ما الذي يمكن عمله حين يكون العدو فائق القوة إلى درجة أنه لا يسحقنا في أية مواجهة محتملة بل ويتحكم وحده بمستوى القوة المباح لنا ووجهة استخدامه؟ ما هي الاستراتيجية المناسبة حين تكون المواجهة العسكرية ممتنعة، أو حين ينتصر العدو في هذه المواجهة نصرا محتوما وسهلا؟ ببساطة: ما العمل حين لا تكون الحرب ممكنة؟ الأرجح أن تنويعات على هذه الأسئلة ستطرح على المثقفين و"السياسيين الداخليين" العرب (تمييزا عن نخبات "الدولة الوظيفية" وعن "المعارضات" المصنوعة في الخارج ولمصلحة الخارج) في مرحلة ما بعد سقوط بغداد.
ولا يعود إلحاح سؤال العمل إلى سهولة حسم الأميركيين للمعركة العسكرية إلا بقدر ما إن هذه السهولة تحيل إلى تحول أوسع في مفهوم القوة والحرب والسياسة على الصعيد العالمي. وإذا كان من المبكر عرض تصور واضح عن هذا التحول على المستويات المذكورة فإن استحالة الحرب ضد الولايات المتحدة أو حلفاءها العضويين يبدو أمرا قطعيا نهاية الحرب. وهذا لا يشمل "الأعمال الإرهابية" التي لعلها ستصبح الشكل الأبرز وربما الوحيد للعنف السياسي(لكن هذا موضوع آخر).
هذا التحول لا يتمثل في أن الولايات المتحدة هي أقوى دول العالم اليوم أو القوة العظمى الوحيدة بل في ما يمكن أن نسميه التحول الامبراطوري. والفرق بين الامبراطورية وبين القوة العظمى أو الأعظم أن الأولى تتحكم بتفاعلات القوة العالمية بما يجعل قوة وضعف الآخرين منسوبين إليها ويقاسان بمقياس القرب منها أو البعد عنها. فلا تستطيع دولة أن تكون قوية ضد الامبراطورية، ولا تكون دولة قوية إلا بقدر تندرج قوتها في إطار القوة الامبراطورية. وإذ هي تتحكم بسلم القوة العالمي فإن قوتها تصبح خارج المنافسة وفوقها. ولا يفي مفهوم القوة العظمى أو الأعظم بوصف هذا الواقع الجديد لأنه يحيل إلى قوة تحتل أعلى سلم قوة مشترك مع جميع الدول الأخرى في العالم.
الامبراطورية واعية لقوتها وحريصة على أن لا تعود إلى المنافسة التي تجعلها مضطرة لإثباتها، ولذلك فهي تسعى بوعي لمنع أية قوة أو ائتلاف قوى من مضارعتها في القوة، وهو ما قرره بكل وضوح تقرير استراتيجية الأمن القومي الأميركية الذي صدر في أيلول من العام الماضي. وما قد يزيد من إصرار الولايات المتحدة على الانفراد بالقوة حقيقة عدم التناسب بين قوتها العسكرية وقدرتها الاقتصادية، الأمر الذي ربما يدفعها إلى محاولة تعويض هذا الفارق بتركيز أشد على عنصر القوة العسكرية الذي تنفرد بامتلاك ميزة تفاضلية فيه.
ولعلنا نرصد هنا وجه تماثل بنيوي يضاف إلى وجوه أخرى كثيرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. فبينما تتفوق إسرائيل تفوقا عسكريا نوعيا على الدول العربية مجتمعة دون أن يكون إنفاقها العسكري أكبر من الإنفاق العسكري لمجموع الدول العربي، فإن الولايات المتحدة تتفوق على جميع دول العالم عسكريا رغم أن الأرقام المتاحة عن الانفاق العسكري الأميركي تتحدث عن كونه يمثل 45% من الإنفاق العسكري العالمي وليس عن 50% أو أكثر. وليس سر هذا التفوق خافيا، وخصوصا في إطار الثورة في الشؤون العسكرية التي أثارت نقاشا واسعا في الولايات المتحدة والتي تركز على نظم الاتصالات والربط والتنسيق، ونظم الرصد والتسديد والإصابة، وتجعل بإمكان كل جندي أميركي طلب الدعم الجوي وتحديد المواقع المعادية بالاتصال المباشر بالأقمار الصناعية.
