أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زهير صاحب - جذور الكتابة الرافدينية في رسوم الفخاريات















المزيد.....


جذور الكتابة الرافدينية في رسوم الفخاريات


زهير صاحب

الحوار المتمدن-العدد: 2228 - 2008 / 3 / 22 - 07:22
المحور: الادب والفن
    



1. مقدمة في رمزية الخطاب الرافديني :
في حوالي منتصف الألف الثالث قبل الميلاد ، وعلى أرض الرافدين الطيبة المعطاء . جَلَسَ أول تلميذ على دكة من اللبن لتلقي المعرفة ، ووقف أول معلم في تاريخ المعرفة ، ليلقي محاضرة في فلسفة الوجود . إنه إبلاغ رمزي ، يؤطر ما هو زائل ، بإطار الأبدي الخالد ، كمظهر للعقل والتفكير . نوعاً من إعادة صياغة الطبيعة في جوهرها وماهيتها ، بتحليل عناصر الصورة المرئية ، بغية تفعيل قوة التعبير الكامن في الذات المتفلسفة وإسقاط الذات على الطبيعة والإنسان . فكان الفكر رمزياً كونه يُعيد بنائيتهِ بالأشكال ، وتركيبياً لأنه يشيد هذه الأشكال بوساطة العلامات، وبشكل بناء رياضي يعرض ذاتهِ كأنظمة أشكال معرفية ، حدسية متحررة من محدودية القيود الحسية .
إن الفكر الرافديني ، الإبداعي ، وهو يؤسس أنظمته الأولى في تاريخ الإنسانية، كان يستلم خطاب البيئة بفعل المحسوسات ، وهي بمثابة ضغوط سيكولوجية وحوافز ومنبهات ، ويؤولها إلى منظومة دلالية في بنائيتهِ ، وهي بمثابة تقابلات صورية ، مكثفة بأشكال رمزية أو دلالات علامية . وهذهِ الآليات الفكرية المستندة إلى التجريب، ساهمت بفاعلية في تكامل الخبرة الفكرية ، وبدأت تعمل كمحركات مهيمنة في بنائية الفكر الحضاري في سياقاتهِ العامة .
واجهت بنائية الفكر الرافديني ، العالم الكوني . وهو منفصل إلى عالمين . عالم الصورة الأرضية الفانية ، وعالم المثل العليا المفعم بالقوى الفاعلة المتحكمة بالظواهر. الأمر الذي أكسب السايكولوجيا الرافدينية ، نوعاً من القلق الميتافيزيقي . الذي أكسب صورة المغيب اللامرئي ، حضوراً فاعلاً في بنائية الفكر ، على حساب تدني الحضور البشري . وقد تمكن بهذا من تصنيف الظواهر وإدراك ما بينها من علاقات ، فجعل لكل قوة رمزاً ، وعلى هذا النحو تحولت الظواهر إلى رموز ومفاهيم هي بمثابة تكثيف للأفكار بخطاب التشكيل . وهذا هو التفسير العقلاني ، باتجاه خلق موازنة بين الأحساس الداخلي (الذات المنفعلة) وعالم التجربة الخارجي (قراءة الموجودات) حيث تكون مهمة التشكيل إدراك هذه الموازنة . ذلك إن صلة التشابه المادية المنظورة ، قد تمت الاستعاضة عنها بصلة روحية غير مرئية هي صلة الرمز . حيث ترتفع المدلولات فوق الظاهرة الطبيعية المنفردة ، وبنوع من التضايف بين المادي والروحي وبين الطبيعي والرمزي .
