*ينهي شارون العام الاول لحكومته دون قلاقل، ولكن جميع المعطيات تؤكد ان امامه عاما آخر من الهدوء في حكومته *الامكانية الجديّة لتفجير حوار سياسي في الشارع الاسرائيلي كانت تكمن في وثيقة جنيف، ولكن بيلين، وكما هو متوقع، حوّلها الى مشروع حزبي *اليمين المتطرف ليس قلقا بشأن تصريحات شارون لانه يعرف الحقيقة *وسلامة كتلة "شينوي" مرتبطة بالجمود السياسي الذي يخدم وحدة الحركة الهشّة* الحزب الجديد "ياحد" جديده في الاسم فقط، وهذا ما سيطمئن حزب "العمل"*
ينهي رئيس الحكومة الاسرائيلية اريئيل شارون العام 2003 دون قلق على مصير حكومته، على الاقل في العام الجديد 2004، وعلى الاغلب لسنوات أكثر، فهو يعلم ان حكومته تسير على جسر مطاطي متحرك، ولكنه شديد الاحكام قد يضمن له الوصول الى العام 2007 وهو على كرسي رئاسة حكومته.
لقد اجتاز شارون خلال آخر اسبوعين من العام المنتهي 2003 امتحانين، الاول داخلي جدا، ويتعلق بحل وزارة الاديان، التي كان من الممكن ان تفجر ائتلافه الذي يجمع حزب "شينوي"، الذي يصر على رفع راية العلمانية، وحزب "المفدال" المتدين اليميني، ولم تستطع اي من الحكومتين السابقتين، حكومة ايهود براك وحكومة شارون الاولى، انجاز هذه المهمة بسبب التركيبة البرلمانية المعقدة التي كانت تميل لصالح الاحزاب الدينية المتشددة.
والامتحان الثاني هو رفع التوتر الامني الى درجات عليا تبعده عن الحديث عن المفاوضات السياسية، وهذا ما سعى لاجله شارون طيلة الوقت، وهو الآن وامام الساحة الاسرائيلية الداخلية، سيتستر وراء عملية بيتح تكفا الأخيرة، على الرغم من انه لم يكف طيلة اشهر طويلة عن قتل الفلسطينيين يوميا.
هذان الامتحانان يضمنان لحكومته الحالية مواصلة عملها لفترة اطول دون الحاجة للبحث عن شركاء جدد من حزب "العمل" (المحسوب على اليسار الصهيوني)، بدل "المفدال" و"يسرائيل بيتينو- ايحود ليئومي" (اليمين المتطرف)، أو لدى "شاس" و"يهدوت هتوراة" (الحزبان المتدينان المتشددان) بدل "شينوي" (الحركة العلمانية المتشددة).
والأمر الآخر الذي سيرتاح له شارون هو ابعاد "وثيقة جنيف" عن ساحة الجدل الداخلي في اسرائيل، بعد ان اثبت المبادر للوثيقة، يوسي بيلين، ما كان معروفا منذ عامين، انه يريد هذه الوثيقة لغايات حزبية خاصة به ويريدها خشبة قفز لتولي زعامة الحزب الجديد "ياحد"، وهذا ما يقود الى الخلافات الداخلية الجارية بين الاوساط الاسرائيلية التي شاركت في اعداد هذه الوثيقة.
انعكاس المبادرات السياسية على الحلبة الحزبية
كان الدفع بعدة مبادرات سياسية "سلامية" خلال الاسبوعين الاوليين من الشهر الاخير في العام المنتهي اشبه بهزة ارضية كبيرة كادت ان تقع، وظهرت في النهاية وكأنها بضع رجّات لم يشعر بها "مقياس الاحزاب الاسرائيلية" ولم يسجل لها درجات.
أقوى هذه المبادرات كانت بالطبع ما اصطلح على تسميتها "وثيقة جنيف"، لما رافقها من حملة اعلامية عالمية، ثم مبادرة حزب "العمل" الشبيهة بدرجة كبيرة جدا بـ "وثيقة جنيف" من حيث الجوهر، ثم تهديدات شارون بما اصطلح على تسميته "فك الارتباط مع الفلسطينيين من جانب واحد"، وهي ما اعتبرها البعض القليل مبادرة سياسية للرد على المبادرات السياسية والضغوط الخارجية!!.
