|
في ذكري اغتيال فرحات حشاد وكفاح 7و 8 ديسمبر 1952 بالدار البيضاء
البير عياش
الحوار المتمدن-العدد: 2170 - 2008 / 1 / 24 - 10:40
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
حلت الأسبوع الماضي الذكرى 55 لنضال 8 ديسمبر1952 الذي مثل انعطافا في نضال الحركة النقابية المغربية وحركة النضال من أجل الاستقلال على السواء، كما كان محطة بارزة في مسار التضامن العمال والشعبي على صعيد المنطقة المغاربية. نظرة بسيطة إلى الخلف تبرز حجم الكارثة التي حلت اليوم بالحركة النقابية المغربية وبحركة التحرر الوطني، وترفع درجة الشعور بالمسؤولية لدى المدافعين عن الهوية العمالية النضالية للنقابات، و عن السيادة الوطنية التي قايضها الحاكمون مع مؤسسات الرأسمال الامبريالي (بنك عالمي ، صندوق نقدـ اتحاد أوربي...) لإنعاش الذاكرة النضالية نقدم للقارئ-ة ، معربا لأول مرة، الفصل الذي خصصه مؤرخ الحركة النقابية المغربية، رفيقنا الفقيد البير عياش، لانتفاضة 8 ديسمبر 1952. المناضل-ة
أحداث الدار البيضاء يومي 7 و 8 ديسمبر 1952 بقلم ألبير عياش
اغتيال فرحات حشاد. قرار الإضراب
بلغ إلى الدار البيضاء، بعد زوال يوم الجمعة 5 ديسمبر 1952 ، بعد الزوال، نبأ اغتيال النقابي التونسي و زعيم الحركة النقابية بشمال أفريقيا، فرحات حشاد، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل. ويوم 6 ديسمبر،كان مسؤولون استقلاليون من الاتحاد العام للنقابات الموحدة بالمغرب، الطيب بوعزة، والمحجوب بن الصديق [1]، ومحمد التباري، وصلاح المسكيني، قرروا التعبير بإضراب عام من 24 ساعة عن تضامنهم مع العمال التونسيين وتمردهم ضد مساوئ النظام الاستعماري. كان الشعبان التونسي والمغربي، اللذين يحفزهما نفس التطلع إلى الاستقلال، هدفا لنفس التعديات ونفس الاهانات من جانب سلطات الاحتلال و الطغمة الاستعمارية التي تخدمها. وقد تجلى بتلقائية تضامنهما خلال أحداث فبراير 1951، لصالح تونس بعد عمليات تمشيط رأس بون (مارس52).[2] ولم يخبروا بالأمر رفاقهم الفرنسيين ممن جاوروا في مقرات دار النقابات، وصاغوا " نداء إلى كل العمال وكل شرائح الشعب المغربي" لشن إضراب حداد يوم الاثنين 8 ديسمبر. ونظموا لجان إضراب في المقاولات الكبرى ووجهوا نداء إلى خلاياهم لنشر شعاراتهم. وحمل مناضل شاب، عبد القادار أواب، النداء إلى عبد الرحيم بوعبيد بالرباط لنشره بجريدة "العلـَم" في اليوم الموالي. وفي الآن ذاته، وبتبديل فريد للمواقع، جاء عضو من اللجنة الإدارية لحزب الاستقلال، عبد الله إبراهيم، من الرباط حاملا إلى النقابيين شعار إغلاق الحوانيت و التجارة الذي أطلقه الحزب في اليوم ذاته مساهما بذلك النحو على الصعيد الوطني في مظاهرة الاثنين 8. وفي اليوم ذاته، 6 ديسمبر، ودون إشارة إلى وفاة فرحات حشاد، ندد الجنرال غيوم، في برقية كان أرسلها إلى كي دورسي بـ"التحريض الذي يقوم به ويؤججه حزب الاستقلال بمناسبة دورة منظمة المتحدة". وأشار إلى التخوف الكبير لدى السكان الفرنسيين و "النخبة المغربية، لا سيما القادة التقليديين". وأشار إلى قلاقل لا يمكن اتقاؤها سوى بسياسة حازمة. لذلك قرر، بقصد ضمان النظام، "أن يبقي بونيفاص، الذي أحيل على التقاعد بتاريخ 29 نوفمبر، في وظائفه مؤقتا بصفة مكلف بمهمة". [3] على هذا النحو ُأبقيت على حالها، وبرأسها المفكر والفاعل، "البطانة" التي قررت القضاء على الحركة الوطنية وإضفاء طابع جزائري على المغرب.