إن سمة مثل هذه الأشكال الرمزية ، تكمن في وجود عدم توافق بين المدلول ونمط التمثيل . بحيث لا يكون القصد أن تمثل هذهِ الأشكال ذاتها بما فيها من خصوصية فردية . ولا أن تعرض للوعي مباشرةً ، الميتافيزقي المتضمن فيها بل تكون إشارة إلى السماوي وتلميحاً إليهِ . باعتبارها نسق علامي ، يرتبط بالفكرة وبكيفية تمثيلها ، وبنوعية الخطاب المفعم بالتجريد والترميز . طالما إن الرمز ، ليس مستقلاً قائماً بذاتهِ ، وإنما دلالة أي رمز هي في صميمها ، دلالة موضوعية تتحدد بالسياق الذي ترد فيهِ .
وإزاء تغييب محاكاة تعقيدات الطبيعة ، وجد الفكر في بنائيتهِ الجمعية ، إن بإمكانهِ قلب العالم الخارجي باتجاه العالم الداخلي . فمن صفات الفن العظيم ، أن يحمل بداخلهِ التوتر والتناقض ، فهو لا يصدر من معاناة للواقع فحسب ، بل لابد له من عملية تركيب ، لابد له أن يكتسب شكلاً موضوعياً . فالتأمل المايثولوجي الذي يشكل الجوهر في نظام الصورة على أرض الرافدين ، هو نوع من طريقة حدسية للإدراك، ليس مجرد انشراح طليق للذهنية يتجاهل الواقع ، إنه يسمو على التجربة ، كونه يحاول تفسيرها وتنظيمها وتوحيدها . إنه يقوم على إعادة بناء العالم في حالتهِ السرية الداخلية، بحيث لم يعد لطبيعة الأشياء من دلالة ، إلا بقدر تحولاتها لتعكس وضعاً إنسانياً .
لقد كان الشكل الكتابي والتشكيل الرافديني ، يتحرك في دائرة ثقافية قوامها الرمز فهناك المضمون والغاية والمدلول ، ومن الجهة الثانية التعبير والتظاهر والواقع ، وما بين هذين المظهرين تشابك وتداخل . بحيث إن الخارجي أو الخاص ، لا يكون له من مُبرر وجود ، إلا أن يكون تعبيراً عن الداخلي . فطبيعة التفكير ، كانت ذات خصوصية، تميل إلى تمثيل الأشكال في كلياتها ، في أشكالها العامة الموحية بالمعنى المترابط بالشكل . وهنا يمكن أن نصل إلى نوع من الرمزية الواعية في توظيف مظاهر الأشكال باتجاه ذائقية الوعي الجمعي . إنه الفن المتحرر من الطبيعة ، ببنائية أشكاله الجوهرية الخالصة . هذا التحقق التاريخي لعالم المُثل بوعي الجمال الروحي في اللانهائية المتحققة بخطاب التشكيل نحو المطلق . هو فلسفة الحياة والفكر برمتها على أرض الرافدين .
إن مفهومية السياق باعتباره حلقة نارية تحدد دلالات الخطاب في الفكر الرافديني. هو نظام من الجدل المتفاعل بين المادي والروحي ، حيث يتسامى المادي إلى مقام الروحي ، بعد أن يحّل بهِ الروحي حلولاً . وهنا تَتسامى أنظمة الأشكال نحو التجريدية الرمزية ، إنه فعل الفنان المُبدع في آليات إظهار الشكل ، والذي يتجاهل الحكائية نحو الصورية ، ذلك إنه بمثابة الشفرة التي يبثها الفكري من خلال خطاب التشكيل المُعلن . وهذا هو التفسير العقلاني الأكثر خصوصية لأنظمة الأشكال الرافدينية في الفنون التشكيلية ، والتي تعمل بفاعلية لخلق موازنة بين الإحساس الداخلي وعالم التجربة الخارجي ، حيث تكون مهمة التشكيل إدراك هذه التقابلات . ذلك إن بنائية الشكل لابد أن تجيء بشكل تقابلات تسمو على الوقائع ، وإلا فقدت كل مالها من قيمة باعتبارها حقيقة . لقد كان هدف الفن ليس التقليد ، بل الكشف عن الصيغ التي تساعد الفكر الإنساني في الدخول بصلات وثيقة مع عوالمهِ الحاضرة والمغيبة .