لو استمر الجدل السياسي، الذي كان لبضعة ايام، في اسرائيل حول "وثيقة جنيف"، ونجح المبادرون في خلق اجواء جديدة من الحوار وضرورة العودة الى طاولة المفاوضات، لشهدنا ازمة حزبية جديّة، خاصة لدى الكتلة البرلمانية الثالثة، كتلة "شينوي"، التي تفتقر لبرنامج سياسي واضح، وكتلتها منقسمة، تقريبا مناصفة، بين يسار ويمين، ومن بين اعضائها من شارك في "وثيقة جنيف"، وكان هذا الانقسام سيقود الى تغير هام في الخارطة الحزبية في اسرائيل. وهذا تهديد سيبقى قائما طيلة الوقت امام حركة "شينوي"، التي ستجد نفسها امام حالة انقسام سياسي كبير في اول فرصة لمفاوضات سياسية جديّة بين اسرائيل والفلسطينيين يكون فيها تقدم ما.
الأمر الآخر وحسب ما تشير اليه الاستطلاعات فإن مبادرات سياسية جديّة وخلق فرصة للتقدم في اتجاه الحل ستجعل شارون يقلق من المستقبل، ومن معركة انتخابية مستقبلية، وهذا لأن جميع الاستطلاعات تشير الى أن ما بين 15% الى 25% من مصوتي "الليكود" في الانتخابات الاخيرة يعطون اجوبة تميل الى معسكر اليسار الصهيوني، مثل اخلاء بؤر استيطانية أو مستوطنات أو اقامة دولتين لشعبين، أو حتى الموقف من "وثيقة جنيف"، وهذه نسبة جديّة إذا ما حسبناها بحجم المقاعد البرلمانية التي يسيطر عليها "الليكود" الآن، وهي 40 مقعدا، اي انها تعبر عن ستة الى أكثر من 10 مقاعد. وشارون في هذا المجال لم يعلن ان هذه ولايته الأخيرة، وعدا هذا فلشارون ابنه عومري الذي اصبح عضو كنيست، ويريد ان يضمن له مستقبلا سياسيا، بعد ان ايقن ان مناصبه الرسمية تحمي له مصالح العائلة الاقتصادية، وهذا ما نراه في مسلسل الفضائح المالية والرشوات التي تتورط فيها عائلة شارون.
من جانب آخر ومع ظهور "وثيقة جنيف" وارتباط اسماء بارزة في حزب "العمل" بهذه الوثيقة، مثل رئيس حزب "العمل" السابق عمرام متسناع، وعضو الكنيست ابراهام بورغ وغيرهما، شعر حزب "العمل" بان عليه الخروج فورا بمبادرة سياسة، ولكن هذه المبادرة بقيت بعيدة عن الاضواء ولم تتوقف عندها وسائل الاعلام كثيرا، نظرا لانها، كما ذكرت سابقا، لم تختلف من حيث الجوهر عن "وثيقة جنيف"، ولان الاعلان عنها جاء في الوقت الذي كانت فيه الكاميرات تتجه نحو جنيف.
خشبة قفز اسمها "وثيقة جنيف" وحزب "ياحد"
لم يمر شهر على توقيع "وثيقة جنيف"، حتى بدأنا نسمع عن خلافات داخلية في الجانب الاسرائيلي، مصدرها ممارسات يوسي بيلين التي تهدف الى تحويل الوثيقة الى خشبة قفز له في اطار منافسته على رئاسة الحزب الجديد، "ياحد"، الذي يضم حركة "ميرتس" وحزب "شاحر" الذي يتزعمه بيلين اليوم.
قبل عامين، وبالتحديد في شهر كانون الثاني/ يناير من العام 2002، كشف كاتب هذه السطور النقاب عن سعي يوسي بيلين للتوصل الى ورقة تفاهمات مع مسؤولين فلسطينيين أو شخصيات فلسطينية بارزة لتكون هذه التفاهمات برنامجا سياسيا لحزب جديد يسعى لاقامته، وكان قد برز هذا في لقاء جنوب افريقيا الذي جرى في ذلك الشهر بين شخصيات اسرائيلية "يسارية" وفلسطينية برعاية رئيس جنوب افريقيا السابق نلسون مانديلا.
وقد كثف بيلين نشاطه لانجاز مبادرته في الوقت الذي كان يتزعم فيه حزب "العمل" بنيامين بن اليعيزر، وكان الحزب مشاركا في حكومة شارون. لكن بيلين توقف لفترة قصيرة عن التقدم بمبادرته بعد انتخاب عمرام متسناع رئيسا لحزب "العمل"، إذ راى بيلين في انتخاب متسناع فرصة له للعودة الى دائرة زعامة حزبه الاصلي، ويتبوأ مركزا هاما ومتقدما في قائمة الحزب في الانتخابات البرلمانية. ولكن سرعان ما خاب أمل بيلين الذي تم انتخابه للمركز ما بعد الاربعين في القائمة التي لم تنجح بتحصيل سوى 19 مقعدا، وقفز بيلين بسرعة الى قائمة "ميرتس" التي حصل فيها على المقعد العاشر، مع ان القائمة لم تحصل إلا على ستة مقاعد.
