|
مشاكل التقدم في المجتمعات التابعة
سعيد مضيه
الحوار المتمدن-العدد: 2165 - 2008 / 1 / 19 - 11:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعهد التصوف فى العصر المملوكي قيمة اجتماعية هابطة هادمة هي عدم الاعتراض على ما يجرى في حياة المجتمع من أفعال وآثام. وفي العصر العثماني تحولت اللامبالاة إلى جمود وتأخر دارت فيه الحياة الاجتماعية والدينية حول القبور المقدسة والابتهالات إلى الحجارة أملا في خلاص. وعلى أرض فلسطين استقر حينا من الدهر وعي مستلب. كتب المنور الفلسطيني، توفيق كنعان(1) في بداية القرن العشرين حول زيارات الأولياء وتداول الأحجيات والتعاويذ. وضع أكثر من مائة وثلاثين من الكتب والأبحاث والمقالات حول"المعتقدات الغيبية والطب الشعبي في ارض الكتاب المقدس"، "طاسة الرجفة"، "النباتات في الخرافة الفلسطينية"، "المعتقدات الشعبية حول الماء والآبار والينابيع". كتب حول " البيت العربي الفلسطيني، عمارته وفلكلوره" و " معتقدات الجن في الأراضي المقدسة"، وكل ما شكل عبر القرون جزءا مهما من النسيج الثقافي للجموع الفلسطينية المستكينة للجور . يجمع الفولكلور مواد تعود إلى المذهب الشيعي، إذ يشاهد أسماء الأئمة الأثني عشر على "كاسة الرجفة" وعبارات تعود لليهودية وأخرى للمسيحية والعديد من معتقدات الوثنية. وهذا يشير إلى تعدد الثقافات البدائية المتعايشة على هذه البقعة والتي تطابقت مع نمط الحياة السائد. العزلة التي عاشها الفلاح بعيداً عن كل رعاية من جانب سلطة حكم لم تعرف غير توسيع الخراب وفرض السخرة ألجأته إلى نشدان السكينة في الخرافة والطقوس والابتهالات والتوسط لدى أصحاب" الكرامات" ولدى الحجارة. ومن بعض تفرعات الصوفية احتكار المشعوذين للكرامات والحكمة. ظهرت الصوفية تأويلاً للدين في العصر الوسيط، بهدف "العودة إلى السلف الصالح"، والابتعاد عن الفكر العقلاني الذي هيمن ستة عشر عاما في عهود المأمون والمعتصم والواثق ثم أطاح به المتوكل، بعد ان قرب منه الإقطاعيين والأمراء والمتحدثين حملة فكرهم ممن أبعدهم المأمون. برز فكر أبو الحسن الأشعري مناهضا للمعتزلة، ثم تاه في بيداء الاستبداد وإخضاع الرقاب لسطوته، وتوصل إلى ما أسمي العلم اللدني. طلع أبو الحسن الأشعري في أواخر القرن الثالث الهجري، بادعاء مفاده أن الدين لا يعنى بسعادة الناس. أسقطت الأشعرية العلاقة بين الموجودات والحوادث، وقالت باستحالة معرفة الحقيقة، باستثناء الحقيقة الإلهية عن طريق الإشراق والانكشاف على المطلق. تخلت منهجية الفكر الجديدة عن دعوات القرآن إلى التعقل والتدبر والتبصر والنظر في الواقع والتأمل في خلق الله والتفكر في سننه. العلم اللدنى ينظر أصحابه إلى العلم الآخر (العلم الظاهر) نظرة احتقار لأنه "علم بشرى مكتسب"، ويشترطون في من يتصدى للحصول على العلم الإلهي اللدنى أن يكون قلبه فارغاً من العلم البشرى وصالحاً لتلقى العلم الإلهى. ثم إذا وصل صاحبنا بزعمه