هذه بعض المقاطع من النداء المنشور بجريدة «العلـَم" صباح يوم الأحد 7 ديسمبر: « ان الطبقة العاملة وشعوب أفريقيا الشمالية في حداد عميق بسبب الاغتيال الفظيع والوحشي الذي تعرض له أخونا وزعيمنا فرحات حشاد... ان أخانا الفقيد معروف في العالم بصفته رمزا للحرية الوطنية والديمقراطية ولاجتماعية. لقد الاستعمار، باقترافه هذه الجريمة، وجهه الدنيء وبرز مرة أخرى بما هو عدو الحرية والتقدم والديمقراطية...». وبعد سرد انتهاكات الحرية و ما يعانيه عمال المغرب من أشكال ظلم خلص إلى: « إن الاتحاد العام للنقابات المغربية ، المعبر الأمين عن مشاعر الطبقة العاملة، يدعو كل العمال ومختلف شرائح الشعب المغربي لجعل يوم 8 ديسمبر 1952 يوم حداد وطني، ويدعو إلى يوم إضراب وطني 24 ساعة في هذا اليوم للاحتجاج على اغتيال المرحوم فرحات حشاد والمطالبة بتدخل منظمة الأمم المتحدة في الصراع بين الشعبين التونسي والمغربي من جهة و الحكومة الفرنسية من جهة أخرى، هذا الصراع الذي حوله الاستعمار إلى عدوان مسلح شرس ضد الشعوب العزلاء... عاشت تونس، عاش المغرب ! عاش شمال أفريقيا المسلم!
وفي ليلة السبت 6 إلى الأحد 7 ، حسب ادعاءات الشرطة، دعت شعارات باللغة العربية على الجدران بالمدن العتيقة وأحياء القصدير، ومناشير الاتحاد العام للنقابات الموحدة بالمغرب إلى إضراب يوم الاثنين 8 والى اجتماعات يوم الأحد صباحا. وقد أُخبر عنها في القنيطرة والرباط وسلا واسفي والدار البيضاء.
المواجهات بالدار البيضاء
كانت الدار البيضاء، تلك المدينة الكبيرة، والمتروبول الاقتصادي،و المدينة الصناعية، المدينة المنار [4]. ثمة تتجابه القوى الحاملة للمطالب: البرجوازية التجارية، شعب الحوانيت والحرفيين، الجماهير العمالية والشعبية من المدن العتيقة وأحياء الصفيح، وقوى الاستغلال والقمع الاستعمارية: أرباب العمل الأوربيين الكبار، فئات متوسطة من صغار أرباب العمل والحرفيين و " بيض صغار" و رئيس المنطقة كلي القدرة ، فيليب بونيفاص، مع مساعديه، من مراقبين مدنيين، وضباط الشؤون الأهلية، وأعوان المخزن، والقوات النظامية، عالم بكامله عازم على تحطيم كل تجل للوطنية المغربية. كانت الدار البيضاء تحدد الحياة السياسة للبلد، متخطية في ذلك العاصمة الرباط بكثير. اجتمع صبيحة يوم الأحد 7 ديسمبر، على الساعة العاشرة ونصف، 1500 إلى 2000 عامل بدار النقابات بشارع لاسال، المسمى حاليا شارع فرحات حشاد، ترأس الاجتماع بلعيد بن عبد الله، كاتب الاتحاد المحلي. وتناول الكلمة بالتتابع الطيب بوعزة الأمين العام، ومحمد التباري كاتب الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب. ندد الاثنان بجريمة تونس، وأثنوا على الفقيد، ثم استعادوا الحجج المثارة بانتظام منذ المؤتمر السادس والتي تعني لمن يلفظها المتابعة القضائية، والسجن والنفي ان كان مغربيا، والطرد ان كان فرنسيا، أي اعتبار النظام الاستعماري مسؤولا عن كل الشرور التي يعاني منها العمال ووجوب محاربته. وبعد ذلك ُعرضت على الحاضرين التوصية التي تستعيد جوهر النص الذي نشرته "العلـَم" والداعي إلى إضراب عام تضامنا وحدادا يوم الاثنين، وجرى التصويت عليها. و بقصد إضفاء شكل مختصر وقاطع عليها، يبدو انه لم ُيحتفظ منها سوى بالفقرتين الأخيرتين. ويشهد متقاعدون فرنسيون، كانوا مجتمعين بإحدى قاعات البورصة، على أن كل شيء جرى في أكبر هدوء. وعند الزوال عبر الحاضرون بلا صخب الأحياء الأوربية، والتحقوا بأزقتهم أو أحيائهم الصفيحية. وأتم مناضلون تشكيل لجان إضراب، في الميناء ، وفي المقاولات الكبرى بالساحل، وفي القواعد الأمريكية [5]. وكان العمل بالميناء يجري كالمعتاد حسب جريدة لافيجي ماروكين. لكن الوضع بكامله انقلب في المساء بكاريان سانطرال.
