دفعني لكتابة هذا الانطباع عن رواية (الضالان) ، آخر روايات الكاتب العراقي محمود سعيد، قناعتي بأن الرواية تمثل سجلاً درامياً واقعياً، لحالة الغربة المريرة التي يعاني منها المنفيون العراقيون، وبالخصوص المثقفون والكتاب والواعون سياسياً منهم ، الذين قدموا إلي هذه المدينة الغريبة، بتقاليدها وحضارتها، طلباً للأمان والحرية، بعد حرب تحرير الكويت.
ولمشاركة القارئ في الاستمتاع بهذه الرواية، نذكر في البداية وصفاً للفضاء الذي حدثت فيه. فما هي عناصر المكان والزمان والبشر والعلاقات الاجتماعية التي تشكل خلفية الأحداث، والرابطة الجدلية بين تلك العناصر المكونة لهيكل العمل الفني قيد القراءة؟: شيكاغو الكبري، عبارة عن منطقة مفعمة بالنشاطات الصناعية والتجارية الكبري بمقاييس الولايات المتحدة. وضمن هذه المنطقة تقع مدينة شيكاغو بأبنيتها وناطحات سحابها ذات الهندسة المعمارية المتميزة علي تخوم بحيرة مشيغان الواسعة المتصلة ببحيرة أيري ثم بالمحيط الأطلسي. ويسكنها نحو ثمانية ملايين إنسان يتميزون بتعدد أثنياتهم، وانعدام تفشي روح العنصرية بينهم، كما هو معروف في ولايات الجنوب! ويقدر عدد أفراد الجالية العراقية فيها بمئة ألف، معظمهم من الآشوريين، الذين استقروا هنا، وأصبحوا جزء لا يتجزأ من المجتمع الأمريكي. ويشاطرهم في اندماجهم بالوطن الجديد حوالي خمسمئة عائلة عراقية ممن جاءوا للدراسة خلال السبعينيات وفضلوا البقاء هنا، وجلهم من الأطباء والتكنوقراط ورجال الأعمال الأثرياء. وهناك نوع ثالث من المغتربين، وهم لاجئو التسعينيات، الفئة المنفية مرتين: مرة من بلدها العراق، ومرة إلي داخل (الغابة)، التي ترمز في رواية (الضالان) إلي الضياع والانعزال والفاقة وحالة النفي داخل المنفي! هؤلاء فئة من المنفيين الذين لاحقتهم لعنة الأزل (الفقر في الوطن غربة، والغني في الغربة وطن!). تصف الرواية حياة هؤلاء في شيكاغو، فتقول علي لسان البطلة كاثي (صفحة 193): (رأتهم أول مرة، تزدحم الشقة في الليل بشباب لا يحصون، يأتون بصديقاتهم، يتكلمون لغة ذات رنين غريب، يحتدم بينهم نقاش عال يتردد فيه أسم بوش، أبن لادن، صدام، الشاذين، كلينتون، القاعدة، يلعبون الورق، يسكرون، يعربدون، لكنهم مؤدبون جداً، ينام قسم منهم قربها علي الأرض، في الغرفة نفسها، لم يتحرشوا بها قط، تركوها كما يترك حيوان أليف ذكي، يعتني بنفسه، يكفيهم مؤونة الاهتمام به، يطبخون أطعمة لذيذة لكنها مليئة بالبهارات، تلهب فمها، تجعلها تلهث بضع ثوان وهم يضحكون). جاءت تلك الفئة من المنفيين، وترصد الرواية عدداً منهم كالبطل الرئيسي عمر وجميل وحسن وفوزي وحبيب وحيدر وغيرهم، جاءوا إلي شيكاغو، وبدؤوا حياة قاسية فيها، حيث لا أشغال مضمونة ولا أمان ولا استقرار، ولا وطن! لم يجدوا هنا، في أغني دول العولمة، بلداً آمناً كما وعدتهم الأمم المتحدة. (لا سبيل لإنقاذ الضحية في هذه المدينة اللعينة! لماذا أوقعه القدر فيها؟)، كما في الصفحة 201.