معلوم فضلا عن ذلك أن الولايات المتحدة ليست حريصة كل الحرص على منع العالم من الاجتماع ضدها بل هي أيضا قادرة كل القدرة على ذلك. وهي تضمن ألا يجتمع العرب ضد إسرائيل حتى بعد أن ضمنت لهذه تفوقا نوعيا عليهم مجتمعين. وهذه القدرة ذاتها، أي تفعيل أو تعطيل عالمية العالم أو أي إقليم من أقاليمه واحتلال أفضل موقع للسيطرة على التفاعلات العالمية جزء لا يتجزأ من تحول القوة الامبراطوري. وإلى تلك القدرة وهذا الموقع، وليس فقط إلى قوتها غير المسبوقة، تدين الولايات المتحدة بوضعها الامبراطوري.
ومن موقعها العالمي تنفرد الولايات المتحدة بالتمييز بين الجهة الصح والجهة الخطأ من التاريخ. ولم يمض وقت طويل منذ حذر كولن باول سورية تحذيرا مفعما بالدلالة من أن تقع على الجانب الخطا من التاريخ إن هي اختارت ما لا ترضى عنه الولايات المتحدة (زعزعة استقرار العراق والاستمرار في إيواء منظمات فلسطينية حسب قوله).
وبقدر ما إن إسرائيل تناظر على المستوى الإقليمي الشرق أوسطي وضع الولايات المتحدة العالمي فإنها تشكل مركزا امبراطوريا فرعيا يشرف، مثل المركز العالمي، على تفاعلات القوة في الشرق الأوسط ويتفوق على جميع دوله - التي لا تجتمع.
هذا هو الوضع أمام اي فاعلين سياسيين عرب اليوم. وقد قدمت حرب الخليج الثالثة ترجمة ملموسة واضحة لوقائع وتحولات يعود أصلها في الواقع إلى نهاية الحرب الباردة.
**************
إذن مرة أخرى ما هي الاستراتيجية المناسبة في ظل تحول القوة الامبراطوري واستحالة الحرب؟ السؤال يكتسب راهنية أقوى أيضا من كون الدول العربية جميعا "دول حرب"، أي دول تشكلت حول أفكار الحرب والقوة والأمن والجيش والعدو بصرف النظر عن معنى الأمن وفاعلية القوة وبصرف النظر أيضا عن الأداء الحقيقي للجيوش في الميدان. ويتلقى السؤال إهمية إضافية أيضا مما يبدو أنه بوادر انتهاء التسامح الأميركي حيال ما قد نسميه "الإيديولوجية الحربية العضوية للدولة العربية"، وهي إيديولوجية متشكلة ومتوجهة تاريخيا ضد الغرب، وبالتحديد ضد الولايات المتحدة. وتلتقي فيها تجارب التاريخ الحديث والمعاصر مع حاجات أطقم الحكم العربية للشرعية وضعف شرعيتها القانونية المؤسسية والإنجازية.
1. الواضح في ظل التحول الامبراطوري أن عهد سياسات التكيف قصيرة النفس قد انتهى. فغياب أجندة وطنية أو وجود أجندات اعتباطية ومتقلبة واعتماد سياسة يوم بيوم وترك المبادرة للأوضاع الدولية والإقليمية لم يعد يمثل خيارا حقيقيا. وسيكون بمثابة انتحار حقيقي الاستمرار في هذه السياسات بعد "فترة السماح" التي استمرت منذ نهاية الحرب الباردة وانتهت انتهاء عنيفا في 11 أيلول 2001 وتم تذكيرنا بانتهائها بحدث عظيم هو سقوط بغداد. فبكل بساطة ثمة مرحلة جديدة تتطلب سياسات جديدة. كما لن يكون من الممكن البقاء على الاسس القديمة لعمل النظم السياسية العربية بينما تغيرت أسس عمل النظام العالمي تغيرا شاملا، وخصوصا في ظل ما هو معلوم من التدويل العميق لمنطقة "الشرق الأوسط" (على الصعد الأمنية والجيوسياسية، وبدرجة متزايدة أيضا على الصعيد الاقتصادي)، وما يعنيه ذلك من حساسية شديدة لهذه المنطقة حيال تقلبات الأوضاع الدولية. وعلى كل حال تذكر التفجيرات الانتحارية في الرياض والدار البيضاء بنوعية الحرائق التي يمكن أن تفضي إليها الاستقالة السياسية والاستراتيجية للدول وتمركزها أحادي الجانب حول الأمن الداخلي.