ومع انضمام بيلين الى قائمة "ميرتس" على شكل "زعيم" حركة "شاحر"، عاد الحديث مجددا عن ضرورة اقامة حزب "اشتراكي ديمقراطي"، يكون عضوا في الاشتراكية الدولية، يضم "ميرتس" و"شاحر"، وهذه مبادرة كانت، هي ايضا، قد بدأت قبل انتخاب متسناع رئيسا لحزب "العمل" وتوقفت بعد انتخابه اثر تراجع بيلين، وكانت المفاوضات قد جرت في اطار لجنة خماسية.
ويدور الحديث داخل الجانب الاسرائيلي لوثيقة جنيف حول استغلال بيلين لهذه الوثيقة، ومن يثير هذا الجدل هي الشخصيات البارزة في حزب "العمل"، وبعض الشخصيات التي لا تعتبر نفسها محسوبة على "ميرتس" أو "شاحر"، وحتى انها مؤيدة لاحزاب أخرى.
ومن الممكن جدا ان يكتمل مشروع بيلين الحزبي في الربيع المقبل، مع الاعلان عن الرئيس الجديد لحزب "ياحد"، وقد تكون هذه نقطة هامة يتم فيها التوقف عن اعتبار هذه الوثيقة وكأنها تمثل عدة احزاب يسارية صهيونية لتنطفئ الاضواء تدريجيا عن وثيقة، قد تكون جديّة على الرغم من عوراتها الخطيرة، ولكن تم فرمها بين اسنان دواليب اليسار الصهيوني المتفكك والغارق في نزاعاته الداخلية والهارب من الجرأة السياسية.
مصير "ياحد" تحكم عليه التجارب السابقة
في العام الجديد 2004، وإذا لم يحدث أي عائق جديد، سيظهر على الخارطة الحزبية الاسرائيلية حزب جديد من حيث الاسم، وقديم من حيث الاسماء والتجربة، وهو حزب "ياحد" الذي اسلفنا الحديث عنه.
عمليا هذا هو الشكل الثالث الذي تحاول الظهور به قوى اليسار الصهيوني التي تقف عن يسار حزب "العمل"، فالبدايات كانت حركة "راتس" بقيادة شولميت الوني، التي اتسعت في سنوات الثمانين، وتحولت الى حركة "ميرتس" في العام 1992، وضمت احزاب "راتس" و"مبام" و"شينوي" (حزب "شينوي" الاول وليس الحالي)، والشكل الثالث والجديد هو حزب "ياحد".
حتى العام 1992 كانت الاحزاب الثلاثة التي شكلت حركة "ميرتس" تضم 10 نواب، وتوقع لها المحللون والاستطلاعات في انتخابات العام 1992 ان تصل الى اكثر من 15 مقعدا، ولكنها لم تنجح في الحصول على أكثر من 12 مقعدا، اي ان الوحدة برمتها لم تسعف الحركة الجديدة، ولم تحقق لها اصواتا جديدة غير تلك التي صوتت لها سابقا. وفي العام 1996 خسرت الحركة ثلاثة مقاعد واسترجعت واحدا منها في انتخابات العام 1999 حين حصلت على عشرة مقاعد، وكانت الضربة الكبيرة في العام 2003 حين هبطت الى ستة مقاعد لصالح حركة "شينوي"، التي كانت اكثر حدّة في طروحاتها العلمانية ضد الاكراه الديني، الذي استفحل في السنوات الاخيرة في اسرائيل.
الشارع الاسرائيلي بطبيعته لا يركض بسرعة وراء تشكيلات حزبية جديدة، وإن اسعف الحظ حزبا جديدا فإن هذا الحظ لا يصمد لأكثر من دورة برلمانية واحدة، وهذا ما لاحظناه مثلا في انتخابات العام 1977 حين حصلت قائمة "داش" على 15 مقعدا، سرعان ما تشتت في العام 1981 واختفت عن الوجود، وفي انتخابات 1999 ومع اقامة حزب المركز بزعامة ثلة من الجنرالات والشخصيات السياسية التي لها حضور، توقعت استطلاعات الرأي ان تحصل الحركة الجديدة على أكثر من 15 مقعدا ولكنها حصلت في النهاية على ستة مقاعد، واليوم نحن امام كتلة "شينوي" التي حصلت على 15 مقعدا، ومستقبلها ليس بأفضل، خاصة وانها لم تنجح في تحقيق اي مكسب يذكر في انتخابات السلطات المحلية التي جرت في شهر تشرين الاول الماضي.