انفجار كاريان سانطرال
كان مصدر الأحداث المأساوية التي شهدتها الدار البيضاء ليلة 7 إلى 8 ديسمبر ونهار الاثنين 8 عزم رئيس المنطقة، بونفاص، تحطيم الحركة الوطنية الاحتجاجية. كان وجه الأمر لباشا المدينة لإعلام السكان المغاربة في المساء بأن أي إغلاق للحوانيت و أي عرقلة لحرية العمل ستكون عرضة لعقاب شديد، وأمر قوات شرطته بأن تعتقل صباحا خطباء الاتحاد العام للنقابات المتحدة الذين دعوا إلى الإضراب. وفي بداية الليل انشر منادون عموميون، ُمرفقون بمخازنية، في الأحياء المغربية لإعلام السكان. لم يتردد هؤلاء، والتزموا في الغد، عبر الإضراب وإغلاق الحوانيت، بحدادهم. لكن الأمور سارت على نحو آخر في كاريان سانطرال. لماذا؟ طبعا كان الوسط من طبيعة مغايرة. كان هذا الحي الصفيحي، ذي 40000 ساكن، والقريب من الأحياء الصناعية للصخور السوداء، وعين السبع، ومحطة القطار، مسكنا لعمال المصانع وسكك الحديد مع أسرهم. كان وعيهم العمالي والوطني حادا جدا. تلقوا الأمر على نحو سيء، ونفذوه بقوة جعلت المنادين العموميين والمخازنية، وأعوان الباشا، المرعوبين، يتراجعون إلى مركز الشرطة، الواقع في طرف الحي الصفيحي، وسط مساحة طليقة، حابسين بلا شك بعض المتظاهرين كما المعتاد. واجتاح حشد متعاظم الساحة. ويبدو أنه كانت ثمة فترة مفاوضات. ثم شرع رجال الشرطة يطلقون النار. ومن تلك اللحظة لم يتوقف تكثيف إطلاق الرصاص بقدر وصول تعزيزات على الساعة العاشرة ثم العاشرة ونصف، ليبلغ ذروة مع تدخل الكٌوم، وهم وحدات مشاة مغربية جرى تكليفها علاوة على ذلك باعتقال المناضلين الذين تعرضت منازلهم، المرصودة منذ أمد بعيد، للتفتيش. إنها "مطاردة ساحرات" كشفها لنا مؤخرا مناضلون كانوا مهددين بها،والتي تؤكد على هذا النحو تلك الشهادات المدلى بها بعد أيام من الأحداث لمتقصي الدورية الفرنسية تيموانياج كريتيان [6]. عادوا من عملهم ليلا، فوجدوا أنفسهم وسط متظاهرين مطاردين بنيران الحرس المتحرك، وكان طريحون ممددين على الأرض، قتلى أو جرحى ؟ من يدري؟ وتشكلوا في فرق إنجاد. وكان أكثر من 80 جسما ممددا بمجسد سيدي عبد الرحمان الصغير. وصباح يوم الاثنين 8، بعد هدوء أُستتب حوالي الساعة 2 ونصف، كان مجموع كاريان سانطرال مطوقا ومحاصرا بمصفحات حاملة رشاشات و فيالق قوات الأمن. تمكن عدد من المناضلين من العبور من عيون الشبكة. وفي الساعة التاسعة ونصف اشتعل كل شيء من جديد. ومن جديد ارتمت قوات الكٌوم والحرس المتحرك في مطاردة المناضلين. وجرى إطلاق للنار زاد عدد الضحايا تضخيما. ولم تتعرض أي من الأسر الأوربية التي كانت تعيش في بعض أحياء المجمع الصفيحي وسط المغاربة لأي مضايقة.