2. أنظمة الكتابة الرافدينية :
حققت الحضارة الرافدينية في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد ، قفزة معرفية من النوع الكوبرنيكي ، وأسست أول مجتمع متحضر في التاريخ ، مؤسسة تاريخها من خلال نشاط حركة الأفكار المتحولة بشكل متسارع مليء بالمستجدات والإبداعات. ففي مدينة الوركاء عاصمة البطل كَلكَامش ، جاء اختراع الكتابة ليُعلم البشرية الحرف. وبقدر ما تمثله الكتابة من انتصار معرفي عظيم ، حفظ تاريخ الإنسانية من الضياع ، فإن بنيتها نظاماً من العلاقات الجمالية ، بصدد تسطيرها وانتظام خطوطها، إنها التفعيل الأول للفكر الإنساني حبن حفر على الطين مادة الخلق الأولى ، ذاته حفراً وحتى أعمق مناطق الروح . حيث يعمل الخط في منطقة المتخيل خارج مساحة التكوينات العينية ، باعتباره تفسيراً حدسياً للامرئيات بقوالب المرئيات . ذلك إن العلاقة الكتابية تشبه ذاتها في القصدية الطبيعية ، لكنها خارج حضورها الواقعي ، فهي عبارة عن تلخيص للدلالات التي تمثلها . فهي المفردات التي تشكل الجزء الخاص من الفكرة، والتي تُشّفر عن مغزى دلالي كامن خلفها في مدلولاتها في بنية الفكر الاجتماعي . ومن هنا اكتسبت عظمتها عبر التاريخ ، وبدت كمفاهيم أزلية الحيوية .
كان المعبد باعتباره أهم ركائز المؤسسة الدينية ، حيزاً مكانياً ذي دلالة قدسية ، تفوق كثيراً حضوره المرئي . مكتسباً حضوره القدسي بفعل حلول الروحي فيهِ حلولاً. وهكذا قد لا يقل الفكر الرافديني نجاحاً عن الفكر الحديث بهذا الصدد ، إلا أن بنية النظام هناك لا تُقرر بالمقاييس الموضوعية ، بل بإدراك عاطفي حدسي للقيم . الأمر الذي فعَّل سيطرة المعبد على معظم الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية ، وغدى المعتقد الديني كحقيقة تفرض نفسها على العقول ، لها صفة الفضيلة الآمرة . وبفعل هذه الهيمنة المعبدية ، جاء اختراع الكتابة في بؤرتهِ ، ووصفها المرحوم الأستاذ طه باقر : " بأنها كانت صورية ، تعتمد على تمثيل صور الأشياء المراد كتابتها " (طه باقر ، ص241).
كان تحقيق الدلالة في نظام الكتابة الصورية ، يتكون من ثلاث جزئيات . الشيء المشار إليه وهو المعنى ، والإشارة وهي الإشارة الكتابية والتشابه المفترض بين الاثنين. لقد كان التشابه ضرورياً في بنية النظام الصوري الأول . ذلك إن المعرفة في زمانها ومكانها ، يصعب التأكد من صحتها دون رابطة حقيقية بين الإشارة والمشار إليهِ. فالتعبير في الكتابة الصورية ، لا يتظافر إلا بعقد صلة الارتباط الحيوية ، بين المضمون والشكل الذي ينظمه ويظهره ، حيث يدعم كل منهما الآخر ، داخل كل مترابط ، هو البنية الكلية للنص المكتوب . فماهية الكتابة ، تعيش هنا في محيط ذو مدلولات ثقافية واجتماعية واقتصادية ، تتبادل معها الأثر والتأثير بطريقة دينامية متفاعلة ، من خلال إطار نوعي أكتسب مضمونه من الخارج ، وهو مرتبط بالحالة العامة للتفكير . وهو بمثابة مرجع تسترشد به الجماعة ، باعتباره خطاباً تداولياً ، ليصبح حصيلة الفكر الحضاري الذي تبثة الجماعة للأجيال القادمة .