يخترق محمود سعيد عالم شيكاغو أو غابة المنفيين العراقيين مستفيداً من براعة القلم وخصوبة الخيال وقدرته الجيدة علي الربط والتحليل والأقران، فيقدم لنا، بحق، عملاً فنياً رائعاً، ممزوجاً بالنقد اللاذع علي لسان الراوي (السارد)، متقمصاً شخصية البطل عمر، للمجتمع الأمريكي العولمي، الذي يختلف كلياً عن المجتمعات الأوربية، حسبما يعتقد، إذ نقرأ للبطل في أكثر من مناسبة وهو يقول (أحتقر التكالب من أجل الدولار، لذا أريد الهرب إلي السويد)! أو (هذه هي أمريكا السوداء.. يهددون أنهم سيضعون أسمك علي القائمة السوداء أن لم تدفع)، أو:(بالإضافة إلي التمييز العنصري ضد الأجانب). أو (سأغادر بعد أسبوع إلي السويد، سأترك أميركا وشرورها لمن يستطيع مقاومتها. ويبرر الكاتب نقده الحاد ذلك بجعل القارئ يستشف معاناة الغربة المزدوجة التي يصورها عمر لكاثي بمرارة وسخرية كل مرة يتحاوران فيها. وفي مناسبة أخري يعزز جميل، وهو صديق لعمر، وجود المعاناة المستمرة التي لحقت بالبطل، حيث يقول مخاطباً إياه (كنت تبحث عن عمل عبثاً منذ فصلك بعد 11 أيلول (سبتمبر) وحتي الآن.
عمر وكاثي
تتحدث الرواية عن الضالين: عمر وكاثي، وهما الشخصيتان الرئيسيتان فيها. الأول، أي عمر، الكاتب البالغ الثالثة والستين من العمر، وبعد أن هاجر من بلده الأصلي قاطعاً آلاف الأميال عبر البحار والمحيطات، طمعاً في وطن بديل آمن يأويه ، أكتشف أنه ضل السبيل إلي الاستقرار والأمان والعيش الكريم. ولكي ينجو من جحيم شيكاغو بعد أن عجز عن أيجاد المأوي والعمل المناسب ، أضطر إلي (الهجرة) منها إلي أعماق غابة معزولة مظلمة ، تملؤها برك المياه الآسنة، ولا يأمن دخولها حتي أفراد العصابات من القتلة والمجرمين وتجار المخدرات. أتخذ بطل الرواية من الغابة المتروكة بيتاً منعزلاً له بل وطناً ينصب فيه الشباك والفخاخ للدفاع عن نفسه. ولكي يقنع نفسه أنه موجود في قارة الحلم الأمريكي، العالم الجديد ، أقام له هناك خيمة أخفاها بين الأحراش، و بات يجلب الماء بالأوعية بالدلو للاستحمام والحلاقة وتنظيف الأسنان بين الأشجار الكثيفة. وإذا اشتهي شرب القهوة، فأنه يلجأ إلي (مطبخه) المتنقل، سيارته القديمة الحافلة بالطعجات ، والتي أحضرها معه إلي موطنه الجديد المخفي ، ليحضر له فنجاناً ساخناً منها يحتسيه علي جذع مخلوع متيبس، منصتاً إلي تغريد طيور الكاردينال الحمراء ، ومتعرضاً إلي لسعات كل أنواع الحشرات والبق.
وبدون مقدمات أو معرفة سابقة ، داهمه القدر بالشابة الحسناء كاثي (الضال الثاني في الرواية) في عزلته المحصنة بالحبال الموتورة للدفاع عن النفس، لتشاركه خيمته وغابته المعزولة ، والحياة البدائية التي يحياها. كاثي فتاة في العشرين فائقة الحسن والدلال ، تفتن عمر من أول نظرة بشعرها الأحمر وقوامها الرشيق الفتان وغنجها الذي لا ينتهي! تنقلنا الرواية ، بانسيابية وعفوية مقصودة ، إلي عالم شيكاغو (الحقيقي) ، كما تراه عين الكاتب: الفقر والتشرد والمخدرات، وفقدان الأمان،، وتجارة الرقيق الأبيض التي يديرها قوادون محترفون ، يستخدمون سيارات الليموزين لتنقلاتهم الخاصة ، وهذه إشارة إلي النفوذ الواسع الذي يتمتعون به ، ويتواطأ معهم رجال البوليس في (تجارتهم) لقاء نسبة من الأرباح! تدلنا الرواية برمزية مقصودة علي قوة الإرادة للبطل الرئيسي عمر، الذي أضفي الكاتب عليه كثيراً من خصائصه الإنسانية، فجعله يبدو متفائلاً ولم يكن مهزوزاً أو محبطاً أو مستسلماً ، لوطأة الغربة المزدوجة. ولكي يحقق هدفه هذا أباح الكاتب له انفلاته العاطفي اللامحدود ، واستمتاعه الجنسي غير المألوف ، مع صاحبته كاثي ، ذات الشعر الأحمر المثير للغرائز و الأنوثة الطاغية والقوام الفتان والنهدين الصلبين! كل ذلك بالتجاوز علي أحكام العمر وفارق السن والثوابت الأخلاقية ، التي بدت له وكأنها عناكب نسجت حبال قيوده ، كما نقرأ، علي سبيل المثال ، في الصفحة83.