جنازات الضحايا المغاربة وإطلاق الرصاص بقنطرة سوق الزروع [الرحبة]
في الساعة 11 وربع ُنظمت جنازة ضحايا المجزرة. انطلق الموكب من المجسد الصغير سيدي عبد الرحمان نحو مقبرة بن مسيك. وتعاظم الموكب بقدر تقدمه، وتعزز بوصول سكان أحياء صفيحية أخرى، ومن المدينة الجديدة ومن الدار البيضاء ذاتها. وهكذا استقل الحافلة عمال لم يتمكنوا من الاجتماع صباحا بدار النقابات،وتوجهوا مباشرة إلى المقبرة. هذا لأن مسؤولي الاتحاد العام للنقابات الموحدة بالمغرب، الذين عرضوا للمصادقة قرار الإضراب في الأمس، كانوا قد اعتقلوا. كان أولهم الطيب بوعزة. ففي الفجر ُطوق منزله بالعديد من قوات الشرطة، واعتقله مفتش الاستعلامات العامة غارسيت، وفتش بيته، واقتيد ملفوف الرأس في قناع أسود إلى المفوضية [كوميسارية] المركزية بشارع تونس. ومن ثمة ُنقل إلى سجن القنيطرة، ووضع في زنزانة مظلمة لم يخرج منها إلا بعد شهرين ليلتقي بمعتقلين آخرين. ثم كان دور التيباري وبلعيد عند وصولهم إلى دار النقابات. ولم ينجح رفاقهم في انتزاعهم من أيدي الشرطة. ولم ينعقد الجمع العام. لكن حُدد موعد على الساعة الثانية ونصف. و طلب المحجوب بن الصديق من اندريه سالييريس، أمين مال الاتحاد العام و كاتب فيدرالية الموظفين، الذي كان بمكتبه، مبلغ مال بسيط بقصد إرسال برقيات احتجاج من أجل تنبيه الرأي العام بفرنسا وذهب مع رفاقه إلى بن مسيك.
تشكل، بعد انتهاء دفن الضحايا، موكب من آلاف المتظاهرين، وقاده مناضلون وقرر التوجه إلى بورصة العمل حيث سينعقد اجتماع للاحتجاج ضد اعتقالات الصباح وتعيين وفد للذهاب إلى المنطقة المدنية للحصول على إطلاق سراح المعتقلين. ان المسار المتبع، الذي حاول متقصون مبعوثون من دورية تيموانياج كريتيان إعادة رسمه، يفاجئ بتعقيده الناتج ربما عن سعي إلى تشويش قوات الشرطة. سار المتظاهرون على طريق أولاد زيان ثم داروا فجأة يسارا، وسلكوا شارع ليوتنان مانفي، وأفضوا إلى طريق مديونة على مستوى قنطرة السكة الحديدية قرب سوق الزروع [الرحبة]. لكن قوات شرطة كثيرة كانت ترابط بالقنطرة، و أطلقت النار فوق رؤوس الموكب فور ظهوره " لكن دون خسائر" حسب جريدة لافيجي ماروكين. و تراجع الحشد المرعوب عائدا إلى شارع ليوتنان مانفي حيث تعرض 3 فرنسيين مارة للرجم والقتل. ثم اتجه متظاهرون، جماعات صغيرة وعبر سبل مختلفة، إلى شارع لاسال حيث كان تقرر عقد اجتماع في الصباح. وأتاحت لهم فرق الشرطة المرابطة بمداخل المدينة الأوربية المرور بلا صعوبة. وبالعكس أوقفت الشرطة، قرب دار النقابات، المناضلين الفرنسيين الذين اعتادوا الذهاب إلى قاعات أو مكاتب نقاباتهم وفيدرالياتهم، من بريديين أوسككيين أو موظفين أو كهربائيين. وحوالي الساعة الرابعة والنصف سيعاينون مشاهد تغيظهم.