وكأي اختراع ، يبدو في البداية بسيطاً رغم كونه انتصاراً ، ومن ثم يخضع لمفهوم التطور بفعل تعاظم الخبرة المستندة إلى التجريب . حيث أعقبت الكتابة الرمزية الكتابة الصورية ، ليتعاظم هرم المعرفة في مرحلتهِ النهائية بالكتابة الصوتية - المقطعية المستندة إلى أصوات المقاطع في كتابة الكلمات . وذلك لعمري أعظم نصر فكري في تاريخ المعرفة . ففي المرحلة الرمزية ، وجد الفكر إن صلة الشبه المادية المنظورة غير كافية لتدوين شتى الأفعال المجازية . فاستعاض عنها بصلة روحية غير مرئية هي صلة الرمز ، حيث تتجسد قيمة الرمز الجوهرية الروحية بالتحول من الفردية إلى التعميم المطلق . ذلك إن العلامة الكتابية في طورها الرمزي، مفرغة تماماً من وجودها المادي كأيقونة معاشه ، ومرحّلة بفعل ضغوط البنية الفكرية العميقة إلى منطقة تتوسط الشعور واللاشعور . حيث التحرر من قيود السطحية والمباشرة ، سعياً لتأكيد وجود حقيقي وجوهري ، ذلك إن الرمز ، يحمل معنى أكثر تحديداً من الشيء الذي يرمز إليهِ ، فيستفيد الشيء المرموز إليهِ من المعادلة ، ويحصل على دلالات جديدة أكثر تحديداً من المرموز إليهِ أصلاً . فالشيء هو معنى إشارتهِ ، بيد إن الرمز هو معنى شيئهِ .
وبفعل تداول هذه الرموز الكتابية في ذهن الجماعة ، نتيجة استمرار الممارسة والفهم ، إن غدت مثل هذه الرموز حقيقية اصطلاحية ، لا تتطلب استغراقاً ذهنياً من قبل الفرد والجماعة ، في استيعاب دلالاتها ، ضمن حدودها الزمانية والمكانية المحددة، باعتبارها أداة تواصل ، بواسطة ضرب من التناغم في الوجدان ، وقد وجد بنائيته بشكل تمثلات ذهنية ثابتة .
وفي المرحلة المقطعية – الصوتية ، اكتسبت اللغة تماسكها الداخلي المنظم والخاص بها . فلم تعد الكتابة تتكون فقط من ممثلات وأصوات تقوم بدورها بتمثيل الممثلات ، ذلك إن الكتابة تتكون الآن من عناصر شكلية تنظم داخل نسق يفرض على الأصوات والمقاطع تنظيماً ليس تمثيلياً . أي إن الكتابة تحولت من وسيط تمثل فيه الكلمات الأشياء التي تشير إليها دون زيادة أو نقصان ، إلى أنساق خاصة تكتسب دلالاتها من علاقتها الداخلية كل منها بالآخر . فالعملية ليست تمثيل الكتابة لأشياء موجودة – في تطورها الأعلى – لكن النقيض هو الصحيح .
3. جذور الكتابة الرافدينية :
إن خارطة تطور الفكر الحضاري على أرض الرافدين ، تمثل سلسلة متصلة الحلقات من التقاليد والموروث الحضاري ، نوعاً من السلسلة التاريخية الأصيلة ، تتبادل التأثر والتأثير في التاريخ الإنساني . وبفعل هذه التواصلية في بنائية الفكر الرافديني ، يمكننا أن نرجح ، إن العلاقة الكتابية الصورية والرمزية الأولى ، التي كتبت على ألواح الطين في الوركاء حاضرة العالم المتمدن ، تستند بمرجعيتها إلى نظم علامية كتابية ، كانت قد رسمت بالألوان على سطوح الفخاريات من عصر سامراء في الربع الأخير من الألف السادس قبل الميلاد . فرسوم الفخاريات السامرائية ، كانت نوعاً من الترجمة الرمزية لمفاهيم الإنسان ومعتقداتهِ باعتبارها إبلاغاً لغوياً ، مكَّن الفكر الإنساني في زمانهِ ، أن يوّصل ما لديه من خبرات وأحاسيس داخلية وخارجية ، لذا فإنها وسائل حيوية الفهم لكل من المبتكر ومجتمعهِ . إنها بمثابة الشفرة التي يبثها الفكري من خلال خطاب التشكيل المُعلن . باعتبارها بنائية تتشكل من دوال شكلية ، ومن مغزى دلالي كلي ، هو المفهوم الروحي الكامن في الذهنية الجمعية لدورها الاجتماعي .