إلى العلم الإلهى فلا اجتهاد ولا معارضة، ولا مجال لمناقشته أو الاعتراض عليه، بل يجب أن يؤمن الناس بما يقوله وأن يسمعوا ويطيعوا. تعاقبت التطورات على هذا التأويل فاحتكر الأشاعرة ممارسة الرياضات الروحية ، بينما الجماهير المسحوقة ترسف في أصفاد الجهل، وتغرق في مستنقع الخرافة. ظهرت مقولة العلم اللدني نقيضا للعلم التجريبي، ونشأت ظاهرة التشفع بالحجارة وممارسة الأذكار وطقوس الدروشة واللوذ بالأولياء لتخفيف الكروب. وفي كتابه "الأيام " لفت الدكتور طه حسين إلى إلى الظاهرة المنتشرة في الريف المصرية ، الذي هو نموذج للأرياف العربية والإسلامية كافة. العلم اللدني وسيلة المشعوذين للسيطرة على العامة. بجانب الاستبداد السياسي نما واستقر استبداد فكري واحتكار للحقيقة يسانده ويتغذى من نسغه. اما التيار العقلاني العربي الذي تنامى في صدر الإسلام فقد ذبل وخبا، إذ افتقد القوة الدافعة بسبب ابتعاد التجريب في هذا التيار عن النظرية. تصاعد الصدام بين الأشعرية وثقافة الإبداع والتجديد وبلغ أوجه في الفترة الثانية للحكم العباسي. وشهدت حقبة ما بعد سقوط بغداد على يد المغول، ردة هائلة. أحرقت المجلدات ومؤلفات العلماء والنوابغ، وتم تكفير معظم العلماء أمثال الرازي والخوارزمي وابن سينا والبيروني وابن رشد والتوحيدي، وأعدم الحلاج . هي حقبة شبيه بها حقبة غزو العراق من قبل القوات الأمريكية. في هذا المناخ الموبوء أقبل الجمهور على كتب السحر والشعوذة والتصوف، وتجاوب الوجدان الجمعي مع خرافاتها. انتشر ما يعرف بالطب النبوي ، وشاعت أساطير وخرافات، وتم افتتاح عشرات العيادات التي تداوى بالقرآن الكريم . وتوثقت العلاقة بينها وبين حلقات الزار وزيارات " الأولياء" والتداوى من المس الشيطانى والربط الجنسي وكتابات المحبة و التأليف بين القلوب.
في مرحلة الظلام سادت الخرافة وابتذل الفكر. وفي العصر الحديث لم يكن سهلاً التخلص من هذه الترسبات الصلبة في الوعي الاجتماعي. لم تتوفر الرافعة القوية الكفيلة بانتشال الهياكل الاجتماعية الشبيهة بالحفريات المتكلسة. المجتمعات الأوروبية عبرت الواقع الظلامي، لكنها نجحت في تبديد دياجيره بأنوار الطفرة العلمية المندفعة بزخم الثورة الصناعية، بينما أطلت على العالم العربي ثقافة التنوير خلوا من الرافعة الصناعية. لامست المجتمعات العربية في مرحلة النهضة المجهضة حضارة العلم دون أن تتقاطع معها. أسفر القصور عن استبدال العلم التجريبي بالإيديولوجيا. والإيديولوجيا إذا ما انفصلت عن العلم التجريبي تنطوي على وعي زائف. على تخوم العصر الوسيط