" مصيدة" شارع لاسال
كان كل شيء ُمعدا بدقة. بينما كان العمال المغاربة يدخلون إلى دار النقابات، على الساعة الثالثة، كان رئيس المنطقة يعقد ندوة صحفية. وكان عليه إعطاء تفسيرات حول الأحداث المأساوية التي عاشتها الدار البيضاء، والليلة الدامية بكاريان سانتطرال، وإطلاق النار بقنطرة "الرحبة"، و المصيدة التي فتحها للنقابيين و يستعد لإغلاقها. وكان عليه أيضا أن يحدد النبرة للصحافيين، صحافيي مجموعة ماس وصحافيي أرباب العمل الكبار، الذين وجد فيهم تابعين متسرعين، على استعداد دائم للإضافة إلى بيانات السلطة وأنبائها الكاذبة. كان المطلوب إثارة رعب السكان الأوربيين وتهييجهم. أقدم حسب قوله على إحباط "مؤامرة" حقيقية تستهدف اقتراف" مذبحة بين سكان الدار البيضاء الفرنسيين"... " تدفقت تعزيزات أمنية... لقد أصدرنا الأمر إلى القوات المسلحة باستعمال أسلحتها، بعد الإنذارات المعمول بها ... لقد ابلغنا المندوبين النقابيين قرار منع عقد اجتماع جديد بدار النقابات بعد زوال يوم الاثنين..." سنتصرف عند الاقتضاء بصرامة كبيرة، ستكون الدار البيضاء في مأمن..(...) " [7] لم يكن أي مما قيل صحيحا. لم ُتوجه الإنذارات المعمول بها لا في كاريان سانطرال ولا في قنطرة "الرحبة" ، ولم ُيمنع الاجتماع بالمقر النقابي الذي ظل عن قصد مفتوحا و متاحا للعمال المغاربة وحدهم. عزم رئيس المنطقة على استغلال الإحداث التي جرت والتي استثارها لتحقيق ما كانت سلطات الحماية تصبو إليه للقضاء على الحركة النقابية والأحزاب الوطنية التي تحركها، الحزب الشيوعي المغربي وحزب الاستقلال. وعلى الساعة الرابعة أُغلقت "المصيدة المفتوحة". فقد أعطى فيليب بونيفاص إشارة الهجوم. كسرت سيارة ذات رشاش مدخل دار النقابات، و" بدأت عناصر الشرطة إخلاء المكان... وجرى ذلك بوتيرة جهنمية ... وبصرامة قصوى جعلت المرشحين للجريمة مقتادين خارج المقر... وفورا ارتفعت خناجر علامة على الهدوء ..." حسب جريدة لوبوتي ماروكان- بروغري ماروكان ليوم 9 ديسمبر. وقبض على المسؤولين النقابيين، منهم المحجوب بن الصديق عضو مكتب الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب، ومحمد الشرقاوي، كاتب فيدرالية الموانئ و الشيالين، وزهاء مائة متظاهر، و أُجلسوا مقرفصين وأيديهم فوق رؤوسهم بجانب البورصة، واقتيد بعض العمال بعد تفتيشهم إلى مخارج المصيدة. كانوا خائفين. وفي شارع الطيران الفرنسي (قرب البورصة) خاصمهم سكان الحي الذين " قاموا، وصيحات "مجرمون" تتعالى، بإساءة معاملة بعضهم " (لافيجي ماروكين 9-12- 1952). الحقيقية أنهم هوجموا من طرف حشد تحركه هستيرية قاتلة [8]. هذا لأنه بينما كان الاجتماع جاريا بالمقر النقابي، كانت تباع أعداد من جريدة لافيجي ماروكين، جريدة بعد الزوال التي صدرت للتو، وهي تدعي الأخبار بما جرى بكاريان سانطرال. أعلنت الجريدة بالصفحة الأولى، بعنوان عريض، على ثمانية أعمدة،:" فتنة جديدة بكاريان سانطرال هذا الصباح"، ثم تابعت على ثلاثة أعمدة بنفس الخط " اغتصاب أوربيين اثنين و ذبحهما"، وهو خبر جرى تكذيبه في الغد صباحا من طرف شريكها المتواطئ لوبوتي ماروكان- بروغري بأحرف صغيرة بأسفل الصفحة الثانية. وصباح يوم 9 ديسمبر، طلعت ماروك بريس، يومية جاك والتير، رئيس الغرفة النقابية للمناجم بعنوان يغطي نصف الصفحة الأولى، كي لا يتفوق عليه المنافس في الهول: " أدت فتن الدار البيضاء التي أعدها متطرفون بمؤامرة حقيقية إلى قتلى وجرحى عديدين. تم قتل ثمانية أوربيين بوحشية نادرة". وهاجم متظاهرون مركز الشرطة بكاريان سانطرال وسقط 20 قتيلا. وبطريق مديونة اصطدم المتظاهرون بقوات الشرطة وسقط 10 قتلى. وحوصر 3000 مغربي بمقر النقابة، في قلب المدينة، ُعزلا". وكي لا يبقى دينٌ على لافيجي ماروكين نزلت بعنوان:" استتب الهدوء بالدار البيضاء... حصيلة الفتن: 7 أوربيين مقتولين بوحشية وممزقين، وزهاء أربعين قتيلا بين أهل الفتنة، و500 معتقلين". وتواصل ذلك طيلة ثلاثة أسابيع. كأن الصحافة الفرنسية بالمغرب أصابها جنون.