إن بنية الفكر في عصر سامراء العظيم (أواخر الألف السادس قبل الميلاد) ، كانت وليدة تألقها الحضاري الجديد ، ونقلتها الاقتصادية الكبيرة ، وفعل مجتمعها ووعي إنسانها وأفكاره الروحية ، التي ولدت على أرض الرافدين أول مرة . فتحولت الجماعات إلى مجتمعات مستقرة ، واستبدلت صفة التفكك الاجتماعي بصيغة الوحدة الاجتماعية . وهنا بدأت سيرورة خلاص الفكر الإنساني من الآنية ، تتخذ شكلها نحو مرحلة التخطيط المستند إلى التفكير العقلي . وأصبح بمقدور الفكر أن يعمل بآليات شعورية واعية ، بإدراك عليات إبداع الأشياء ، ليست بطبيعتها المادية فحسب ، بل ماديتها مضافاً لها ما يرتبط بها من أفكار ، ذلك إن إبداع المنجز الحضاري تسبقة كل مرة فكرة المنجز ذاته . فالشيء هنا ، أكتسب وجوداً مزدوجاً ، أي وجوداً فيزيائياً وآخر يدركه العقل . وهكذا ما أن بدأ إنتاج الأشياء ، حتى بدأ إبداع الأفكار ، وقد وجد إنسان وادي الرافدين في هذا العصر ، إن سلطته على الطبيعة ، واستقلاليته عنها ، تتحدد تماماً بمثل هذه الخصوصية من التصورات الروحية ، التي وضعها بمثابة وسيط بينة وبين العالم الخارجي . الأمر الذي قاد الحضارة الإنسانية نحو أقدم مجتمع متحضر بشكل حقيقي .
لقد كررت الجماعات النامية الأولى في عصر سامراء فعاليتها الاجتماعية عشرات المرات ، فوجدت بتراكم الخبرة ، صوراً مباشرة للتعبير عن كل آمال وطموحات ومعتقدات الإنسانية في زمانها ومكانها . وبشكل علامات تؤدي فعلها ، أشبه بالهرمونية الإيقاعية ، فهنا يستطيع كل فرد أن يصدر صيحة أو يؤدي حركة أو يؤشر رمزاً ، أو ينجز إبداعاً تشكيلياً في النحت أو الرسم . عندئذ يصبح مؤشراً يروده الجميع ، باعتباره تعبيراً عن عواطف مشتركة له وظيفة تنظيمية اجتماعية . إنه نوع من المقولات اللغوية الاجتماعية ، تزود ميكانزم الحياة العملية بتيار عاطفي ليسيرها ، ذلك إن وسائل التعبير الرمزية كالإيماءة أو الصوت أو الصورة أو الكلمة، ما هي إلا أداة لغوية ، شأنها شأن الفأس اليدوية ، وهي وسيلة فاعلة في بسط سيطرة الإنسان على الطبيعة . باعتبارها نظاماً تقابلياً صورياً ، يحيل التأملي والخيالي والمايثولوجي في بنائيتهِ السوسيولوجية إلى لغة تواصل ، اجتازت بإبلاغها الدلالي ، أعمق نقاط الفهم الاجتماعي .