وجدت من الضروري عرض هذه المقدمة مطولة، لأنها توضح تاريخية الحالة القائمة في المجتمعات العربية: أولا تكشف عن بيئة أنماط احتكار الحقيقة ومطاولة "العقل المطلق" والمفاهيم العمومية، مع تسخيف العقل البشري وتوضيع الجماهير في موقع مستلب، تلك الظواهر التي تكتسح حياتنا حتى داخل دور العلم والجامعات. لم ينقطع الحبل الصري مع الأنماط القديمة في الفكر ونماذج الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، وظل الوعي الجمعي مثقلا بالخرافة والشعوذات، وهو قابل لتلقي الإشاعة وادعاءات الإلهام والكرامات دون تمحيص. وثانيا تقدم الدليل على أن السلفية ضلت في العصر الوسيط طريق "العودة" إلى السلف الصالح، وهي أعجز من الاهتداء في زماننا هذا. وثالثا الشعوذة المتذرعة ب" العلم اللدني"، أي استيحاء الحقيقة من خلال التسامي عن الواقع، منهج موجِّه للكثير من الأنشطة السياسية والثقافة والاقتصادية الجارية على أديم الأرض العربية، وتهيمن حتى على ممارسات قوى تزعم لنفسها التقدمية والديمقراطية، وعلى دور العلم . ورابعاً تتيح المقارنة بين الواقع الثقافي الراهن حيث تسيطر السلفية على صناعة العقل القومي في الجامعات ودور العلم وبين المنهج اللدني في ادعاء التميز عن المريدين، وبالتالي مدى تناقض منهجية التعليم المدرسي والجامعي التلقينية والتطبيعية ، المعطلة للإبداع مع مقتضيات العلم والمنهجية العلمية. حيث تقبع الجامعات العربية في أدنى مستويات الأداء العلمي في العالم. حيال هذا الواقع كم هي حصبفة وواقعية نصيحة لينين إلى شيوعيي الشرق في مؤتمرهم الثاني، (25 نوفمبر تشرين ثاني 1919). فقد حذرهم من"تقليد تكتيكاتنا"، ونبههم إلى ضرورة نقل شعوبهم إلى الحضارة أولا. خاطب لينين ممثلي شعوب الشرق قائلا، " إنكم ستواجهون مهمة لم تواجه قط شيوعيي العالم ، وبالاستناد إلى النظرية العامة للشيوعية وممارستها عليكم أن تتكيفوا مع الظروف الملموسة التي لا يوجد لها مثيل في أوروبا... ولفت الانتباه إلى مشاكل سوف يواجهونها ، "مشاكل لا يوجد لها حلول في أي كتاب شيوعي". وأبرز ظواهر تخلف العصر الوسيط تبخيس الإنسان، والمهمة الحيوية الأولى على جدول الأعمال تتمثل في التحرر الإنساني من التبعية لمراكز الرأسمالية ومن تخلف العصور. إن من شروط التقدم تصفية تبخيس الإنسان وتفكيك أسس ممارسات القهر والاستلاب والانسحاق في العلاقات الاجتماعية السائدة. والمهمة لم تنجز عبر قرن او أكثر من محاولات النهوض لأنها لم توضع في بؤرة برامج التحديث والتطوير. الخروج من حياة العصر الوسيط وقيمه، والتخلص من مناهجه وأدواته المعرفية مهمة من الدرجة الأولى؛ وهي تحتفظ بأهميتها رغم انقضاء أكثر من قرن على مطلب التحديث. وطرحت في الشرق مختلف البرامج التحديثية إلا أن أيا منها لم ينجح في إنجاز المهمة: علمانية أتاتورك، ليبرالية أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، حزب الوفد المصري، الحركات القومية والماركسية العربية...، كلها لم تنجز مهمة التحديث وبقي الإنسان الشرقي مصفداً بقيود التخلف والامتهان، وبقيت من ثم المجتمعات الشرقية مرتبطة بقيود التبعية للمراكز الرأسمالية. التجربة الوحيدة الناجحة في تحديث المجتمع هي تجربة الغرب، والقائمة على مبدأ الثورة الصناعية واكتشافاتها العلمية. تجربة ناجحة لكن..
