محمود الحريبات
الحوار المتمدن-العدد: 2209 - 2008 / 3 / 3 - 07:38
المحور:
الادب والفن
حكم بروكلمان على اللغات السامية بما فيها اللغة العربية خلوها من الصياغة التركيبية , ونسي هذا العالم الألماني الذي ولد سنة 1868م وتوفي سنة 1956م . أن في اللغة العربية ظاهرتان متماثلتان هما : ظاهرة الحركة الاشتقاقية فيما تلده وتحييه ,وظاهرة الصياغة القالبية فيما تسبكه وتبنيه ,فقد أدهشت هذه اللغة بأبنيتها المتكاثرة العلماء, وحاولوا أن يحصوا صيغ الأسماء والأفعال، لعلهم يحصرون القوالب التي يبنى منها ألفاظهم ,وأول عالم عد أبنية الأسماء سيبويه في الكتاب , فأورد للأسماء ثلاثمائة مثال وثمانية أمثلة , وجاء بعده أبو بكر بن السراج زاد على سيبويه اثنين وعشرين مثالاُ , وزاد ابن خالوية في كتابه : )كتاب ليسَ) . أمثلة يسيرة .
وجمع السيوطي الأمثلة التي وردت عند العلماء الذين جاءوا بعد هؤلاء العلماء ألف مثال ومائتا مثال وعشرة أمثلة. وقسم العلماء الأسماء إلى : ثلاثي و رباعي وخماسي . الثلاثي مجرد ومزيد , والمجرد مضعّف وغير مضعّف، وكذلك المزيد : مضعف وغير مضعف، ثم الرباعي والخماسي , ورغم الخلط الذي حدث بين صيغ الأسماء وصيغ الصفات . و الحق أننا إذا تقصينا الكلم العربي وجدنا كل لفظ فيه يرتد إلى قالب حُذي على مثاله إلا أن يكون حرفاً أو ظرفاً جامداً, رغم أن بعض العلماء يرون أن الحروف والظروف اشتقت أيضاً من صيغ مستعملة جارية. وأتفق العلماء أن لكل اسم صيغة وان لكل فعل وزناً وأن من الأبنية ما تشترك صياغته بين الأسماء والأفعال.
وأما الأفعال , تمكن الصرفيون من ضبطها وحصرها , وأنها لا تتجاوز بضعة وعشرين بناء , وهي في دراسة الفعل: ثلاثياً ورباعياً مجردين و مزيدين بمعانيهما الداخلة تحت كل قالب من قوالب هذه الأوزان . فكل هذه الحقائق الدقيقة يعرفه المشتغلون بأبحاث الصرف , ومن جهلها منهم خفيت عليه أصول الكلمات فلم يكن صرفياً . ولكنها رغم وجوب العلم بها , تظل تبعد بصاحبها عن مصنع القوالب اللغوية الذي تسبك فيها كل لحظة ألفاظ جديدة على نمط الأوزان تلبية لحاجات الأفراد والمجتمعات واللغة العربية مستغنية بقوالبها المتناسقة مع معانيها وبدلالاتها المعبرة عن مدلولاتها , على أن تلصق بها تهمة الجمود وهي أم اللغات في الاشتقاق والتوليد .
فمثلاً الجموع القياسية سالمة وغير سالمة . وطرق التصغير , والمصادر المتغايرة , وأشكال التأنيث و التذكير هي من خصائص اللغة العربية التي لا تضارى في الصيغ والأوزان . ولا ننسى أن جزءاً كبيراً من اللغة يؤخذ بالقياس , ولا نستطيع الوصول إليه إلا عن طريق التصريف , فعن طريقهما مجتمعان نستطيع سبك القوالب وبناء الأوزان , وتشكيل الصيغ فهناك نسب قريب بين التصريف والسبك القالبي، ونجد تناسباً بين الصيغ والتصريف , في تحديد دلالات الأبنية فمثلاً: صيغة (فاعل ) تدل على المشاركة الحقيقية للفاعل , والمجازية للمفعول عندما تقول:خاصم وجاذب والتكثير نحو ضاعف , والموالاة نحو تابع ,وغيرها من الصيغ ودلالاتها.
ونسي بروكلمان أن اللغة العربية هي أكثر لغات العالم قابليةً للتجديد والتطور , ونذكر على سبيل المثال لا الحصر جُددت أوزان قديمة وذلك عن طريق توسع دلالاتها , أو تجديد معانيها فمثلاً: وزن (فعلان) هو من المصادر التي تدل على الاضطراب مثل ( الغليان ) . مصدراً من غلى , فالتجديد في قولنا (هرمان) وصفاً من هرم , ولا يوصف به كل شيخ هرم , بل يوصف به كل من بلغ من الكبرعتياً حتى بات يضطرب من الهرم .
