أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مَناسكٌ نرجسيّة 6















المزيد.....

مَناسكٌ نرجسيّة 6


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2224 - 2008 / 3 / 18 - 07:51
المحور: الادب والفن
    



قدّرَ لي ، والدنيا على أبواب موسم السّعود ، مصادفة أقلّ نحساً مما يُتحفني بها عادة ً تسكعي . غروبُ ذلك اليوم ، الخريفيّ ، كان مُزدهرًا بأضوائه ، إنما بلا وهم سعادةٍ دانية . رأيتني ، إذاً ، أحاذي سورَ حديقة البرلمان ، لأحيي من ثمّ في أحد الحراس بشاشته وخفارته لحصن الديمقراطية هذا ، الحصين . ولكنّ الرجل سرعان ما كشني ـ كدجاجةٍ من قريته ، البعيدة ، صارخاً في بهجتي : " إنزل من على الرصيف ، ولاه ! " . عندئذٍ ، قلتُ سأكفر بربّ الحاضرة ، إن لم تجلبَ ليَ فرحاً . مسرّتي ، إستعدتها على كلّ حال ، كما وقدميّ الطليقتين ، حينما مرّت بي فتيات ثلاث ، أنيقات المظهر ، عند الجادة المنعطفة من تدويرة " عرنوس " ، لتختلط تحت خميلةٍ ، عابرة ، ظلالنا . ثمّ ما عتمَ أن لبّس عليّ ، في إنفصال إحدى هاته النسوة عن رفيقتيها مودّعة ً ، وإتجاهها نحوَ التدويرة الاخرى ، " الشهبندر " . إذاك ، بانتْ صفحة وجهها ، مجليّة ً ، تحت الأضواء القويّة للشارع الرئيس .

ـ " فريدة .. ! "
ندّت صيحتي ـ كآهةٍ مذهولة . ما تهيأ لي التأكد من ترداد الصدى ، المُنجاب . سوى أنّ خطى الفتاة ، العجولة نوعاً ، تبدّت لعينيّ أكثرَ تمهلاً . لاحق بصري من ثمّ عجيزتها ، المتبدية له أيضاُ أوفرَ رفاهاً ؛ بتكوّرها في ملبس ضيّق ، سماويّ اللون ، يُضافر تفجير تفاصيلها ، المثيرة ، ما تبوّج من برق الجوارب ، الأرجوانية النسيج . ندهتها بصوت مرتفع ، هذه المرّة . بيْدَ أنها إلتفتت نحوي لحظة وحسب ؛ لحظة ، كانت كافية ً لنجمَيْ " العذراء " و " الثور " ، كيما يتبادلان نظرات ساخرة ، مُهيمنة على المشهد المسائيّ . ندائي ، علاوة على مظهري البائس ، ما خففا بحال من إندفاع الخطى ، المستقيم والدائب ، والما لبث أن إنتهى عند بناية تقع في الدخلة الفاصلة بين حديقة " المزرعة " ومبنى " البنك المركزي " . ولجتُ خلف فتاتي ، حالما هبطتْ درجات القبو ، وكأنني ممغنط ٌ بأريج ، طائش ، من عطرها . فتحتْ باب الشقة ، المتوحّدة ثمة ، ليتوهّج من ثمّ المكان العتم بنور صادر عن الردهة . هادئة ً ، أشعلت سيكارة فيما تراوح قدميها برشاقةٍ على عتبة الباب الرئيس . خاطبتني على الأثر : " حسنٌ ، ها أنتَ تعرف الآن مكاني " . صامتاً ، رحتُ أتأمل أناقتها وتبرّجها ، هارباً من وخزة نظرتها . ولكن خيّل إليّ أن ملامح " فريدة " ، الفاتنة ، قد خلتْ من أيّ ذكرى سيئة ، لما إستطردتْ بالقول : " تعالَ ، متى أردتَ ، بعد الساعة العاشرة من مساء الجمعة . نحنُ هنا ، أمَاتٌ كادحات ! " .