طريق الخلاص
وبالرغم من الحالة المتردية للمجتمع الشيكاغوي، كما توضحه الرواية، نجد الضالين سرعان ما يجدان سوية، وبتدبير من العقل الأنضج، عمر، بداية طريق الخلاص من واقعهما السيئ، دون مساعدة الضمان الاجتماعي المفقود في شيكاغو! وتتجلي قدرة الضال عمر علي البقاء وتحدي المصاعب، وممارسة حياة طبيعية منظمة، حتي في أحراش الغابة الموحشة. وهنا يتجلي شيء عريق، من التربية المتحضرة العراقية الأصيلة، في سلوك بطل الرواية عمر، منعكساً علي تعامله مع كاثي (الضال الآخر) يلتزم محمود سعيد في روايته (الضالان) منهج التلاحم والانفصام والتفاعل الجدلي بين المتناقضات، كما في موقف عمر الإنساني من الفتاة و موقف جورج الشرير منها، بين الشباب والحيوية اللتين تتمتع بهما كاثي وبين شيخوخة عمر وشعوره بالموت الآتي إليه بالحتمية الوراثية لا محالة. بين جمال الطبيعة في الغابة وروعة الطيور ورونقها وبين حالة الغربة والانعزال والظلام الدبق فيها. وأخيراً العلاقة الجدلية بين عظمة أمريكا القائدة للعولمة، بناطحات سحابها والأعداد الأسطورية للسيارات وعمران شيكاغو من جهة وبين البؤس والضياع اللذين يعيشهما الناس هناك أمثال العجزة والمتشردين وأفراد العصابات . ويوظف الكاتب ببراعة ظاهرة كل العناصر الإيجابية في هذه المتضادات لتحقيق أهداف البطل عمر الذي يمتاز بالإيجابية و بالثقة بالنفس والعزيمة والإرادة. الرواية هي عرض للصراع ضد الظروف والأقدار، صراع بين الشخصيات (بين جورج وبين ضحاياه)، صراع داخل الشخصية الواحدة (بين استرخاء عمر في أحضان فتاة أصغر منه بأربعين سنة وبين شعوره الإنساني الأبوي المسؤول عن رسم مستقبل أفضل لها). وفي إطار التصارع الداخلي للشخصية الواحدة، وبالرغم من جهود عمر في الظهور أمام رفيقته الضالة الضعيفة كاثي بمظهر القوي الحازم، نجد الكاتب وكأني به قد أستدرك ذلك ليخفف من هالة الشعور الوهمي بالإيجابية الكاملة التي غمر فيها بطله الضال المعذب عمر. فيذكرنا بهيمنة الحالة السوداوية عليه، وهو لا يتورع عن ذكرها أمام كاثي خلال تمتعه باللحظات السحرية اللذيذة كما في صفحة 194(أؤكد لك أنني أعيش فيما بعد نقطة الصفر، مات والدي في الثالثة والستين، وعمري الآن الثالثة والستون، يعني ما أعيشه بعد الآن مسروق من القدر). وطفحت قوة عمر السحرية منه لتشمل الضالة كاثي، التي، علي الضد منه، لم تزل أسيرة مطيعة مستسلمة للقيود الخارجية، خانعة لشروط الحياة في شيكاغو، مثل: الإدمان علي المخدرات، عبوديتها لجورج، اليأس من الحصول علي مهنة شريفة، استحالة الزواج من شخص مخلص وإنجاب الأطفال، وغير ذلك. من جانب آخر، فأن الضال الأكثر وعياً، عمر، يمتلك بفعل خلفيته السياسية الواعية قدراً من العزيمة، يمكنه من أن يحول الضحية كاثي إلي مشروع للثأر من واقع المجتمع الشيكاغوي، الذي ظلمه هو الآخر، والذي يرمز له الكاتب بالغابة، فيطلب منها أن تستعيد أرادتها المفقودة وإنسانيتها المهانة. ففي الصفحة 95، مثلاً نقرأ (لا تقللي من قيمتك، ثقي بنفسك). أو في الصفحة 143 (سيقضي المخدر علي مستقبلك، سيمنعك الكسل من العمل، سترجعين متشردة ساقطة إلي جورج أو غيره، ستموتين في الشارع كأي حيوان لا قيمة له، عليك أن تختاري بين المستقبل وبين السقوط، بين الحرية وبين جورج، بين تحقيق آمالك وبين الموت في الحياة).أو كما في قول عمر علي صفحة 142: (ساعديني لكي أساعدك).