2. كذلك لم تعد الحرب والمواجهة العسكرية خيارا لمواجهة المركز الامبراطوري أو حتى المركز الامبراطوري الفرعي، دع عنك أن تكون الخيار الوحيد كما لم تحاول أن تنسى بلاغة عربية معينة. الحرب اليوم ليست طريق الدمار (وهذا فظيع طبعا بحد ذاته) بل هي طريق الاستسلام المؤكد. والواقع أن الحرب لم تعد موجودة خارج بلاغة فارغة من المعنى لكنها ليست بلا وظيفة تصدر عن أجهزة معينة. ووظيفة البلاغة الحربية كوسيلة للتعبئة الاجتماعية هي الحفاظ على السلطة وتجريم الانشقاق السياسي ووأد فرص نمو الفكر والثقافة الديمقراطية. اما الأجهزة التي تصدرها فهي دول وأحزاب وتنظيمات تدر عليها هذه الدعوة شرعية ومالا.
فإذا انتقلنا من صناعة البلاغة ورهاناتها التي تزداد انكشافا وضحالة، نتبين بسهولة أنه لم يعد لبناء الجيوش أية علاقة بالحرب الوطنية أو مقاومة العدو بل هو الطريق الملكي (والجمهوري) للالتحاق بجند الامبراطورية وحراسة ثغورها.
وعلى كل حال لن نخسر في إطار التحول الامبراطوري ونهاية الحرب جيوشا لم نكسبها من قبل. فالدفاع عن الأوطان ليس استمرارا على خط مستقيم للدفاع عن الأنظمة؛ الاستمرار الحقيقي لهذا الدفاع الأخير هو الحرب ضد "برابرة" الامبراطورية، اي "الحرب ضد الإرهاب". ولهذا نميل إلى أن الأميركيين الذين لا يزالون الآن محكومين بدوافعهم الإيديولوجية المعادية للعرب لن يلبثوا أن يكتشفوا أن أفضل الجيوش للحرب ضد الإرهاب هي الجيوش العربية. وبدلا من أفق تحجيم هذه الجيوش الذي يتحركون فيه أو يتحينون الفرص للتحرك فيه قد نجدهم في وقت غير بعيد الأكثر حماسا لزيادة حجمها وتجديد سلاحها وتطوير أنظمة تدريبها و... تكميل نزع وطنيتها.
المسألة أمامنا إذن أن الحرب غير ممكنة والجيوش غير لازمة بالتالي. فإذا ما ثوبر على بناء الجيوش فلن يكون ذلك إلا برسم حرب من نوع آخر هي الحرب الوحيدة الممكنة: الحرب ضد "الإرهابيين". بعبارة أخرى: الحرب ضد العدو لم تعد ممكنة؛ وحيث كانت الحرب ممكنة فإنها لن تكون ضد العدو. هذا هو الانقلاب الوظيفي المحتوم إذا تجاهلنا استحالة الحرب بوصفها أول دروس التحول الامبراطوري وسقوط بغداد. ونميل إلى أننا لم نكتشف شيئا لم تكتشفه منذ زمن بعيد أطقم الحكم العربية : استحالة الحرب واستبطان التحول الوظيفي من أجل الاستمرار في بناء الجيوش والمحافظة على العقيدة الحربية.
*************
ما العمل إذن؟ هل يمكن أن نفكر بدول دون جيوش؟ أو على الأقل دون جيوش كبيرة تستهلك الكثير من الموارد وتعسكر الحياة العامة ولم تعد ذات وظيفة دفاعية حقيقية؟
يجب ألا يكون ما يحول دون التفكير في هذا الاتجاه هو الافتقار إلى الشجاعة العقلية والأدبية. ولعل اتجاه كل أولوياتنا الوطنية ينبغي أن يتمحور حول نزع "الوطنية العسكرية" التي دمرت السياسة والدولة وخنقت المجتمعات المدنية وقتلت الثقافة في البلاد العربية، أي تمدين الوطنية والدولة والمجتمع والسياسة والوعي.
الحرب غير ممكنة لكن الضعيف يستطيع أن يساعد نفسه.
دمشق 21/5/2003