إن حقيقة الرموز الكتابية كما تظهر في الشكل رقم (1) في رسوم الفخاريات في عصر سامراء ، هو حالة مفاهيمية رابطة بين بنية الدوال (العلامات المرسومة) ومضامينها الكامنة في نسيج الفكر الاجتماعي . وبمعقولية تستند إلى فهم بنية الفكر في زمانهِ ومانهِ . يمكننا أن ننشئ أول مرة قراءة تزامنيه أفقية لبنائية النص اللغوي المرسوم . يَظهر في الحقل العلوي مجموعة من الأشكال النسوية تؤدي رقصة طقوسية ، ومثل هذه الأشكال الرمزية كانت تؤدي دورها بتداعي الأفكار . لذلك يمكننا أن نقيم نظام من العلاقة الدلالية بين تطاير شعور النسوة والجو العام للحدث ، والذي نرجح إنه يجري بعاصفة رطبة من النوع الذي يسبق سقوط المطر ، وهو الفعل الطبيعي لإدامة فعاليات الزراعة . وهنا يمكننا الربط بين غائية الرقصات وفكرة استسقاء المطر . ذلك إن المظهر الحركي للنسوة وصرخاتهن ، لا تفيد إلا في جعل الفرادة ذاتية في خصوصية الروح ، كوسيلة للإيحاء بالبنية المضمونيه للعلاقة . إنها الرغبة والإرادة والطموح في التقاط القادم قبل حدوثهِ حرصاً على تحقيقهِ . لذلك يشير النص الكتابي الرمزي وفي الحقل الثاني إلى تمثيل رمزي لأشكال قطرات المطر وقد انهمرت تواً ، والتي مثلت وفق إيقاعها الكامن في خزين الفنان الذهني ، فمثل هذه التمثلات الرمزية ، تتجاوز المدلول الظاهري للتمثيل الشكلي ، إلى بنائية تتسم باستذكارات أو استدلالات عن الشيء المدرك حسياً . إنها الرمزية التي تحّمل المفردة العلامية تأويلاً وتفسيراً وكشفاً لنظم العلاقات التي تميز الظواهر .
لقد كانت الزراعة ، الرافد الأساسي للاقتصاد والإنتاجي في عصر سامراء ، ومن هنا جاءت أهمية الماء في بنائية الفكر الحضاري لهذا العصر العظيم . فكان تمثيل فكرة الماء في الحقل الثالث من هذه البنية اللغوية الخالدة . إن مضاعفة عدد الخطوط المتموجة ، لهو إبلاغ لتناسل العلامة كي تعبر تأويلاً عن الكثرة ، والخط المتموج هنا، هو الانطباع الكائن في ذهن الفنان عن حركة الموج على سطوح المسطحات المائية والسواقي ، وبشكل يدعو إلى التحرر من قيود المظهرية السطحية والمباشرة ، سعياً لتحقيق وجود حقيقي وجوهري . وعند هذه النقطة من تراجيد الحدث الفكري يمكننا التوقف قليلاً لتأويل الدلالة التي بثتها الدوال بشكل شفرات وقد أحالتها إلى بنية لغوية ، يعتمد فيها المعنى على علاقتها الداخلية المتبادلة ، فتكون المقولة : "إن رقصة شعائرية تأتي بالمطر لتمتلئ الجداول والقنوات بالماء" .
وبدأ الفكر الإنساني في عصر سامراء ، يوجد لنفسهِ ، أدوات هي نظم من الرموز، ينظم بها معطيات الخبرة التراكمية التي أمتلكها . فكان الفن باعتباره لغة ، هو الوسيط أو النظام الثالث ، بين ما هو موجود في الواقع المحسوس ، وبين ما يحيا في الواقع الروحي . فلم تعد الرموز تمثيلاً لأشياء مادية وإنما تعبيراً عن أفكار ، فعملية الفهم تهدف هنا ، إلى رَدّ نمط من الواقع إلى نمط آخر . ذلك إن أشكال المثلثات والتي نظمت بشكل صفين في الحقل الرابع من أسطورتنا السامرائية ، أُريد بها التعبير عن تفعّيل العلاقة المرتبطة دلالتها بفكر الخصب في الطبيعة ، ويؤكد ذلك تماثلها مع علامة الخصب في الكتابة الصورية من عصر الوركاء (شكل –1) . إنها في خصوصيتها الشكلانية ترتبط بفكرة المثلث الأنثوي ، وبدلالتها الاعتباطية ، توحي بجميع أفكار الخصب في الوجود . معمقة الدلالة في نظام العلاقة الرامزة ، والكامنة في بنائية العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول ، لتؤدي فعلها في تعدد الإشكال الرمزية .