جنازات الأوربيين والقمع
جرت يوم الأربعاء 10 جنازة رسمية للأوربيين. كان ثمة أربعة توابيت بها جثامين الضحايا الثلاث بشارع ليوتنان مانوفي، وجثمان رابع لم ُتكشف هويته توفي صاحبه في ظروف غير موضحة جيدا. وكان الحداد الذي ُمنع منه المغاربة يوم 8 ديسمبر رسميا هنا. وتعطلت الإدارات بعد زوال الأربعاء. وفي الصباح كانت جريدة لوبوتي ماروكان تهدد:" يجب أن يشارك الأوربيون في الجنازة". كان سيلا من الحقد. وتعالت صيحات الهزء بالنشيد الشريفي. ونال الجنرال غيوم التصفيقات بعد أن ندد" بمن يبث الحقد" ومن يشجعهم من خارج، من أعدائنا و مع الأسف من "أصدقائنا" أحيانا ، وُردد نشيد المارسييز. وكانت جرائد 11 ديسمبر التي تعرض أحداث الأمس، تعلن حل الحزب الشيوعي المغربي وحزب الاستقلال و الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب ومنع صحفها، و أولى حملات الشرطة على المناضلين، حملات تكاثرت فيما بعد. و أتهم كل المناضلين السياسيين والنقابيين المغاربة المعتقلين "بالتآمر والمس بسلامة أمن الدولة الداخلي والخارجي". وتعرض أغلب النقابيين والعمال المقبوض عليهم بعد إغلاق " المصيدة" للضرب والتعذيب بشناعة، قبل تسليمهم لعدالة البشوات والقياد السريعة أو للعدالة العسكرية. وجرى طرد المناضلين الفرنسيين. غادروا في ثلاث جماعات متتالية أيام 12 و17 و30 ديسمبر 1952. اعتقلوا دون قرار من العدالة، وغالبا ما اختطفوا من مكان عملهم أو بمدخل بيوتهم دون إخبار أسرهم. كان منهم محامية شابة، أرملة حرب، ُفصلت بقساوة عن أطفالها الثلاثة، ومعمر صغير، بيار بارون، معطوب حرب 14-18، مفاوض استسلام القائد الريفي عبد الكريم، وقائد جوقة الشرف، والمقاوم الذي ترأس جمعية قدماء المحاربين بأفريقيا الشمالية، وعضو أول جمعية استشارية، ثم نائب المغرب بأول جمعية تأسيسية بباريس. اقتيدوا إلى مخافر الشرطة، وُجمعوا بمفوضية الشرطة المركزية حيث تمكنوا، في دورة ممر أو من فتحة باب، من رؤية رفاقهم المغاربة عراة، مضرجين بالدماء، متورمي الوجه، ثم وضعوا في عربات مساجين، مقيدي الأيدي كمجرمين مبتذلين، واقتيدوا إلى الرباط. و وضعوا،بعد عبور بمصلحة القياسة الاناسية ثم بثكنة للحرس المتنقل، في طائرات، و ُألقوا في شوارع باريس.[9] كانت معاملات شائنة من أناس يبدو أنهم فقدوا حس الإنسانية والشرف. عندما انكشفت حقيقة ظروف أحداث الدار البيضاء وطابعها، والتي انضافت إلى أحداث تونس، صعدت موجة استنكار كبيرة في فرنسا وفي الهيئات الدولية.
