مفهومُ التحرّرِ بعامة هو الانعتاقُ من ربقةِ عبوديةِ ِ لأمر أو قيدِ ِ أو التخلّص من سطوتِها وسلطةِ إكراهِها. ولطالما شهِدَ تاريخُنا الإنساني القديمُ والمعاصر استلاباَ َ لحقوقِ بعضِ الناس لأمرِ ِ يعودُ إلى انتمائِهم لقوميةِ ِ أو طائفة أو فئةِ ِ أو دينِ ِ أو عقيدة فكريةِ ِ أو سياسية أو جنسِ ِ كما لجنسِ المرأةِ منذ انماز المجتمعُ وانقسم بين طبقاتِ ِ متصارعة والسلطة في المجتمعِ البشري للأقوى. وظلّت المرأة في حالةِ ِ من التراجع والإنزواءِ بعيداَ َ عن مواقعِ القرارِ العامِ وحتى الشخصي الذي يخصّ الحاجات الفردية للمرأةِ بوصفِها إنساناَ َ فرداَ َ مستقلا له مثلُ ما للفردِ الرجل من حقوقِ ِ تعودُ للحاجاتِ الإنسانية للمرأةِ والرجل على حدِِّ سواء؛ فكلاهما كائن حيّ وكلاهما يحتاجُ للهواءِ والماء والمأكلِ والمشرب والملبس ولكلاهما حاجات اجتماعية ..
لكنَّ الذي يحصلُ هو أنَّ المرأة عندما تكون زوجة تدخل في أملاك الرجل. فكثرُما سمعنا في الحياةِ الاجتماعية التقليدية مَنْ يطلق على الزواج (ملتشة أو هكذا تُلفَظ Milchah كما يُلفظ هذان الحرفان Ch بالإنجليزية) بمعنى امتلاك الرجل لها وكأنَّها بيعة من الأب للزوج وفي هذا نجد الصداق والمهر يأخذ أحيانا صيغة البيع والشراء. والبنت لا يحق لها التصرف سواء كانت قاصرا أم بلغت سنّ الرشد بل لا سنّ رشد للبنات في التقاليد والعادات فهي تابعة مسؤولة من أهلها من أب أو أخ فإنْ لم يوجد في العائلة ذكر ولد أو رجل صار أمرها لعمها فخالها أو بحثت عن رجل يكون وليا عليها فلا ولاية لها حتى على نفسها وقرارها وإنْ كانت عالمة مفكرة وذات شأن ومكانة بَلَغَتْها بعمرها وعقلها وفكرها!!!
لقد ارتبط أمر حصول المرأة عامة على حقوقها والعراقية بخاصة بالتقدم الاجتماعي والسياسي في الحياة الإنسانية؛ ولذا شهدنا ما حصلت عليه في ظلّ المتغيرات العميقة التي جاءت بها ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة, سواء على الصعيد القانوني أم على الصُعُد الأخرى .. ولقد تقدّمت النساء في مسار الحصول على كثير من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولكنها ظلت في حالة من المدّ والجزر أو التذبذب بالعودة إلى طبيعة السلطة السياسية في البلاد. وما تقوم به تأثيرات مباشرة أو غير مباشرة على تلك الحقوق.