***
لكلّ مساءٍ شِقوته وعلّة سياقه . ها أنا ذا هنا ، في أمسية يوم الجمعة ، المُصاقب موعد اللقاء ، المُرتقب ، متمددٌ على الأريكة وبيدي كتاب " اليوميات " ، المخطوط . ريحٌ خريفيّة ، مُتمادية الإدامة ، منعتني من قصدِ السوق ؛ أين الدروب المُبهجة ، المُنارة ، للحيّ الراقي ، المُعتادة على تسكعي المُتضجّر . لم أتعجل المضيّ إلى مسرّتي هذه ، ما دمتُ على موعدٍ مع مسرّة اخرى ، آجلة . وكذا الأمر ، فيما تناهى من صدى الإطلاقات الناريّة ، المُتناهية لسمعي آنئذٍ ، والتي لم أعبأ بها ما دامت متأتية من آماق أبعدَ من الحارَة وحربها ، الأهليّة . صفير " نوروْ " ، المألوف ، كان عليه أن يحثني للتناهض والتوجّه إلى الشرفة . أبصرته ثمة ، مستنداً على حائط المنزل المُجاور . ثمّ ما عتمَ ، وسط دهشتي ، أن تحرّكَ مُصعّداً نحوَ صدر الزقاق ، دونما إجابة لتلويحة يدي بمفتاح الباب ، الخارجيّ .

ـ " ما الأمر ، بالله عليك ؟ "
ـ " قتلوا " عيسى " ؛ هذا كلّ ما في الأمر "
أجابني بهدوء ، فيما سحنته مُضاءة بنذر عصيّة على العاطفة . أخذ كلّ منا يُحدّق بالآخر ، صامتاً دوماً . وأذكرُ من تلك البرهة ، أيضاً ، أنّ خصلات شعر صديقي ، البليلة ، أوحت لي بمكوثه زمناُ تحت المطر ؛ وأنّ المشهدَ ، اللاحق ، الذي شافه بصري كان أشبه بأضغاث كابوس . وكانت الجثة الرثة ، قد لاحت لعينيّ من بعيد ، متمددة إزاء بناء ، عشوائيّ ، من عدة أدوار ، مشغول من لدن أسر غريبة ، ريفيّة المصدر . ولكن ما كان ثمة مخلوق ، في هذه البقعة المدميّة ؛ اللهمّ إلا كلب شريد ، ما لبث أن فرّ إثرَ رمية من حجر ، غاضب . القتيل ، المتوحّد ، المستلقي على ظهره ، بدا برجليه المنثنيتين ، كما لو أنه فجأ الموتَ بإسترخاءٍ ، لا مبال . بيْدَ أنّ وجهه المغطى تماماً بالدم ، جعل فكرة خرقاء تعتملُ في نفسي . هكذا رأيتني أخرق الصمتَ ، متسائلاُ : " من أين لقريبنا ، " عيسى " ، هذه الجثة الجبارة ؟ " .
ـ " لو لم نأتِ ، على عجل ، لما أبقت الكلاب على جثته " ، أجابني " نورو " وكأنما لم يفهم مُرادَ كلمتي . فيما بعد ، أدركتُ أنّ جواب صديقي هذا ، إنما كان من واردات هذيانه ولا شك . إذ كان هوَ ، بنفسه ، مع قريبنا المغدور ، في ذلك المساء اللعين ، الشاهد على الجريمة . كانا إذاً قادمَيْن من جهة حارَة الشراكسة ، حينما باغتهما خروج شبح رجل ، مترصّد . وعلمتُ منه كذلك ، أنّ " عيسى " ، الأعزل ، إندفع بلا وعي ، متحدّراً على الدرجات العتمة ، المُفضية لمدخل الزقاق ، فيما كانت الطلقات تلاحقه .