المصدر : البير عياش، الحركة النقابية بالمغرب الجزء الثالث : نحو الاستقلال (1949-1956) الصفحات 147 الى 156
تعريب جريدة المناضل-ة
مؤلف ألبير عياش عن تاريخ الحركة النقابية بالمغرب، صدر منه معربا الجزآن الأول (1919-1942) [ دار الخطابي للطباعة والنشر – 1988] ، والثاني(1943-1948) [ منشورات مجلة امل – مطبعة النجاح الجديدة - 1997 ] ، أما الجزء الثالث ( 1949-1956) فلم يعرب بعد.
إحالات: [1]: كان المحجوب بن الصديق، الذي أفرج عنه وأعيد إلى عمله بسكك الحديد ونُقل إلى طنجة، عابرا بالدار البيضاء. [2] في فبراير 1951 شنت النقابتان التونسيتان USTT و UGTT إضراب 24 ساعة احتجاجا على العنف الذي كان سلطان المغرب عرضة له. [3] حسب شارل اندريه جوليان في كتابه المغرب في مواجهة الامبرياليات. لم يذكر المؤلف مصدره. [4] كانت الدار البيضاء تجمعا من 20 ألف ساكن في مطلع القرن العشرين. أنشأها الاستعمار، وأصبحت بإرادة المارشال ليوطي أكبر جسم مينائي بالمغرب. كانت البيضاء عام 1952 أكبر مدن شمال أفريقيا من حيث عدد السكان والقوة الاقتصادية. كان بها زهاء 680 ألف ساكن، 130 ألف أوربي و 560 ألف مغربي، و75 ألف يهودي. هذه بعض الأرقام الكاشفة للاختلالات وما قد ينتج عنها من توترات بين الأعراق: مساحة مجال البلدية 1250 هكتار، اقل من عشرها يحوزه المغاربة الذين يمثلون 80 بالمائة من السكان، أي كثافة متوسطة تبلغ 1100 شخص بالهكتار، بينما يحوز الأوربيون 90 بالمائة الباقية، أي بكثافة 100 شخص بالهكتار. [5]: أفان غارد ، جريدة الاتحاد المغربي للشغل ليوم 13-12-1980. " ذكريات مناضلين حول أيام ديسمبر". [6]: تيموانياج كريتيان. باريس 10 ابريل 1953، مقتطفات بكتاب بارات ، العدالة للمغرب دار نشر سوي.1953 صفحة 238 وما يليها، ورواية المناضل بسكك الحديد بدري المعطي للمؤلف. ولد بدري المعطي بخريبكة عن اب مزارع وتابع بالدار البيضاء، بعد المدرسة الابتدائية، الدروس بالمدرسة الصناعية (1941-1944) وحصل على شهادة الكفاءة المهنية كخراط. اشتغل بالقاعدة الجوية بخريبكة وطرد بعد ستة أشهر بسبب محاولته إنشاء فرع نقابي. دخل إلى مؤسسة سكك حديد المغرب حيث أنجز كامل مساره المهني. سجن بعد أحداث 1952. كان كاتبا لفيدرالية السكك في الاتحاد المغربي للشغل. [7]:بوتي ماروكان- بروغري ليو 10 ديسمبر 1952. تصريح فيليب بونيفاس للصحافة. [8]:شهادة ج-ب ميلو ، منغال ميشال، ، اندريه سالييرس والسيدة هـ عياش. [9]: المطرودون من المغرب: أ) روبير غارسيا، ميشال مازيلا،جورج لويس،دوني سانتوس،شارل دوبويي،اندريه السرفاتي، لوران بريس دافينس، جورج فرنان، رايمون لاغرانج، انطون مارتنيز، لويس فيفس. ب) ألبير عياش، بول دوتويت،بيار بارون، فنسان فيليزولا،فورتيني سلطان، سافاستا فرانسوا، راميس كليومنت،ايفون لوب. ج)هنري برودوم،ميشال منغال، هنري لافاي،لوسيان لاموت،ايفلين السرفاتي، ارنست كازورلا،جورج لونجان،روبير دوايان،ميشال كولونا،جورج فيرير،رونيه مارشال،لانوكس جاك،صبان افرائيم، سماما رافائيل. المهن: 11 عامل بسكك الحديد، 7 مدرسين من 34 أي 53 بالمائة الاقامة: 17 بالدار البيضاء، 7 بمكناس من 34 أي 70 بالمائة
#البير_عياش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|