. ولن يسع الرأسماليين الروس أن يتفقوا مع الغرب على إمكان أن تتطور روسيا تطورا مستقلاً. فكل تاريخ الإمبريالية يظهر أن الغرب سوف يطالب بالمزيد والمزيد من التنازلات حتى يحشر ضحيته في الزاوية ليقضي عليها القضاء التام.
لأيام خلت اضطر عالم السياسة الأميركي المعروف والخبير في الشؤون الروسية رئيس مؤسسة نيكسون السيد دميتري سايمس في مقابلة مسهبة مع إحدى قنوات التلفزة الروسية إلى الإقرار بأن ثمة انعطافا في سياسة واشنطن تجاه روسيا من سبيل التعاون معها إلى الصراع ضد النظام الروسي الحالي. والكل يعلم أن هذا "التعاون" كان مرده إلى أن الولايات المتحدة احتاجت بالأمس إلى تثبيت أقدامها في أسيا الوسطى وأفغانستان فتظاهرت بصداقتها لروسيا وجعلتها تعلل نفسها بأمل أن تكون الشريك الأصغر للإمبريالية الأميركية. غير أن روسيا لا مكان لها كشريك عند الولايات المتحدة. روسيا الهائلة الثروات الطبيعية لا يمكن إلا أن تكون الضحية. فأن تكون روسيا بلدا ضعيفا اقتصادياً ويهيمن في الوقت نفسه على ثروات طبيعية هائلة إن هو إلا تناقض مميت بالنسبة إليها. لا يمكن لروسيا أن تكون حليفة للإمبريالية الغربية، إذ ساعتئذ من سيكون الضحية. فهل يظنّنّ أحدهم أن الإمبريالية الغربية ستوافق في نهاية المطاف على أن تكون الثروات الطبيعية الروسية ملكاً للدولة الروسية؟ هذا الأمر لا يمكنه أن يحدث أصلا.
ومن جديد نقول إن روسيا ليس يحميها وينقذها من العبودية غير الشيوعية، غير الثورة العالمية التي تقضي على الرأسمالية في كل أرجاء المعمورة. فالإمبرياليون لن توقفهم عند حدهم لا الطائرات ولا الصواريخ التي عندهم منها الكثير، ومن الأسلحة الأمضى أكثر. ما يمكنه أن يوقفهم عند حدهم وأن ينتصر عليهم هو فقط ثورة شعوب العالم عليهم: الإضرابات والاعتصامات والمتاريس في الشوارع والتظاهرات والمجالس (السوفياتات) العمالية وقرار العمال أخذ السلطة في أيديهم لكي يقضى مرة واحدة على جرائم الرأسمالية.
والآن بعد مجيء عناصر الرأسمالية الوطنية (الوسط) إلى الدوما بأغلبية ساحقة وهزيمة اليمين المتمثل في اتحاد القوى اليمينية وفي "يابلوكو" ويسار الوسط المتمثل في الحزب الشيوعي الروسي، ستبدأ المعركة مشرعة على مصاريعها. والسؤال هو إلام ستنتهي، وبأي قدر من الشدة سينخرط الغرب في الصراع مع نظام بوتين وهل سيستطيع الشيوعيون أن يلعبوا دورهم في هذه المعركة وأن يصبحوا قوة مستقلة ذات شأن؟
لقد بدأ بوتين بـ"حواره مع الشعب" قبيل رأس السنة الجديدة حملته الانتخابية الرئاسية. وسيكون على الشيوعيين أن يرسموا قريبا جدا موقفهم من هذه الحملة.
وإن أفضل صيغة هنا هي ترشيح زعيم حزب العمال الشيوعي الروسي حزب الشيوعيين الروسي نائب الدوما الحالي فيكتور تولكين. مفهوم أن لا حظ له الآن بالفوز. ولكن سيكون ممكنا أن تعود معه إلى السياسة الكبرى الشيوعية الراديكالية. المهم في الأمر أن يُخلق مركز لتوحيد القوى الثورية حول برنامج ثوري حقا. مرشح كهذا يمكنه أن يطرح على المجتمع بديلا فعليا لنظام بوتين، خلافا للرأسمالية القومية التي يحملها المرشح المحتمل غلازييف و"للديموقراطية الكولونيالية" بحماية إمبريالية غربية كما يريد تشوبايص ويفلينسكي وجزء من "الشيوعيين الجدد" الرأسماليين الذين جاؤوا إلى الحزب الشيوعي الروسي من شركة "يوكوس" وغيرها من الشركات.
وإذا لم نتمكن كشيوعيين راديكاليين من أن نرشح ممثلنا، وكذلك في حال ترشيح زوغانوف أو سيميغين أو غلازييف كبديل يساري وطني عن بوتين، فإني أرى فائدة في الدعوة إلى التصويت "ضد الجميع"، وهو ما لن يكون مثابة مقاطعة، بل سيكون استنتاجا لحقيقة بينة هي أن لا مرشح لنا بين هؤلاء القوم.