اطفاء نار الفشل
سوف يجعل عمر من رفيقة حياته الطارئة الضائعة مشروعاً ناجحاً يطفئ به نار الفشل الذي حالفه طوال مدة الثلاث سنوات التي قضاها في أمريكا، بعبارة أصح، في الغابة. سوف يدربها علي سياقة السيارة، ثم يجعلها تسجل علي لائحة بياعي الآيس كريم بالسيارات الخاصة بذلك. وبعد أن يجعلها توفر خمسة آلاف دولار يمكنها أن تصبح موديلاً وتلك هي غايتها وحلمها منذ الطفولة. والأصعب من ذلك كله سوف يدفعها إلي ترك تناول المخدرات، تلك الآفة الاجتماعية التي تفتك بعدد كبير من شباب أمريكا! وبلمسات الفنان السحرية يحول الكاتب نزوة عمر العاطفية مع كاثي الحسناء وتورطه الجنسي معها مرتين خلال زمان القصة، إلي التزام أخلاقي أبوي لإنقاذ الفتاة الضالة من براثن الفساد والمخدرات والتسيب الاجتماعي، ومساعدتها لكي تصبح مواطنة صالحة، وتتزوج من شاب يحبها وتحبه، وربما ينجبان الأطفال. ويطلب عمر من كاثي أن تسعي لتحقيق أحلاماً أخري أكبر مثل الزواج والإنجاب، كما في الصفحة 181 بعد أن عرضت عليه أن يظل معها أو أن تسافر معه إلي السويد لكي يعيشا سوية (أخرجي هذه الفكرة من رأسك، عليك أن تفكري بالزواج، أو بصديق دائم يحبك من كل قلبه، يسعدك وتسعديه، مكانك هنا لا في السويد، هنا مع شاب صغير، زواج، أو عشرة صديق مخلص، عمل شريف، استقرار، ربما طفل، تلك هي سعادة الحياة). تعلقت كاثي بعمر الذي أنقذها من مستعبدها جورج ومنحها الحنان والرعاية دون أن يطلب منها ثمناً.
حفلت (الضالان) بالعديد من الحوارات بين البطلين، مما جعلها أداة خلاقة لكسر رتابة السرد الروائي اللاهث. وقد وظف الحوار الداخلي بالدرجة الأولي للدخول إلي شخصية أبطال الرواية. والمعروف أنه ليس هناك لغة كاملة بتركيبها مؤهلة لتأدية كل انفعالات أبطال الرواية وتماوجات عواطفهم أفكارهم. إن الميزة العامة للغة في (الضالان) هي البساطة والوضوح والسلاسة. لقد أنشغل الراوي بوصف الهم الإنساني للاجئين عموماً وهم البطل عمر،علي وجه الخصوص، بمعناه الاجتماعي والسياسي والحضاري والنفسي. وقد حمل الراوي لغة روايته وظيفة أخري غير الوظيفة الأساسية،التي تكون فيها الكلمات لغة فوق اللغة، وترصد زمن السرد الروائي في تقلبه الداينامي وحركته الفيزيائية ، إلي جانب تعدد الأشكال و زخم الفضاءات، وكأني به يراهن علي المنفلت والمنسي والممنوع أو المغيب خارج منظومة اللغة الوصفية أو الحوارية التقليدية، لذلك أكثر من استعمال الألفاظ والتعابير الدارجة في محيط شيكاغو، بما في ذلك اللفظ المستهجن الردئ، وفي مواقف نوعية و حساسة، لتحقيق وظيفة تتمثل في الخروج بها من عالمها الواقعي إلي العالم الاغترابي.
كاتب مقيم في شيكاغو