أمام المرء سبيلان، هذا السبيل حيث حياة فيها فناء، وذلك السبيل حيث حياة فيها بقاء. سمع صوتا غريبا من الأعماق يرن في أذنه: هذا السبيل ممر، وذلك السبيل مستقر. فسار بعيدا عن الأنظار، وأراد أن يعطي لروحه المعذب شيئا من الراحة، والراحة تتمرد على ذات اليتيم. فَكَّرَ أن يهرب من ذاته، فقالت له الذات الضائعة، هناك بحيرة تنتظر قدومك، وأنت تشتاق إلى المياه الهادئة. قادتْه الذات إلى حيث لايشعر، فجلس كئيبا على ساحل البحيرة الساكنة، ودموعه تأبى أن تكون في المقلتين، فتمردت على العينين، وتناثرت على الوجه الشاحب كقطرات ندى الوردة التي سهرت في ليلها الطويل، والغيث في السماء تساقط وغَسل دموعه الحزينة، والرياح العاتية أخذتها إلى عمق البحيرة، فهاجت، وثارت.
هناك من بعيد وجد اليتيم في أعماق حيرته الذهنية، طفلة بريئة تمسح رجليها من قطرات المياه الراكدة، ونظرت إليه، وقالت: ياعماه! أنظر إلى هذه البحيرة ! وجدتها هادئة منذ أن كنتُ جنينا في رحم أمي، وهي كذلك إلى أن أمطرت السماء علينا اليوم، فاخبِرني ما خَطبك، وأنتَ تبكي على أمواج ثائرة في ذاتك. أخبرني هل وجدتَ الذات فتمردتَ أو وجدتها ففرحتَ؟
قلتُ وا أسفاه على حياة كانت ضائعة يابنيتي. انت جميلة وبريئة، وجمالك وبراءتُك تضفيان على الثورة في كياني، ومياه البحيرة في ذاتي محبة بلا إنتهاء، فقد سمعت من الحكيم اليوناني القديم يقول بأن المرء لا يدخل النهر مرتين. قالت: هو كذلك، ولا نحن ياعماه نعيش مرتين في الدنيا، أما ترى أننا في طريقنا إلى الحياة أو في سبيلنا من الحياة.
غابت الطفلة التي لم تكن تعرف الذنوب، وغابت عني همومي بعد أن دخَلتْ تلك الهموم بحيرة التوبة لتغسل عني ذنوبي. وبزغت الرحمة والهداية من السماء العُلى وأنا أرى نجدين، إما النور والمحبة والإيمان حيث يقود إلى الحياة الباقية، وإما الضياع والظلام والعتمة حيث تسير إلى الحياة الفانية. وصوت التوبة يغني، إما شاكرا وإما كفورا. فالحمد للخالق الواحد الأحد الذي هداني، والثناء لله الذي أحياني، فلو عرف الملوك ما للتائب من حياة، لحسدوه. فلا دنيا نصيبها، إنما الرحمة نرجوها، والشوق الدائم إلى النور الإلهي يوم اللقاء.
12 أكتوبر 2003