الجديد في حزب "ياحد" سيكون باسمه فقط، فالشخصيات قديمة معروفة، وهذا ما يؤكد على ان وزنها السياسي لن يتحرك نحو الافضل مع ظهور الحزب الجديد، وإذا ما عرف حزب "العمل" كيف يوحد صفوفه ويظهر بوحدة الزعامة الجديدة ويتوقف عن التناحرات الداخلية، ويخرج ببرنامج سياسي واضح، فإنه سينجح في ابعاد خطر الحزب الجديد عنه، خاصة وان شخصيات الحزب الجديد ظهرت على الساحة السياسية في فلك حزب "العمل" وسيبقى ظل حزب "العمل" يرفرف عليها، وفي هذه الحالة فإن الشارع الاسرائيلي سيركض نحو النسخة الاصل، اي وراء حزب "العمل"، ليكون حزب "ياحد" الجديد مجرد اسم جديد لحركة قديمة وزنها معروف ومحدود.
سيناريوهات تبدل التشكيلة الحكومية
حتى الآن، غير ظاهر للعيان أي احتمال لاضطرار شارون تغيير تشكيلته الحكومية في الفترة القريبة المقبلة، إن كان هذا في اتجاه اليسار أو في اتجاه اليمين، وهذا لأن التشكيلة الجديدة تضمن لشارون برنامجه السياسي والاقتصادي، فهو معني بجمود سياسي والحفاظ على الوضع القائم في انتظار ظروف افضل يحقق فيها مكاسب احتلالية جديدة تقضي على اي فرصة للسلام في المنطقة.
ويضمن شارون الهدوء السياسي في حكومته مع سيطرة حزبه على 40 نائباً، ليسوا معنيين بأي تقدم سياسي، ومع كتلة "شينوي" التي لها 15 مقعدا، وزعيمها يوسيف لبيد غير معني، هو ايضا، بأي تقدم سياسي، لأن تقدما كهذا سيقضي على وحدة كتلته، التي توحدها راية محاربة الاكراه الديني واليمين الاقتصادي، بمعنى التوافق مع سياسة شارون- نتنياهو الاقتصادية التي تخدم الاغنياء وتزيد غناهم وتواصل ضرب الشرائح الفقيرة.
والكتلة الثالثة في حكومة شارون في حزب اليمين "ايحود ليئومي- يسرائيل بيتينو" وحزب "المفدال" اليميني المتدين، وهذه كتلة تريد مكاسب اكثر للاستيطان ولكنها على قناعة بأن شارون يقوم بالمهمة كما يجب وبالهدوء المطلوب، وهي لا تخاف من تصريحات شارون حول نيته اخلاء مستوطنات، لأنها واثقة من النوايا الحقيقية لشارون.
الى جانب هذا فإن شارون يضمن لنفسه في هذا العام هدوءا على الساحة الدولية، وهو هدوء قائم منذ فترة كبيرة، بفضل المظلة الامريكية التي تحميه، هذه المظلة التي سيتسع ظلها على شارون بسبب الانتخابات الرئاسية الامريكية التي ستجري في خريف العام الجديد، بمعنى انه حتى ولو حدثت أعجوبة، فإن اكبر هذه العجائب لن تُحدث اي انقلاب في مواقف الرئيس الامريكي جورج بوش والعصابة اليمينية التي تحيط به في البيت الابيض. ولن نستبق الامور أكثر، ولكن جميع المعطيات، حتى الآن، تؤكد ان بوش سيبقى في البيت الابيض لولاية جديدة، وهذا ما سيزيد الاطمئنان لدى شارون.
وامام هذه الظروف فإن شارون لن يفتح على نفسه جبهة جديدة في داخل حزبه ليسعى ليضم حزب "العمل" الى حكومته مقابل التخلي عن حزبي "المفدال" وايحود ليئومي، خاصة وانه لا توجد اسباب لهذا، كما ان شارون لن يسعى للتخلص من كتلة "شينوي" للركض وراء حزب "شاس" و"يهدوت هتوراة" المتدينين المتشددين، طالما ان "شينوي" تحني رأسها لشارون، وتقول له حسب المقولة الشعبية المعروفة "نحن على ايدك الطيبة" فافعل ما تشاء.
نعود الى ما بدأنا به، وهو ان شارون سينهي عاما آخر دون قلاقل في حكومته، وعمليا فنحن امام عام جديد سيطغى عليه الركود، ليس فقط في المجال الاقتصادي وانما ايضا في الخارطة الحزبية الاسرائيلية.