ونحن لا نقدح في المستشرقين ولا ننكر أنهم قدموا خدمات للغة ولكن ما يقدموه للعربية لا يخلو من بعض السموم المخفية بين طيات هذه الفوائد , ونحن لا نستغرب من بروكلمان , وجورجي زيدان وشاده , أن ينكروا أموراً في اللغة والدين ونحن موقنين بأن هؤلاء لهم باعُ طويل في الاشتقاق و النقل المجازي , والإدخال و التعريب , والنحت , وهذه الظواهر هي من أهم الظواهر التي حوتها واعتمدتها اللغة العربية في تطوير صيغها وأوزانها .
فنجد جورجي زيدان في ( الفلسفة اللغوية ). يتحدث عن الأوزان المهملة التي اندثرت وأُميتت , نجده يخوض فيما لا يعلم , ويتطفل على ميدان اللغة العربية وليس من أهليه،حين نجده يؤكد الأثر العبري في العربية من نحو وإهمال بعض أبنية العربية من نحوٍ آخر، يقول في أصل تاء: ( تفعل وتفاعل ). كيف تأتّت لها هذه الخاصة , وعند البحث والمقابلة في أخوات العربية يظهر لنا أنها بقية (ات) . أو ما يعادلها , وهي لفظة لم تزل مستعملة في العبرانية بمعنى (ذات). ويقول أيضاً : ليست هذه كل مزيدات الأفعال في العربية , وإنما هي ما غلب استعماله منها . وهناك مزيدات كثيرة أهملت واندثرت .
ولكن الغريب أنه يحاول بعد أن زعم انقراض بعض الأوزان يأتي بأمثلة على الصورة التي كان يتخيلها لما ظن فيه الاندثار والإهمال . وإن كان هذا الرجل يعلم أن ما يقوله على هذه الأوزان لا يصيب الحقيقة في شيء وإنما هو السم الذي يُدس في الدسم من قبل المستشرقين في اللغة العربية والدين .
وأتوجه إلى بروكلمان الذي أنكر على العربية الصياغة القالبية . أليس هو ومن على شاكلته اطٌلعوا على المعاجم العربية وخاصة رائد المعاجم شيخنا الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي بنى معجمه على مخارج الحروف وصاغ من هذه الحروف صيغ العربية , وتبعه تلميذه النجيب سيبويه وابن جني اللذان أثنى عليهما معظم المستشرقين , ثم جاء ابن منظور وأحصى مواد اللغة العربية في ثمانين ألف مادة وبيّن المستعمل منها والمهمل , وعندما نبحث عن مادة في معجم لسان العرب تجد جميع صيغ هذه المادة. فكيف لا يعلم بروكلمان وجورجي زيدان بهذا كله ؟ ولحسن حظي كانت أطروحة الدكتوراه :( دراسة صيغ المفردات ومعانيها في معجم لسان العرب لابن منظور ). وكنت أركز على أن قوة اللغة تقوي القياس نتيجة لذلك تكثر الصيغ القياسية , ويكثر ما يستعمل من صيغنا ويدخل معمل السبك القالبي ألفاظاً و مفرداتاً كثيرة في اللغة تساعد على نشر اللغة واستخدام مقاييسها في أغراض حياتنا , ونبعد عن هذه اللغة شبح الجمود وتعطيل نشاطها .وتبقى اللغة أداةً حيةً طيعةً في أيدي أبنائها وعلمائها وتستوعب كل جديد . ونزف البشرى لأبناء اللغة أن لغة القرآن حية ويسخر الله لها من أبنائها في كل زمانٍ ومكان من يقف بالمرصاد لكل من يحاول أن يمس هذه اللغة بسوء أو يحاول أن يفتري عليها .
أهم المراجع :
1-brockelman , grundriss,i.s.5
2- السيوطي : المزهر في علوم اللغة .
3- ابن جني : سر صناعة العرب .
4- سيبويه : الكتاب .
5- الخليل بن أحمد _كتاب العين _ تحقيق د/ درويش .
6- محمد المبارك: فقه اللغة .
7- جورجي زيدان : الفلسفة اللغوية.
8- د/ محمود محمد الحريبات / أطروحة دكتوراه /دراسة صيغ الألفاظ ومعانيها في معجم لسان العرب لابن منظور .
9- د/ رمضان عبد التواب : المدخل إلى علم اللغة .
#محمود_الحريبات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