ففي الوقت الذي استأسد الطاغية على الحياة العامة, وجّه نار حربه على ما نالته المرأة العراقية من مكانة جراء نشاطها الفاعل ودورها المميز إلى جانب أخيها الرجل المتنور. فابتُليَت بتهمة الدعارة ومن ثمَّ أحكام الموت والقتل الأمر الذي رفضه مجتمعنا المتحضِّر. وهكذا راحت عصابات الجريمة وسلطتها الفاسدة تعيد بلادنا ليس لإغراق في بحر الدم فحسب بل لقتل روح الحرية والحجر على حقوق النساء في المشاركة على قدم المساواة مع الآخر. فكان أنْ تمَّ الحجر على المرأة بالمطلق وليس على شعر الرأس والوجه وما إلى ذلك.. فتمَّ الحجر على عقلها وفكرها ومنعها من ارتياد الحياة العامة أو السير في الشارع أو التنقل والسفر من دون محدِّدات العبودية وقيودها التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وليس من العجب بعد ذلك أنْ نشهدَ عراقاَ َ تراجعت فيه كثير من قيمِ الحرية والعقل والفكر النهضوي التنويري الذي شهدناه يتحققُ في بلادنا منذ مطلع القرن الماضي؛ حيث ساهمت المرأة في المظاهرات السياسية وفي العمل الاقتصادي الراقي تكنولوجيا وفي اكتساب المعرفية العلمية المتقدمة.. فيما هي اليوم محرومة من كثير من هذه المكتسبات التي جاءت عبر نضال طويل, انتزعه منها الطاغية بسلطة الدم والجهل والتخلف. ومن الآثار سيادة عصاباته اليوم التي بثها بإطلاق سراح المجرمين والقتلة وبتأخر مسألة محاكمة أتباع نظامه من السفاحين الذين أُبتُليَ بهم عراقنا طوال العقود الأربعة المنصرمة.
(طبعا), هذا فضلا عن بروز ظاهرة التطرف الديني وهي تابعة لسياسة ذاك النظام ومخلّفاته.. وليس بالتأكيد ممّا نشير إليه هنا أيّا من الذين يلتزمون الدين الإسلامي أو المسيحي أو أية ديانة بوسطية واعتدال وبإيمان واعتقاد لا يكون فيه عنف أو إرهاب وتهديد للآخر بأي شكل من أشكاله.. ولكننا بصدد الإشارة إلى أولئك البلطجية والشقاوات والعناترة من حمَلَة البلاط والسكاكين والأسلحة النارية هذه المرة وحتى المتفجرات وسياسة السيارات المفخخة ولم تسلم الحمير والخيل من أفخاخهم ومتفجراتهم ولا عربات الكسبة الذين لا حول لهم ولا قوة تجاه سياسة البلطجة الدموية والابتزاز وسطوة الحديد والنار...
إنَّ كلَّ هذه الأمور تستهدف أولا المرأة العراقية على أساس منطق القوة العضلية وقوة السلاح والفتك والاختطاف والاغتصاب الذي يشكل سيفا مسلّطا على المرأة أولا وعلى رجل العائلة الذي يظل مرعوبا من عار ما يصيب أخته أو زوجته أو ابنته أو أمّه أو امرأة من الأسرة.. ويضاعف هذا الرعب استمرار أو عودة مفاهيم ملكية الرجل للمرأة ومسؤوليته في حماية ملكيته من الاغتصاب أو الاعتداء وأخطر من هذا وذاك الرعب من الاعتداء على شرف الرجل في أملاكه من النساء بخاصة مفهوم الشرف التقليدي الذي يعشعش اليوم من جديد في القيم التربوية التي غرسها نظام استغلالي بشع طوال لا ثلاثة عقود من الدكتاتورية بله منذ انتهاء المجتمع الذي سادت فيه المرأة ليسود فيه الرجل بعد أول تقسيم طبقي في المجتمع الإنساني.
ما العمل في ظل هذه الأجواء؟ أنبدأ برفض الحجاب في الملبس؟ أنبدأ برفض الحجاب الذي يفصل المرأة من عملها الاجتماعي, أي رفض القعود في المنزل؟ أم نبدأ بالإصرار على حرية التعليم وديموقراطيته ومنع تدخل القيم السلبية فيه بكل مظاهرها؟ إنَّ كلَّ هذه الأشياء يمكنها أنْ تترافق وتتزامن سويا بحسب الحالة الخاصة وبحسب الظروف الموضوعية التي تحيط بنا .. ولكنَّ الأمر يحتاج لجهادية عالية في قراءة الوضع وتحدي سلطة البلطجة السائدة في حياتنا الاجتماعية والسياسية..