وحيداً ، عدتُ أدراجي إلى الزقاق ، فيما المطر بدوره عادَ للتساقط موجة ً إثر موجة . وكالمسرنم ، وجدتني عندئذٍ أنعطف نحو دخلة " قادريكيْ " ، لأفتح من ثمّ باب الدار الكبيرة ، الذي لم يعرف ، عبر تاريخه الأزليّ ، مزلاجاً . إمتلأ داخلي برهبة حضور الطيف ، في إقترابي من البقعة المُظللة بهامة تينة السبيل . إذ بدا ثمة ، أمام باب تلك الحجرة ذاتها ، المسدود بجرم العمّ . خيّل إليّ عندئذٍ أنّ الحضورَ ذاكَ ، المُطيّف في العتمة ، قد ولى نحو مجهلته ، ما أن أحسّ بوجودٍ دخيل . وهوَ ذا " قادريكي " ، على الأثر ، يتطامن نحوي بظله العملاق . كلماتي ، البليلة بدموع السماء ، راحتْ إذاك تنهمرُ على مسمع العمّ .
ـ " إذهبْ من هنا ، أنا لستُ حفارَ قبور ! "
قطع كلماتي بصوته ، المُصمّ ـ كالرعد المدوّي للتو ، والمسبوق بالبرق النذير . باب الحجرة ، ما لبث أن غيّب الرجل الغاضب . بيْدَ أنني ، مُرتعشاً ، لبثتُ متسمّراً بمكاني ، فيما بصري يلاحق طيفَ الأمّ ، الثكلى للتوّ ، الهائم في الغلسة ثمة ؛ أين شجرة التين ، النائحة ، المُهتزة بفروعها وشرائطها .

***
في سرير ضمّني والغريبة ، أسدلتُ سجُفَ عينيّ على المنظر المدميّ ، المتخلف عن ذلك الليل ، الداهم ، من يوم الجمعة الفائت . إثر وصلة المضاجعة ، الصخابة ، حلّ الصمتُ مجدداً بيننا . مذ مستهل السهرة ، ما كان لي من حديث مع فتاتي ، سوى ذلك المتصل بأمر قريبنا ، المغدور . ضجرة ً ، ولا غرو ، تناهضتْ هيَ نحوَ بار الصالون ، العامر ، لتجتلب من ثمّ قدحين من الويسكي ، مُترعين . " بماذا تفكر ؟ " ، سألتني فيما تنفث بعصبيّة ضباب لفافتها .
ـ " لا شيء "
ـ " يبدو لي أنكَ تضايقت ، بسبب إستفهامي منك عن صديقكَ ذاك ، الذي كان شاهداً على الجريمة ؟ "
لعنتها ، في سرّي ، لما كان من نبشها تربة خزيي . وعلى هذا ، رأيتني أطلقُ ضحكة ساخرة ، مصطنعة . حركتي هذه ، الطائشة ، جرحتها ولا شك . أفلتت جسدها من حضني ، ثمّ إستقامت على كوعها مثبتة بعينيّ عينيها السوداوين ، الغائمتين :
ـ " إنكَ مُكابر . وحتى شعور الغيرة ، الطبيعي ، تودّ إنكاره "
ـ " أرجوكِ ، " فريدة " ، لا حاجة بكِ لهذا الكلام "
ـ " أنا أعرَفُ الناس بصفتي ، فهلا عرفتَ أنتَ نفسكَ ؟ "
ـ " لقد بحثتُ عنكِ طويلاً . وتعذبتُ . هذا ما يتوجّب عليكِ معرفته "
ـ " ما أن تُشبعَ رغبتكَ مني ، حتى أغدو بالنسبة لكَ جثة ً ، لا مشاعرَ لها "
ـ " هلا هدأتِ ، على الأقل ؟ "
ـ " إنكم سواءُ ، معشر الرجال . وأنتَ ، نفسكَ ، أحقّ بالرثاء " ، قالتها وظلّ إبتسامة ، بارقة بالسخط ، راحتْ ترتسم على شفتيها ، الرقيقتين . كدتُ أهمّ بصفعها ، وقد أثارتني بدورها . على أنني آثرتُ ، مُسالماً ، عدمَ تأجيج الموقف المتوتر . رأيتني هكذا أتناول إحدى الوسائد الصغيرة ، فأقذفها بحركة مازحة نحوَ فتاتي الغاضبة . خمَدتْ ثورتها ، من بعد ، فعادت للإسترخاء قربي . من جهتي ، إستسلمتُ من جديد للصمت والخمرة . لا جاذبَ ، مرئياً ، ليشدّني إلى أرض الواقع هذه ، المفترشة بالصخر ، القاسي . فلتفتح الغريبة ، إذاً ، ما شاءَ لها الحنينُ للبحر ، محارة َ قلبها . وكانت قد حدثتني قبلاً عن موطنها الأول ؛ " أوغاريت " ، عروس الساحل الفينيقيّ : الموج المُفضض ، وقد علاه زبدُ المدّ الصباحيّ ؛ مشاوير المساء ، الحميمة ، على " الكورنيش " ؛ ومسقط رأسها في " القريَة " ، المتفاخرة بكونه أضحى الآن أحد أحياء المدينة ، بإتصالها به عبرَ مدّ العمران والمواصلات . إلا أنّ " فريدة " ، المحتسية عدداً لا بأس به من الأقداح ، قد تناهتْ الليلة في الذكريات حدّ إهدار دموعها . ومن مجمل ما إستعادته ، إستقرّ في بئر ذاكرتي حصى مراهقةٍ ، مُداسة .