في كنف الثورة الصناعية افلت وعي الكون والحياة من دائرة تناوب الفصول إلى رحاب الأفق الممتد بفضل اكتشاف الجديد بصورة مثابرة. والإبداع العلمي لم يتقدم بجهد عبقري بمفرده، إنما هو جهد جماعي نجح في بيئة اجتماعية ملائمة، إذ جاء نتاج مجتمع ناهض ضمن أطر مؤسسية قامت على أساس تقسيم العمل في مجال الإنتاج المادي. وفي كنفها تواصلت الاكتشافات العلمية تغلغلاً في الطبيعة ومعرفة متنامية لعناصرها المجهولة وقوانينها الموضوعية، وتحكما في نواميسها، ما مكّن من تسخيرها لمصلحة الإنسان. وحيث تغدو ممارسة العلم شاغلة للمجتمع بأسره وتحرك الجوانب الرئيسة من أجهزته وفعالياته الحياتية تتولد المنهجية العلمية. ينتعش الإبداع العلمي في بيئة اجتماعية تستلهم الموضوعية والواقعية وهي تنشد التغيير. تنطوي البيئة على دينامية منشطة لعوامل التغيير، وفي المقدمة منها قوى الإنتاج، قوى اجتماعية سائدة ذات مصلحة في توظيف العلم، وتقود عملية إنتاجه، ثم نظام الإنتاج ينظم من خلاله العمل وتسوده علاقات اجتماعية مطابقة، وتركيبة سياسية تصدر القرارات وتقر القوانين الضرورية لتيسير العملية وتنشيطها. في خضم هذه العملية الواسعة والمعقدة يبقى كل ما تجلى للمخيال المتوثب فرضية إلى أن يثبته التجريب فيكتسب صفة النظرية. فالعلاقة جدلية بين النظرية والتجريب، الفكر والممارسة؛ وهي علاقة تعتبر جوهر المنهجية العلمية. النظرية مشروطة بالممارسة والثانية مشروطة بالأولى، ولا فكاك بينهما. إن الممارسة الاجتماعية ـ وهي في الأساس إنتاجية ـ تتمخض عن فرضيات تختبر في الممارسة فتتخذ صفة العلم . هنا يفترق العلم عن ما اعترض مسيرة العلم والفلسفة واكتسب مفهوم "اللاأدرية"، إذ ينفي وجود الحقيقة أو إمكانية التوصل إليها. عنصرا المنهجية العلمية هما النظرية والتجربة ملتصقين في وحدة جدلية. المنهجية العلمية تنطلق في رحاب الاكتشافات العلمية وتتغلغل في الطبيعة تسعى لتملكها بالمعرفة. والمعرفة قوة لأنها توسع نطاق السيطرة على الطبيعة واستثمارها، لتعود على المجتمع بالمزيد من الثروة. وحسب تعريف الدكتور هشام غصيب، وهو أكاديمي أردني وباحث تقدمي، فإن " المنهجية العلمية تفترض أن الطبيعة نظام قائم بذاته، وأن هذا النظام يتشكل من نظم مادية متنوعة ومتمايزة عن بعضها البعض، لكن متفاعلة معاً عبر بعضها، وأن هناك علاقات وميكانيزمات داخلية في هذه الأنظمة تنتج الظواهر والتغيرات، وأن هناك قوانين ميلية مترابطة معا ومتنوعة العمومية تحكم هذه العلاقات والميكانيزمات، ومن ثم الظواهر، وأن الفروق المعيارية تحكمها اختلافات نوعية"(2). وبذا تختلف المنهجية العلمية عما قبلها من نظم معرفية لم تكابد التجربة العملية، فبقيت نظراتها بعيدة عن التأصيل وغير مطابقة للواقع المعاش. في مرحلة ما قبل العلم بقي لغزًا تبادل الصعود والهبوط، والتراجع والتردي في الحياة الاجتماعية والنظرات المعرفية. وفسرت التبدلات التي بدت للنظرة السطحية عشوائية، بأن الحياة تدور في حلقة مفرغة، شأن تعاقب الفصول . " لكل شيء إذا ما تم نقصان" حسب تعبير الشاعر أحمد شوقي. أما الحضارة الرأسمالية فهي أول من وظف العلم واخضع مسيرة التطور الاقتصادي والاجتماعي لمقتضيات العلم، وكسر الحلقة المفرغة واستبدلها بالأفق المفتوح على التقدم المتواتر. "الحضارة الرأسمالية أول حضارة استطاعت ان تتغلب فيها العقلانية العلمية على الفكر الغيبي، وأن تتحول من ثم إلى تيار اجتماعي جارف ومهيمن على شتى صعد الحياة الاجتماعية. اما الحضارتان الإغريقية والعربية ـ الإسلامية فقد برز في كل منهما تيار عقلاني دافق، لكنه لم يستمر طويلا ولم يتحول إلى تيار جارف مهيمن. وإنما ما لبث أن هزم على يدي قوى الاستبداد والإقطاع. وحتى في عصره الذهبي فقد ظل هذا التيار في الحضارات ما قبل الرأسمالية مكبلا ومحدود الأثر ضمن حدود معينة. لم تبرز قوى في تلك المجتمعات قادرة على تحويله إلى تيار جارف. يكسر هذه الحدود".(3) المنهجية العلمية تتخطى الأطر والحدود. هي جزء من الثقافة التي تقر بقيمة العلم ، خاصة في الإنتاج، لكنها الجزء المتحرر والدينامي من الثقافة الملتزمة بشروط اجتماعية وتاريخية معينة. يتناسل عن المنهجية العلمية عبر مراحل تطورها منظومات فكرية وفلسفية متفاعلة معها. الفكر حالما يتشكل يغدو قضية اجتماعية ويرتبط بمصلحة اجتماعية, وتدور بين الأفكار صراعات تعكس الصراع الاجتماعي. قد يتعثر الفكر وقد ينكفئ، ذلك أن الفكر يهيمن مقترنا بهيمنة حامله الاجتماعي ، أي المصلحة المعبر عنها. هذا بينما العلم سريع الخطو لأنه قوة إنتاج مباشرة.