وأولُ ما ينبغي لعودة المرأة إلى الحياة العامة هو بناء الاستقرار الأمني وإشاعة الطمأنينة والسلام الاجتماعي ومنع سطوة المجرمين والسوَقة على الشارع. على أنَّ ذلك لا يتم بمعزل عن مشاركتها هي بنفسها في التحدي الاجتماعي والسياسي لمجتمعنا الذي قطع أشواطا طويلة في التقدّم والتطور. ومن الطبيعي أنْ نجابه كثيرا من الاعتراضات والمواجهات والاحتكاكات ولكن ليس من الطبيعي السكوت على ما يجري من اغتصاب حقوق واستلابها من المجتمع ومن النساء بشكل مضاعف. أليست الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيّب الأعراق؟! أم أنَّ ما يريده الجهلة هو لا الوقوف عند احتلال موقع الإفتاء بل وتنفيذ فتاواهم التي يعرفون أنْ لا أحد سيتبعها من دون هراوة السلطان وسيف جلاده وسطوة بلطجيته…
ولكن كيف يمكن لنا تحريك الأجواء في البركة الراكدة؟ وكيف يمكن مواجهة البلطجة؟ ليس لنا سوى سلطة القانون من جهة للحدِّ من التجاوزات والابتزازات والإرهاب.. وسلطة التنوير الثقافي الذي يمحو بنوره عتمة الظلاميين وسلطتهم المتخلفة. كما ينبغي أنْ نؤكد على اشتراك رجال الدين ومجتهديه والمرجعيات المتفتحة صاحبة العقل والفكر الراجح الذي يتبع هدي الدين الوسط والاعتقاد بالعدل والمعروف ومنطق السلام والمحبة والتآخي وألا نرى في التنوير إلا وحدة اجتماعية وحريات عميقة تسفر عن وقف مصادرة المرأة وعقلها وجهودها في البناء وفي خلق الحياة الراقية السليمة أما على صعيد قيمنا وتاريخنا فمنه ما ينبغي أنْ نشير إلى أعلام النساء ومنهنّ مَن قاد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وهنَّ كثيرات بلا حدود…
فإذا نحن عرّجنا على دور مثقفينا وخطابهم فإنَّنا بلا مجافاة للواقع نجد قصورا هنا وهناك ونحن بحاجة للتثوير والتحريك المضاعف في ظروفنا القاسية, ولكننا لا يمكن أنْ نلغي جهود مثقفينا ودورهم الفاعل مثلما لا نلغي جهود رابطة المرأة العراقية بخاصة في الداخل حيث المصاعب والتعقيدات التي تواجههنَّ في الحياة العامة. ولا نلغي خطاب أديباتنا ومبدعاتنا في الفن والثقافة والسياسة وغيرها…
وليس من الإلغاء بل من الحرص على الحثّ والتثوير ما قرأته قبيل أيام من مقال عن المرأة والحجاب بقلم ناشط متنور (...) من أنصار حرية المرأة [وإنْ التبس كلامه عند بعضهم كونه يقول بشأن قضية المرأة عندنا: المتنورون نائمون عنها؛ رابطة المرأة نائمة؛ جمعيات النساء نائمات؛ المرأة نفسها نائمة أو مخدّرة أو متكاسلة ولا أحد يشعل شمعة في هذي العتمة] فإذا كان الحق مع الرجل في القصور ومعه في البحث عن تحريك الساكن, فمن الحق أيضا أنْ يقرأ لأديبات عندنا وشواعر [شاعرات] ليس لغيرنا مثلهن ومثل دورهن أما في النقد ومنه الاجتماعي والسياسي فكان لنا الوزيرات في السياسة وكان لنا الكاتبات ولكن ما يطمسهن أننا نرى ضوء الإعلام على غير نساء (بله ورجال) بلادنا عندما ينشطون ولا نراه علينا بالمرة حتى أنّنا نكتب اليوم ليُنسى بالغد ما كتبنا وما فعلنا ويُتغافل عنه أو يُغفَل وأمراض كثيرة ليس مجال مناقشتها هنا تطمسه..
