للعالم مصلحة في أن تتعثر الولايات المتحدة في الطور الراهن من حربها العراقية. وهذا صحيح بصرف النظر عن أي تقييم للمقاومة العراقية، وهو يبقى صحيحا حتى لو كان المرء معاديا لتلك المقاومة، وراغبا في أن لا يكون العراق ساحة لمواجهة الأميركيين. وصحته لا تتعزز إلا قليلا لو كانت المقاومة العراقية مقاومة ديمقراطية وتحررية ووطنية شاملة لكل أطياف الشعب العراقي. إن المصلحة العالمية لا تتوافق هنا مع المصلحة الوطنية للشعب العراقي، إن لم نقل إنها تتعارض معها.
فمن شأن استقرار الأمر بيسر للأميركيين في العراق أن يعزز موقع القوى الأكثر عدوانية في الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية وأن يدفع نحو المزيد من تمحور السياسة الدولية الأميركية حول استخدام القوة العسكرية وإثبات نجاعة مذهب الضربات الوقائية. ولا شك كذلك أن فوز الأميركيين بـ"معركة السلام" في العراق بعد معركة المواجهة المسلحة كان سيطلق دون إبطاء موجة ثالثة مما يسميه الأميركيون الحرب ضد الإرهاب بعد الموجتين الأفغانية والعراقية، ولربما شملت الموجة الثالثة سورية أو إيران. ولكانت "أوربا القديمة" في وضع أسوأ، والصين في موقع أضعف، والحركات الاجتماعية العالمية في حال مضطرب، لو تربع الأميركيون في العراق وتفرغوا لشم الورد يلقيه عليهم العراقيون "المحرَّرون". وباختصار كان العالم سيغدو أقل تعددا وتوازنا وبالمقابل أكثر واحدية وتمركزا.
فمهما بدا ذلك غريبا، تساهم أعمال المقاومة العراقية - بقدر ما هي تعسر مقام الأميركيين- بدعم استقلالية المنظمات الدولية وتنقذ بعضا من كرامة مجلس الأمن والأمم المتحدة، فضلا عن تقوية موقع فرنسا والمانيا داخل أوربا بعد وقت بدا فيه أن لبلير وأزنار وبرلوسكوني الكلمة العليا في الشأن في الشأن الأوربي. غريب بالفعل أن تشن معركة الحد من الانفرادية الأميركية وتعزيز وزن مجلس الأمن على يد أناس قد يكونون هم أنفسهم من هاجم مقر الأمم المتحدة والصليب الأحمر في بغداد.
لكن الأمر مفهوم على غرابته. فليس هناك علاقة مباشرة وبسيطة بين إيديولوجيات الفاعلين وبين النتائج الواقعية لأفعالهم. يمكن للمقاومين العراقيين أن يكونوا معادين جدا لفكرة الأمم المتحدة وفلسفتها لكنهم بتعويق خطط القوة الأكثر تعديا على سلطة المنظمة الدولية إنما يقوون الموقع النسبي لهذه.
إن "مرمطة" الأميركيين في العراق مكسب عالمي بالفعل. فهل يكون المكسب العالمي أكبر إذا هزم الأميركيون وانتصرت المقاومة العراقية؟ هنا تنطرح مسألة طبيعة المقاومة العراقية وإيديولوجيتها واستراتيجيتها. وهنا أيضا يتجسم الفرق بين الوقوف ضد الانفرادية الأميركية وعقيدة التفوق الأميركية وبين الوقوف إلى جانب المقاومة العراقية والدفاع عن تصورها لعراق الغد. هذا التصور غير موجود. وبقدر ما يمكن الاستدلال عليه فإنه لا يسوغ الوقوف إلى جانب المقاومة أو التحمس لانتصارها. فإذا بدا يوما أن المقاومة الحالية يمكن أن تنتصر فقد نرى أطرافا عديدة يسرها اليوم تعثر الأميركيين تتحول إلى جانبهم. ذلك أن مايريده فاعلون دوليون كثر هو تلقين الأميركيين درسا في التواضع ولجم اندفاعهم الامبراطوري، وليس إذلالهم. وفي هذا الإطار يمكن فهم ما قاله الرئيس الفرنسي جاك شيراك قبل اسابيع من إنه يريد ألا ينهزم الأميركيون في العراق. ففيما عدا الحسابات الانتهازية، وفيما عدا الخشية الأوربية، والغربية عامة، من انفلات الأوضاع العراقية من السيطرة ما قد يدفع الأميركيين إلى حماقات غير مدروسة، فيما عدا ذلك ثمة الرغبة في أن تعاق واشنطن بما يضعف محافظيها الجدد لا أن تجرح بما يقوي موقع أولئك الامبراطوريين الشرسين فيها.