دخلت المنهجية العلمية في منعطفات أربع طبقا لنجاحاتها في اجتياح مجاهل الطبيعة وتغلغلها في نواميسها وكشف ضروراتها. وكلما تقدم العلم يتعرف على مستوى أرفع من حركة المادة. في البداية انفصلت الفلسفة عن الطبيعة. استقلت كي تزداد التحاما بمنجزات العلم وتجليات الطبيعة. ثم تناسلت العلوم واستقلت واحدا بعد الآخر ضمن منطق المنهجية العلمية ذاتها. المرحلة الأولى تجلت بالشكل الميكانيكي للحركة، والمتمثل في عمل الآلة وساد قرابة قرنين من الزمن. ثم اكتشف نيوتن الحركة الفيزيائية ومن رحمها خرجت الكيمياء والجيولوجيا وحقائق البيولوجيا فعرفت المنهجية العلمية الحركة الكيميائية والحركة البيولوجية، واعترف بظاهرة التطور والتخلق من العدم. الأرض وما عليها والكواكب ونظمها في خضم عملية تطور وارتقاء . وعلى يد مندل تشعبت نظرية الوراثة وما نما إليه من علم الجينات والخلايا ثم ظهرت نظرية تحول الطاقة. وامتدت نظرية التطور إلى مجال الفلسفة وعلوم المجتمع كافة والسياسة بمضامينها. فبعد أن كان العالم آلة ضخمة سرمدية دقيقة التنظيم تعمل كإنسان صحيح الجسم ،غدت في ضوء التطور العلمي العاصف عرضة للتغيير والتبدل والثورات. في هذه المرحلة دخل الديالكتيك( الجدل) إلى ميدان الحياة الاجتماعية، وعرف النمط الخامس من الحركة، حركة المجتمع. دخل أينشتين بنظريته النسبية وملخصها أن أي نظرية علمية جهد عقلي في محاولة للاقتراب من الواقع ، وهو جهد صادق في حدود معينة ، لكنه لم يكتسب صفة الحقيقة المطلقة. ومن ثم فقد بات مؤكدا، كما قال الدكتور حامد عمار (4) " في مسيرة التطور العلمي لا يمكن القول أن نظرية نيوتن غير صحيحة، أو أن النظرية النسبية وحدها هي الصحيحة. والخلاصة أنه حتى الآن لا تستطيع أي من النظريات العلمية المختبرة أن تزعم امتلاكها الحقيقة المطلقة في وصف الأشياء أو الظواهر المادية أو الحيوية أو الإنسانية. وهذا ما يدعو بالضرورة إلى تكامل المناهج العلمية والتعليمية في الدراسة بطريقة متوازية، توظف فيها أساليب التحليل والترابط والتفاعل في كلية الظواهر تحت الدراسة." إلى أن يقول" ... غدت الرؤية المنظومية ضرورة من ضرورات المعرفة العلمية، في السعي للاقتراب الشامل والدينامي في مجال العلوم الاجتماعية المختلفة، وفي العلوم البيولوجية والاقتصادية والتربوية والنفسية والطبية " . عبر هذه المسيرة المجيدة اغتنت الثقافة في الغرب واكتسبت مضامين علمية وتقلص فيها حيز الخرافة والشعوذة. نقول تقلص إذ ما زالت بعض مظاهر الخرافة والشعوذة تلقى الرعاية والدعم في ثقافة الغرب. ويكشف الدكتور عبد المحسن صالح(5) عن ممارسات شعوذة على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة، طليعة