كانت في الخامسة عشر من عمرها ، حينما حلّ مستأجرٌ ، غريب ، في بيت عمّها ؛ هذا المتداخل مع بيتهم خلل البستان المشترك ، المستزرع بالخضار وعبّاد الشمس ، والمظلل بالأشجار المثمرة والبريّة . قدمَ الشابُ من إحدى ضواحي " حلب " ، كيما يخدم جنديّته الإلزاميّة في القوى البحريّة . والمفروض أن يعود بعدئذٍ إلى موطنه ، ليواصل عمله ـ كمدرس إبتدائيّ . وكما هوَ مألوف في الأقاليم ، فقد كررَ الأستاذ حكاية ً معروفة التفاصيل ، لا أكثر . لم يعمد هوَ لإغواء فتاتنا . لا بل أبدى إنكفاءً ، مشهوداً ، قدّام حيويتها وجسارتها وفوّارة جسدها ، الساحر . إعتاد مُصادفتها أمام جبّ الماء ، المنزليّ ، وكأنما تترصّد حركاته . عندئذٍ ، تبادر إلى إملاء دلوه بهمّة ، متثاقلة ، فيما هيَ تتأمّل ملياً خضرة عينيه . وما كان مصادفة ، عل كلّ حال ، إنحسار ثوبها عن آخر نجمة ، منقشة في بيرق السروال ، المنمنم ، في كلّ مرة تسقي فيها شجيرات الحقل ، التي تبعد خطوات قليلة عن حجرته ولحاظه ، المشدوهة .

في ليلة صيف ، محفورة في ذاكرتها أبداً ، إنسلت الفتاة من فراشها ، مشتعلة البدن بالحرّ والرغبة المراهقة . متيقنة ً من نوم الجميع ، بما فيهم دويبات الدار ، وجدَتْ دربها إلى الفضيحة هادئاً . بدنوّها من حجرة الغريب ، الغارقة في عتمة بهيمة ، فقد خيّل إليها أن شبحه ثمة ، متناهض خلف الباب المُشرع . همّت بالتراجع ، أمام خوف دخيل داهم ، حينما ميّزت عيناها هيكل ماكنة الخياطة ، المتعطلة ، عن جسده شبه العاري ، المستلقي على الفراش ؛ الجسد الفحل ، المهوّم تحت ضوء البدر الساطع ، والمُلتحف بطانية تفوح منها رائحة الثكنة . دونما عناء ترددٍ أو تفكير ، إندسّت هيَ في فراشه وأعطته ظهرها الصلب ، الجريء ، فيما لحاظها تجول في أشباح الحقل ، النائمة . غطيط الشاب ، المُسترسل على سجيّته ، أفقدها رشدها . هيَ ذي تتثنى فقرة ً فقرة ، مُغرقة مؤخرتها الطريّة في مستنقع حلمه ، حتى جازَ لها الإطمئنان نوعاً لإفاقة صلبة ، غامضة ، للشيء المرجو . الصمت ، حلّ في الكون كله ، كيما يُتاح للطائر ، المذعور ، أن يخفق جنحه في فضاء جسدها ، المُتجرّد للتوّ . الكف الحبيبة ، الخشنة ، إمتدت نحو الرّدف ، محاصرة إياه ، كما يجدر بحصن بهيّ ، منيع . ثمّ بادرت هيَ لإستلام زمام الهجوم ، طالما تواصل السجال في أرض غيرَ مناسبة . الأفعوان الأخرس ، كان إذاً ينسلّ بحرمان العصور ، المزمن ، نحوَ فجوة فريسته ، الأشهى ، لما إنطلقت في العتمة المتراميَة صرخة ٌ ثاقبة .

