ايدن لازكين قسون
الحوار المتمدن-العدد: 2233 - 2008 / 3 / 27 - 05:48
المحور:
الادب والفن
حالما تصاعدت أعمدة الدخان مع شظايا حديدية متطايرة ونيران هوجاء كجهنم حارقة ظهرت فجأة فوق (شارع عشرين) تعالت صياحات على بعد مرمى حجر من ذلك المكان ((الله اكبر .. الله اكبر .. الموت للخونة العملاء)) .. كانت هذه الصيحات تتجدد مع كل تأوه أو صراخ يخرم آذان الموتى والأحياء يصدر عن احد ضحايا الانفجار .
ظلت يداه ترتجفان حتى بعدما سلم جهاز التفجير عن بعد لأحد الملتحين اللذين رافقوه مع المجموعة التي نفذت العملية .. لم يكن يعلم ما إذا كان ذلك الارتجاف سببه الحبوب (المقوية)- كما أسموها – التي ابتلعها قبل التنفيذ فجعلت الأرض تدور من حوله , أم بسبب الصوت الذي أطلقه احد الضحايا إذ بدا مألوفاً لوهلةً من الزمن . غادر ذلك الشارع قبل الظهيرة بقليل بعد أن تسلم مبلغاً من المال على شكل رزمة تضم عشرات من الدولارات , والتمعت عيناه حين لمست يداه ذلك المبلغ .. تلكم اليدان اللتان لم تمسكا منذ تكوينهما أكثر من أجرة أسبوع أو أسبوعين . ظل ماشياً على قدميه باتجاه المنزل يجرهما خلفه جراً بعد أن نال منه التعب إضافة إلى انحناء الأبنية حوله ورجوعها بقفزة إلى حالتها الطبيعية , إذ كان تأثير الحبوب لا يزال يعبث بعقله وجسده على حد سواء .. كانت تلك الحبوب بمثابة الصاعقة التي جعلت سماء ماضيه تزخ على أركان ذاكرته بأشياء أشبه بقطرات تحفر على وجه التراب عناوين قصص توالت على تعذيبه منذ صباه .. ذكريات قاتمة , كأنها ليل أرق طويل معتم يرفض أن ينتهي زرعته على أنقاض ماض حقير حاول عبثاً أن ينساه أو يتناساه عبر إدمانه أنواع الكحول التي ما فارقت يوماً جيوبه أينما كان . مرت صورة أبيه كطيف أسود يرمقه بنظرات عادت به إلى ذلك اليوم حين توسل مع إخوته إلى أبيهم أن لا يلتحق بالجبهة , واستذكر الذهول الذي اعتراهم وهم يتسلمون جثمانه في الأسبوع التالي . وهزت كيانه صورة من ماضيه جعلت عيناه تقطران دمعاً مثلما زختا خلال اللحظات الأخيرة التي صارعت فيها والدته المرض والموت على ذلك السرير الصدئ مرتديةً نفس الثياب السوداء المرتقة التي ما فارقتها منذ توفي زوجها الذي عرفت معه معنى حنانا افتقدته في طفولتها وصباها.
ثم انقضت عليه ذكريات الأيام التي قضاها مع بعض صبية المنطقة كسرب من نسور جائعة جعلت جلده يلتهب كما التهب من تأثير ضربات السوط التي نالها في السجن مع رفاقه .. وأول يوم رافقهم فيه للعمل في منطقة خارج المدينة ليغمى عليه من تأثير الشمس الحارقة والماء الآسن .. كانت أيام التسكع وسرقة الكحول وكل ما يلزم لإقامة حفلة عربدة كبيرة تستحق الشجار الذي ينشب في نهايتها لأجل آخر كأس من القارورة ليحضر الملتحي الذي يظهر أمامهم كل مرة كإله عقاب مرعب فيحثهم على زيارته في إحدى المزارع المحاذية لأطراف المدينة لسماع النصح وتقويم أنفسهم ليقنعهم بعد شهور بالالتحاق بالمجموعة المسلحة التي يقودها .
واستمرت ساقاه تجرانه صوب منزله المتداعِ في أحد الأزقة المهترئة التي لا تشبع من أشعة الشمس لشدة ضيقها . وحين وصل إلى مقربة من منزله سمع صراخاً وعويل ودمدمة أُناس كثر تتخللها أصوات عيارات نارية متقطعة دبت الذعر في قلبه .. – ترى هل بلغ عنا احد ؟ هل هم هنا للقبض علي ؟ .. جمد الرعب قدميه في مكانهما وسحبهما بصعوبةٍ إلى الوراء خطوتين قبل أن يدفعه الفضول والتوتر للاقتراب من الجمع الذي تحرك كموجة موحدة حين رأوه مقترباً قبل أن يلمح تابوت يغطيه علم تحمله إحدى سيارات الشرطة المتوقفة بالقرب من منزله .. اقترب من ذلك التابوت ببطْء .. وانخطف لون وجهه واصفر حتى أصبح كشبح إنسان واقفٍ قرب إخوته الصغار الثلاث الملتفين حول التابوت يذرفون دماً وحسرةً وانكساراً . سلمه احد الضباط ورقة دون أي كلمة تصدر عنهما , كتب عليها : (استشهد ابنكم الشرطي البطل خلال قيامه بالواجب هذا الصباح بعد أن زرع الإرهابيون عبوة ناسفة على طريق دوريتهم في منطقة (شارع عشرين)!!! وما أن لمح هاتين الكلمتين الأخيرتين حتى أحس انه قَتَلَ نفسه في تلك العبوة التي فجرها بيديه .. اعتراه شعور بأن رئتيه ما عادتا تتحملانِ أنفاسه الحاقدة التي أحرقت أخاه الأكبر . حاول اخذ نفسٍ مجددا دون جدوى .. دوى صوت ارتطام رأسه بأرضية الزقاق وانفض الحشد عن التابوت وتجمعوا حوله في محاولات يائسة لإيقاظه .. لكن الموت كان قد سبق محاولاتهم بخطوة !!
#ايدن_لازكين_قسون (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