وللردّ على قول ليس لدينا في نسائنا أمثال نوال السعداوي أقول وليس لدينا من رجالنا أمثال قاسم أمين … ولكنَّ الحقيقة لا النفي الأول بصحيح ولا الثاني بصادق وإنَّما كما أشرت نحن بحاجة لتضافر جهود متنوعة ليقوم خطاب الثقافة والمثقفين بدوره وخطاب الإعلام يسلّط ضوءه على الفعل ويتابع التأثير ويوضحه ويعزّزه.. ولنتذكر هنا لا قصائد الزهاوي ولكن مقالاته وعِبَره ودوره التنويري التحرري بخاصة في قضية المرأة والحجاب في ملبسها وفي عقلها.. ولنتذكر دور ناشطاتنا ولنبحث عنهن اليوم بعد أنْ خسرنا المتابعة بالأمس وحسنا فعل كاتب مقال المرأة والحجاب بتسليطه الضوء على نموذج امرأة عراقية بالاسم [هي السيدة ملك ] ودورها في موضوع الحجاب وفي غيره مما يخص المرأة في مدينة كربلاء العراقية..
ولنا بعد كلّ ذلك عودة لجدل ومناقشة متصلة مستمرة من أجل حاضر مستقر وغد أفضل.. للمرأة مثلما للرجل, ولمجتمعنا العراقي عامة يتعاضد بقواه وبفئاته وبقسميه المرأة والرجل سويا وليكن هدفنا القريب المساواة ومنع الضيم والظلم وحظر التمييز بأشكاله وتحرر المرأة من ربقة قيود العبودية وعلى المدى البعيد وقف الطبيعة الذكورية للمجتمع وسطوتهم بإعلاء شأن العدالة والتساوي وتقاسم الحياة وتفاصيلها على أساس من التكامل والتفاعل والمشاركة بحسب الكفاءة والتلاؤم في كلّ مهمة اجتماعية عامة أو خاصة…
وليس لمجتمعنا من تقدم وتطور بغير تفعيل دور المرأة وتنشيطه وبغير منحها الحريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وبتحررها الاقتصادي سيكون لها معطيات تحرر على الصُعُد الأخرى ولكن ذلك لا يكون بغير جهد ومناضلة وكفاح من الطرفين لا يحقق نجاحه وبجناح واحد لا يطير الطائر لذا كان على المرأة أنْ تتعلم وأنْ تُقبِل على المعرفة وتتجاوز أوصابها ومحنها لتنخرط في عالم العلم والعمل ومن دون جهودها تتلكأ المسيرة ولا تصل الغاية بغير تعقيدات…
فلا تولد الحرية [هنا حرية المرأة] بعملية قيصرية ولكنها تولد طبيعية عندما تكتمل شروط ولادتها وأبرز تلك الشروط ارتقاء المرأة ذاتها على واقعها علما ومعرفة وجهدا مثابرا عمليا.. وإلا فلن يوافق أحد على وضع امرأة في قيادة عمل أو نشاط يتقدم إليه رجل أكفأ علميا وعمليا. ولا مندوحة من السير البطئ المتواني في ظل هكذا حال لكي ندرّب المتمهلات على النشاط والفعل والحركة وإنْ كان الزمن لا يرحم ولا ينتظر وإلا فهل من جدية وتسريع في النشاط أيتها النسوة؟ حينها لن تجد المرأة إلا النصرة من المتنورين والاعتراف من المتجاهلين بالاستناد إلى الحقائق والفعل والعمل وهو أمر ليس ببعيد عن الإمكان…
Website : www.geocities.com/Modern_Somerian_Slates