ويمكن قراءة العلامة في الحقل الخامس ، على إنها الأرض ، بفعل تطابق بنيتها التجريدية الهندسية مع مثيلاتها في نظام العلامات اللغوية الرمزية من عصر الوركاء (شكل – 1) (بارو ، ص144) . فقد أدرك الفكر في زمانه ومكانه ، أثر قوة الأرض في الوجود ، باعتبارها ظاهرة محركة أساسية في بنائية الوجود ، وأسقطوا عليها تأويلات شتى ، ووجدوا فيها أفكار الإخصاب والنماء والتجدد وقدسوها على إنها الربة الجليلة ، مصدر الحياة والأم الأولى . ولعل في بنيتها الهندسية انتصار لما هو فكري في بنائية الرمز ، بعد أن تراجع ما هو طبيعي إلى مرتبة ثانوية ، ليعمق فكرة الدلالة في بنائية المضمون ، ويكون له بمثابة الحامل .
وأوضح ( ملوان ) : " إن شكل رأس الثور ، هو رمز لعنصر التذكير في الطبيعة، وقد ظهر في رسوم الفخاريات ، بشكل واقعي في البداية ، ثم أبتعدت موصفاتهِ التشبيهية عن سلفها الواقعي ، نحو الأشكال التجريدية مع مرور الزمن " ، (Goff, p.121) . وشكل رأس الثور في الحقل الأخير وفي خاتمة الأسطورة السامرائية ، والذي يظهر تشابهاً شكلياً كبيراً مع مثيلاتهِ من رموز الكتابة الوركائية (شكل – 1) هو تعبير عن النشاط الفكري الإبداعي لإنسان أرض الرافدين ، حين يستعيد الفكر مفردات بيئته ويكسبها مضامين اجتماعية . في صيغة من التفاعل بين ظاهر الشيء وجوهرهِ والذي يرتبط مع مغزى كلي يختفي وراءه هو المضمون الروحي الاجتماعي. فإن رؤية حيوان ، ما هو إلا امتلاء بعدد لا يحصى من التأويلات الفكرية ، فتمثيلُه يوجب جمعها في شكل ، شأنه شأن الفكرة حيث يستوعبها ويغنيها .
والآن يمكن قراءة النص الكتابي في بنائيتهِ الكلية بالشكل الآتي : ( إن رقصة شعائرية ، تأتي بالمطر لتمتلئ الجداول والقنوات بالماء ، ويحلّ خصب الأرض ، لتتناسل قوى الطبيعة بكليتها ) .
وفي محاولتنا فهم الأنساق اللغوية الصغرى ، وصولاً لإعادة تكوين الدائرة الكبيرة للنسق اللغوي في كليتهِ . فإننا نبحث فيما وراء العلاقات العينية ، عن تلك البنية اللاشعورية ، التي تعمل كنظم علاقات وأنساق تركيبية ، وفقاً لفكرة تقاطع الواقع والخيال الأسطوري ، حيث اكتسبت اللغة تماسكها الداخلي المنظم والخاص بها. فكانت في عصر سامراء العظيم ، لغة ذات بنية اجتماعية شاملة ، وكلام ذو محدودية فردية ، وقد جاءت مثل هذه العلامات الرمزية ، لتدوين هذه البنية الأسطورية للفكر ، حيث عمل الفكر بفاعلية على اختراق الظواهر ، بغية كشف عما شعروا إنه يؤلف الجوهر الأساس في ماهية الظواهر . ذلك أن مثل هذه الأشكال الرمزية ، الكامنة في بنائية النص الكتابي السامرائي الخالد ، كانت تنتقل بالمعنى من نطاق الجزئيات إلى حيز الكليات ، وتؤل الشيء من خصائصهِ الفردية إلى التعميم . حيث تجد مثل هذه الاستعاضات الرمزية ، ديمومتها في طقوس دورية وشعائر ، قائمة على العرف الاجتماعي ، وتتجسد في العلاقات الذهنية المشتركة ، وارتباطها الرمزي بوجود الجماعة .
