عبداللطيف الحاجي
الحوار المتمدن-العدد: 2208 - 2008 / 3 / 2 - 08:32
المحور:
الادب والفن
في لحظة تفكير وكتابة،دخل علي رجل في أسمال دونما استئذان،نظر إلي نظرة شزراء،تنبئ عن حقد دفين في نفس الرجل تجاهي،في البداية ظننته أحمقا ثم متسولا،لكن لا هذا ولاذاك،فالرجل في كامل صحته العقلية،كما تبين فيما بعد،وهو كذلك ليس متسولا،إذن فهو من البدو الرحل ،فمنظره يحيل على ذلك،سأنتظر وأعلم فيما بعد من يكون هذا الذي أحدث في نفسي جزعا بتصرفه،تجلدت وقلت له والخوف يتملكني،رغم أنني أحسست ببعض الوقار تجاهه فلحيته البيضاء وسحنته التي تدل على إنسان وقور أكسباه أبهة وهيبة لا مثيل لهما ،قلت له"أيها الرجل، غريب لا أعرفك،تدخل بيتي دونما استئذان،وتنظر إلي هذه النظرة الشزراء،وكأنك تجعل نفسك في مقامي،وتجعلني أنا ضيفك"،لم يغير كلامي من هيئة الرجل في شيئ، بل لقد أكسبه قوة وثباتا فوق قوته وثباته، وقال بلهجة حادة:"ما للفتى أعزه الله،يلقاني بوجه الزقوم،ويراني فلا يقوم،ألست لقيامه أهلا،لعن الله أكثرنا جهلا،وأقلنا فضلا،وأخسنا أصلا".
زادت هيبة الرجل في قلبي ووقاري له،فوقفت له إجلالا،ودنوت منه وقبلت يده،مع أنني لا أعرفه،لكن هناك إحساس جذبني إليه،إحساس بأن الرجل ليس غريبا عني فالقلوب تعرف بعضها قبل النفوس، وضعت له كرسيا أمام مكتبي،وطلبت منه التفضل بالجلوس معتذرا بأن الكرسي لا يليق بمقامه.لم يقبل إعتذاري بل لقد استهجنه وقال لي بكل تواضع وبلهجة تخالف التي حدثني بها في المرة الأولى تماما:"لو كانت الأرض مفترشك يا بني لجلست عليها راضيا بل راغبا،فما كان عيشي إلا أكثر ضنكا من عيشك.".
ثم وضعت كرسيا وجلست عليه من حيث يقابل وجهي وجهه ثم قلت له:"يظهر من سيماتك أنك مسافر عانيت مشاق سفر طويل،فهل تحتاج إلى طعام أوشراب؟"،فقال:"سفر أطول مما تتصور ،هو سفر مني وإلي،هو سفر من حياتي الأزلية من صورتي التي سأبعث عليها وعودة إلى ما كنته قبل الممات،عانيت فيه أشد ما يعانيه الرجل الجلد الصبور،ولكن لا حاجة لي في طعامكم ولا شرابكم،فهما محرمان علي إلى حين مغادرتي." قلت في ذاتي:"الرجل تارة عاقلا ، وأخرى يبالغ في الهذيان".
قال متمما حديثه:"أما قولك في البداية عن نظرتي الشزراء،فها أنت قد تجنبتها بسلوكك وكلامك الطيب،وأما عن غرابتي فهذا بعيد عن الصواب،لأنني أقرب منك إليك،لو كنت مدينا لأحد بجلستك هذه في مكتبك وكتابتك لخواطرك الأدبية فهو أنا ذلك الشخص،لفظتني الحياة إلى مثواي الأبدي قبل أن يلفظك العدم إلى الحياة ،ولأنني عشت حياة قهر واستنكار فإنه كان علي لزاما نقل روحي إلى جسد آخر،ليعيش ما عشت أنا،ويثبت ذاتي من خلال إثبات ذاته والذي لم أصل إليه في حياتي ،فاخترتك أنت بعد ولادتك،ولم يكن الإختيار عبثا،قصتي طويلة جدا، ومن الصعب عليك فهمها،سأحكي لك خلاصتها على سبيل الإقتضاب،وبعد ذلك أحكيها لك كاملة.