لا يريد أحد من العراقيين أن يكون بلده ساحة لترويض القوة الامبراطوية وتدريبها على التواضع، ولا يرغب أيا منهم أن يكون وطنه مثالا أيضاحيا لفشل مذهب بوش ولصيانة حظوظ العالم في التعدد. هذا الموقف أيضا لا علاقة له بالموقف من الأميركيين ولا حتى من "المقاومة". فهو لا يقتضي بالضرورة موقفا إيجابيا من الاحتلال الأميركي ولا موقفا عدائيا من المقاومة. مطالب أكثرية العراقيين معروفة وتدور حول الأمن والخدمات وانتهاء الاحتلال بصورة متفق عليها وسيطرة العراقيين على شؤونهم السياسية والاقتصادية وعلاقاتهم الإقليمية. لكن الاحتلال الأميركي منح النفوذ والصوت المسموع لأقلية امتيازية اجتهدت منذ ما قبل سقوط بغداد في خلط القضايا وتطبيع الربط بين السير في ركاب الأميركيين وبين مصلحة العراقيين. وفي اندفاعها الحماسي لم تميز هذه الأقلية بين مرحلتين: مرحلة إسقاط نظام صدام حين كان الخيار المطروح هو الأميركيون أم صدام، وكانت أكثرية عراقية تريد الخلاص من الطاغية باي ثمن؛ ومرحلة ما بعد سقوط النظام حيث تكونت سلطة جديدة السيادة فيها للمحتلين، واصبح الخيار مع الاحتلال وسلطته أم ضدهما. ورغم سطوة رواية الأقلية فإن شهادات عراقيين تشير إلى أن اكثريتهم تريد انتهاء الاحتلال سريعا.
لا يحتاج المكسب العالمي من "مرمطة" الأميركيين إلى القبول بفكر المقاومة العراقية وممارساتها، ومن المؤسف أنه لا يستفيد منهما حتى لو احتاج إليهما، إن لم نقل إنهما يلحقان الضرر بقضية التعددية في العالم ويمنحان تسويغا لقمع قوات الاحتلال وعشوائيتها (هذا بالطبع لا ينطبق على المواقف الاستقلالية المعتدلة كالتي يعبر عنها السيستاني اليوم). ولا يبدو أن رغبة أكثرية العراقيين في إنهاء الاحتلال تمر حتما بموقف إيجابي من المقاومة الحالية بمكونيها المهيمنين، الصدامي والإسلامي، وبتركزها في الوسط السني وحده تقريبا.
هذا يجعل قضية الاستقلال والديمقراطية في العراق رهنا بطور جديد من المقاومة وبجيل جديد يتطلع إلى بناء المستقبل لا إلى استعادة الماضي. قد ينقضي جيل أو أكثر قبل استعادة العقل العراقي والعربي توازنه وبروز جيل جديد متحرر من المنعكسات الشرطية لنظم الوطنية العسكرية التي تربط بين الوطنية والطغيان وبين الديمقراطية والالتحاق بمعسكر الغالبين. جيل غير مصاب بالحَوَل الذي يجعل جيلنا الحالي عاجزا عن تسديد بصره إلى الدكتاتورية دون أن يخرج مطلب الاستقلال الوطني من حقل رؤيته، ولا يستطيع أن يركز بصره على مقاومة السيطرة الخارجية دون أن يعمى عن الاستبداد. وبينما يدفعنا "الحول الديمقراطي" إلى الاندراج في مشروع السيطرة العالمية الأميركي فإن "الحول الوطني" يوقعنا في شباك الطغيان الأشد فتكا.
العالم اليوم يستفيد منا كممانعة لا كإرادة؛ كعائق سلبي في وجه دكتاتورية عالمية لا كاختيار إيجابي لعالم ديمقراطي؛ بوصفنا كتلة غفلا تعرقل الانفرادية الأميركية أو تتيح للأوربيين والآسيويين وقتا كافيا للتكيف الإيجابي معها، لا بوصفنا ذاتا حرة تصنع مصيرها وتتفاعل مع غيرها. لذلك فإن ما يفيد العالم لا يفيدنا بالضرورة، ولذلك أيضا فإن ما يضرنا قد لا يضر العالم.
دمشق 2/12/2003