إن العظيم في بنية الفكر الإبداعي لعصر سامراء ، هو تدوين خطابات الفن والأدب ، بشكل خطابات تقوم على الرموز والدلالات الرمزية . وبفعل المشابهة الشكلانية التي تصل لحد التطابق ، بين العلامات الكتابية الرمزية لعصر الوركاء ومقابلاتها من عصر سامراء (شكل – 1) . الأمر الذي يضعنا في الخصوصية المعقولية لأن نرجح اكتشاف الكتابة على أرض الرافدين في عصر سامراء (أواخر الألف السادس قبل الميلاد) . فالموروث الحضاري ، بين عصر سامراء وصولاً لعصر الوركاء ، ما أن يستقر وينتقل من جيل إلى جيل ، حتى تصبح له طبيعة محافظة بل ومغرقة بالمحافظة . ولا فرق لدينا هنا ، في وسيلة الكتابة ، والتي كانت بريشة أو فرشاة وقد أُشرت العلامات الرمزية الكتابية بالألوان على سطوح الفخاريات ، متحولة إلى ما يشبه القلم القصبي لتأشير العلامات الكتابية على الألواح الطينية في عصر الوركاء فالمهم هنا هو فكرة الكتابة . تُرى ما أعظم أصالة الحضارة الرافدينية ، وما أكبر دورها الحضاري في بنائية الفكر الحضاري العالمي . لقد علم إنسان العراق الأول ومنذ عصر سامراء ، العالم الحرف ومنذ أواخر الألف السادس قبل الميلاد ، وذلك لعمري أعظم نصر فكري في التاريخ . حقاً كانت أرض الرافدين مهبط الإلهام الأول .

المصــــــــــــادر :

1. باور ، أندريه . سومر فنونها وحضارتها ، ترجمة وتعليق د. عيسى سلمان وسليم طه ، بغداد ، 1977 .
2. باقر ، طه . مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة . ج1 ، مطبعة الأديب البغدادية ، بغداد ، 1973 .
3. Goff, p. L, Symbols of Prehistoric Mesopotamia, Yale University press, 1963.



#زهير_صاحب (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتابة السومرية


المزيد.....




- فنان مصري يوجه رسالة بعد هجوم على حديثه أمام السيسي
- عاجل | حماس: إقدام مجموعة من المجرمين على خطف وقتل أحد عناصر ...
- الشيخ عبد الله المبارك الصباح.. رجل ثقافة وفكر وعطاء
- 6 أفلام تتنافس على الإيرادات بين الكوميديا والمغامرة في عيد ...
- -في عز الضهر-.. مينا مسعود يكشف عن الإعلان الرسمي لأول أفلام ...
- واتساب يتيح للمستخدمين إضافة الموسيقى إلى الحالة
- “الكــوميديــا تعــود بقــوة مع عــامــر“ فيلم شباب البومب 2 ...
- طه دسوقي.. من خجول المسرح إلى نجم الشاشة
- -الغرفة الزهراء-.. زنزانة إسرائيلية ظاهرها العذاب وباطنها ال ...
- نوال الزغبي تتعثر على المسرح خلال حفلها في بيروت وتعلق: -كنت ...


المزيد.....

- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زهير صاحب - جذور الكتابة الرافدينية في رسوم الفخاريات