***
" فريدة " ، عادت إلى إشعال سيكارة جديدة . بسمة ساخرة ، لاحت على شفتيها ، فيما كانت تتابع سيرتها : " فرّ المحاربُ ، بعيدَ لحظات من إفاقة جلبة الدار . ضاع في العتمة ، شبه عار ، متأبطاً بسطاره وملابسه العسكرية . حقيبة رثة حسب ، محتوية سترة مدنية وبعض لوازم تافهة ، تخلفت عن المستأجر ـ ذكرى لعاري . وكانت أصواتٌ فتيّة ، متهاتفة ، قد أحدقت بالحجرة ، ما عتمَ أن قطعها وصول إمرأة عمّي . أزاحت أولادها جانباً ، فيما تطلّ عليّ بيد تحمل مصباح الكيروسين . ثمّ ما لبثت أن وضعت المصباح على قاعدة ماكنة الخياطة ، وأنشأت تقذفني بشرر متوعّد من عينيها ـ كماكنة جهنميّة . لم تهتم هيَ لنظرات زوجها ، المُتطفلة ، المُسددة على عريي الملتحف بالبطانية ، بل طلبت من أحدهم الذهاب لإحضار الأمّ : " لتأتِ وتشهدَ ، بنفسها ، منظر ذريتها الصالحة " . والدتي المسكينة جاءت ، على كل حال ، وكانت على حالة محزنة من الإضطراب ، ليتلقاها العمّ يهياج حاقدٍ ، لم أع مفرداته ، المسعورة " . ضحكة طفوليّة ، ندّت من فم " فريدة " ، المُسترسلة في الحكاية : " عندما سألتني أمّي ، وهيَ تلطمني وتشدّ شعري ، عما فعلته بنفسي ، فإنني أجبتها ببراءة مروّعة : " إنه الدبّ " المطاربيْ " ، يا أمّاه " .

ـ " وما هذا ، أيضاً ؟ "
سألتُ " فريدة " قاطعاً سردها . أوضحت لي وهيَ تعاود الإبتسام : " إنه ذكر الدبّ ، الجبليّ . وأهالي منطقتنا ، يعتقدون بإمتلاكه لشبق عجيب تجاه النساء ، وبالأخص العذراوات منهنّ . ويقال أنه يعمد طوال يومه إلى تشمم الدروب والحقول والينابيع ، بحثاً عن طريدته . والفتاة التي تحاول المقاومة ، يقتلها حالاً . ولكنه عادة ًيدع طريدته تمضي بسلام ، إذ أشبع وطره منها ، وربما أهداها فاكهة أحياناً ! " .
ـ " كيف ظهر في حياتكِ ذاك الرجل ، الآخر ؛ " زين " ؟ "
ـ " يبدو أن حكايتي أضجرتكَ ؟ "
ـ " لا ، أبداً " ، قلتُ لها ، مظهراً إهتمامي ، فيما أصبّ الشراب الناريّ في كأسينا .

ظهرَ السيكلوب ، إذاً ، في ظرف مناسب ، مألوف . لم يتكرّم الرجلُ على شقيقة أرملته بعرض " السترة " ، بلا سببٍ وجيه . كان في حدود الأربعين من عمره ، وبدون ذريّة . وسبق له الزواج من إمرأة اخرى ، طردته بعد أقل من شهر على الزفة . منذئذٍ ، عاش متبطلاً ، متسكعاً ؛ هوَ العالة أصلاً على أمّه ، العجوز ، شبه الضريرة . بدورها ، حظيت هذه المرأة بصيتٍ غير طيّب في " القرية " ؛ وأنها ساحرة ، شريرة . ويقالُ أنها تعهّدت في بيتها حيّة ، رقطاء ، وكانت تطعمها فاخر الطرائد من صيد إبنها . حتى إذا دبّ الجفاء بينهما ، فإنها راحت تربّي أداتها تلك ، الموسويّة ، على ضغينته . يستسلم العاق للنوم ، في قيلولة صيف حار ، ولا تلبث الحيّة أن تزحف نحوه . ولكن عين سيكلوبنا ، الوحيدة ، كانت أكثر يقظة . أطلق ببرود خرطوشتين من بندقيته على هدية الأمّ ، السامّة ، ثمّ ما عتم أن مضى بالجيفة إليها . " لن تفرحَ طويلاً ! روح الحيّة هذه ، حلتْ مذ اللحظة في جسد إمرأة ، ستهلككَ " ، كان الأخرقُ يرددُ ، متفاخراً ، وصيّة أمّه .