أنت الآن يابني تتحدث بلساني وتتحرك بحركاتي،وكل ما تقوله اليوم،وما ستقوله غدا،كنت قد قلته أنا في لحظات حياتي،لا شك أنك تحس دائما بالحنين إلى الماضي،إلى أمجاد أجدادك،وحتى تفكيرك هو قديم نسبيا بالنظر إلى الزمن الذي تعيشه،إنك حينما تفكر في الإستعمار تحس وكأنك أحد ضحاياه،تحس بمرارته وتتصور نفسك حاملا السلاح مشاركا في الحركات الوطنية أنذاك،ترفع صوتك منددا بالقتل الذي يتعرض له الأبرياء وتطالب بإرجاع الملك المنفي إلى أرضه ووطنه،تتذكر عبدالناصر وتتمنى لو كنت من أحد جماهيره وهو يلقي خطاباته الحماسية فتدب إلى نفسك دبيبا وتوقظ فيك روح الدود عن الوطن،تتذكر كل هذا وتتبوأ لنفسك موقعا منه وكأنك عايشته،ولا شك أيضا أنك تقول عند كل خطوة تخطوها،وكل كلمة تتفوهها،لقد خطوت هذه الخطوة في يوم من الأيام وهذه الكلمة التي نطقتها هي أيضا قد سبق لي وأن نطقتها،لكنني لا أدرك متى بالضبط.
وقفت مندهشا مما أسمع وقلت له في حيرة:"صحيح كل ما قلته،لكن قل لي بربك من تكون؟"
قال:إن إحساسك ذاك ،هو ليس نابع منك،بل هو إحساسي أردت له أن يكون فيك.
إن الإنسان يا بني،حينما يكون في حياته عظيما من العظماء،ولكن زمانه تنكر له فعاش منبوذا ثم مات دون أن ينال حقه من الحياة،أنذاك يكون مسيرا لا مخيرا في نقل روحه إلى أحب الناس إليه ويكون مخيرا فيمن ينقل إليه روحه. ولأنني عشت عظيما غير معترف بقدري ومكانتي ومت منبوذا دون أن أنال ما يجب أن أناله ،خيرت فيمن أود أن أنقل إليه روحي ،فوقع الإختيار عليك،أنت حفيدي الوحيد،وابن أعز أبن إلي ، أبوك كان أحب الناس إلى قلبي،لقد ولدت وعشت يتيما أديبا حزينا فقيرا ومت متألما،كانت لدي كتابات شعرية راقية،ومقامات وقصص نادرة،كنت لا أكتب للحاضر بل للمستقبل،لأنني لم أكن أعيش الحاضر بقدر ما كنت أعيش المستقبل،كنت أكتب قصصا أحداثها لم ولن تقع في زمان كتابتها ،كنت أرسم للأجيال القادمة الطريق،ولكن كان يمحوه من يكنون لي العداء،لما خرجت بكتاباتي إلى الناس تنكروا لها،وأمر المسؤولون بإحراقها،رموني بالزندقة،واتهموني بإفساد الشباب،سجنت،ولكنني لم أهتم للسجن،لأنني كنت كما قلت لك لا أعيش الحاضر بقدر ما كنت أعيش المستقبل،الوحيد الذي أولى إهتماما كبيرا لكتاباتي ،هو إبني الذي هو والدك،والذي لم تره في حياتك قط،لقد توفي وأنت في بطن أمك،أما أبنائي الثلاثة الأخرين،فإنهم قد سلكوا ما سلك الناس،واتهموني بما اتهمني به الناس،والدك الذي أحبني أكثر من نفسه،وأطلق علي لقب بديع الزمان،لأنني كما كان يقول أبدعت في الزمان وللزمان،ولذلك اخترت أن أحل بروحي فيك،أعود للحياة مجددا،وأبدع عن طريقك في الزمان،أنت الآن تحب الآداب بجميع أنماطه لأنني أعيش داخلك بأفكاري،واليوم هأنذا جئت أزورك جسدا وأفكارا لكي أحكي لك قصتي كاملة سأثبت وجودي عبرك ،وأخرج بكتاباتي من خلال كتاباتك ،سأحاول إنتزاع ما انتزعه الزمان مني في إحدى لحظاته،إنني لا أريد أن أثبت وجودي من أجل الشهرة ولا من أجل ثأر قديم ،ولكن من أجل أن يستفيد الناس ويعتبروا من حياة شاعر عاش منبوذا،فاسمع حكايتي ولا تحاول مقاطعتي في إي لحظة من كلامي.
[email protected]
#عبداللطيف_الحاجي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