هكذا وافق العمّ على قران " فريدة " بزين الرجال . قررت إمرأته ، تشفياً ، أن تكون الحجرة تلك ، الشاهدة على الفضيحة ، مأوىً للزوجين ، السعيدين . وما كان للعريس إلا أن يُسرّ للأمر ؛ هوَ المتشرد ، بلا سقفٍ ، بعدما سبق لأخوته أن طردوه من بيت الأمّ ، إثر وفاتها . " فريدة " ، حاولت الهربَ في تلك الليلة ، الإعتباطيّة ، التي عمّدتْ بها عروساً . فما وجدَ أولي أمرها مناصاً إلا تقييدها ، عارية ، إلى السرير ، كيما لا تعيد المحاولة . حتى إذا دخل عليها " زين " بأسماله وترنحه ، الثمل ، فقد هزّ رأسه أسفاً . بادرَ إلى حلّ وثاقها ، ومن ثمّ رميَ ملابسها إليها . " سأنام على ا؟لأرض ، فهذا مريحٌ لظهري . بإمكانكِ شغل السرير ، ما طاب ذلك لكِ ! " ، قال لها بلا مبالاة وهوَ يتثاءب . ولكنه إستطردَ يوصيها بحرص ، يقظٍ : " سيكون باب الحجرة موصداً ، دوماً .. هه ؟ " . لم يصدّق نبوءة أمّه ، تماماً . كان قلقاُ من إحتمال آخر ؛ وهوَ أن تكون العجوز قد سبق لها ، قبيل موتها ، أن ربّت حيّة اخرى ، مهلكة .

* يليه الفصل الثالث من الرواية ، وهوَ بعنوان " أقاليمٌ مُنجّمة "

[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سطوٌ على المنزل الأول
- مَناسكً نرجسيّة 5
- القبلة المنقذة في فيلم للأطفال
- مَناسكٌ نرجسيّة 4
- من جسر ثورا إلى عين الخضرة
- مَناسكٌ نرجسيّة 3
- مَناسكٌ نرجسيّة 2
- مَناسكٌ نرجسيّة *
- دعاء الكروان : تحفة الفن السابع
- ميرَاثٌ مَلعون 5
- ميرَاثٌ مَلعون 4
- ذهبٌ لأبوابها
- ميرَاثٌ مَلعون 3
- ميرَاثٌ مَلعون 2
- ميرَاثٌ مَلعون *
- كيف نستعيد أسيرنا السوري ؟
- أختنا الباكستانية ، الجسورة
- جنس وأجناس 4 : تصحير السينما المصرية
- زهْرُ الصَبّار : عوضاً عن النهاية
- زهْرُ الصَبّار 13 : المقام ، الغرماء


المزيد.....




- 6 أفلام تتنافس على الإيرادات بين الكوميديا والمغامرة في عيد ...
- -في عز الضهر-.. مينا مسعود يكشف عن الإعلان الرسمي لأول أفلام ...
- واتساب يتيح للمستخدمين إضافة الموسيقى إلى الحالة
- “الكــوميديــا تعــود بقــوة مع عــامــر“ فيلم شباب البومب 2 ...
- طه دسوقي.. من خجول المسرح إلى نجم الشاشة
- -الغرفة الزهراء-.. زنزانة إسرائيلية ظاهرها العذاب وباطنها ال ...
- نوال الزغبي تتعثر على المسرح خلال حفلها في بيروت وتعلق: -كنت ...
- موكب الخيول والموسيقى يزيّن شوارع دكا في عيد الفطر
- بعد وفاة الفنانة إيناس النجار.. ماذا نعرف عن تسمم الدم؟
- الفنان السوري جمال سليمان يحكي عن نفسه وعن -شركاء الأيام الص ...


المزيد.....

- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مَناسكٌ نرجسيّة 6