العالم في إنتاج العلم واستثماره قوة ووسيلة للهيمنة. حملة شهادات علمية ورواد فضاء يمارسون الشعوذة في شتى المجالات ونروج لهم الصحافة الرئيسة. ويتصدى العلماء الجادون للمشعوذين، لكن هؤلاء يستظلون بمظلة الحرية. وفي العلوم الاجتماعية أيضا تغلف الشعوذة بغلاف علمي، خاصة علم النفس والفلسفة والعلوم السياسية. ومن ذلك ما طلع به هنتينغتون من "نظرية" صراع الحضارات للتغطية على صراع المصالح، هذا الذي يقبع خلف الصراعات الاجتماعية والقومية كافة. وتحت مظلة هذه " النظرية" العلمية الزائفة تبرر إسرائيل مساعيها للاستيلاء على فلسطين كاملة وتشريد شعبها وممارسة مختلف نماذج الاضطهاد، كي تجبر الجماهير على النزوح خارج فلسطين. وتضطهد إسرائيل المسيحيين الفلسطينيين بوجه خاص، كي يرحلوا وتخلق المبرر لادعاءاتها بأن الصراع يدور بين اليهودية ، طليعة الحضارة الغربية، والإسلام مهد البربرية. الفكر الاجتماعي والعلوم الإنسانية يدور بشأنهما صراع اجتماعي . بينما العلم الطبيعي يندفع بقوة الطلب الملح والحاجة إلى الأرباح الاحتكارية واحتكار مصدر القوة والهيمنة في العالم المعاصر. في عصر العولمة غدت مدخلات منظومات التسلح مفضلة على مدخلات الصناعات المدنية، ويحتجز لصناعة الموت أفضل العلماء وأجود المواد الخام، وأرقى النماذج التقنية. يعزل العلماء عن قضايا المجتمع وعن ثمار عبقرياتهم كي لا يطلعوا على تسخير تلك العبقريات في صناعة الموت والتدمير. هذا ما يمثل الجانب السلبي من استثمار العلم لغايات تحقيق الأرباح القوى. ومن سلبيات حضارة العلم أيضا احتكار منطقة جغرافية معينة لخيراته، ما اكسبها قوة أخضعت لهيمنتها تلك المجتمعات التي فاتها قطار العلم، وحظرت عليها التصنيع والتمتع بإمكانات إنتاج العلم واكتساب المنهجية العلمية. الدور التابع للمجتمعات العربية حرمها من محركات التحولات الاجتماعية مثل النهوض الاقتصادي والسياسي والثورة العلمية وحركة الإصلاح الديني والاجتماعي وإحداث ثورة في الزراعة والتعليم والديمقراطية. في كتابه " هل هناك عقل عربي؟" يحاور الدكتور هشام غصيب طروحات محمد عابد الجابري التي استخلص منها وجود عقل عربي مفطور على المراوحة في " زمن ثقافي واحد" ممتد منذ عصر الجاهلية. قدم الدكتور غصيب تفسيرا اجتماعيا لا عنصريا للتخلف العربي، إذ خرجت من رحم الشرائح المهيمنة في العصر الوسيط برجوازية واهنة عجزت عن قطع الصلة الفكرية والاجتماعية مع العصر الوسيط. هدمت الهياكل القديمة دون أن تبني هياكل عصرية تتحرك بدينامو العلم. لفقت فكرا انتقائيا من قشور الفكر العلماني أو استعانت بفكر السلف من منظور الدراسات الاستشراقية. بمنهجية علمية دحض الباحث العلمي مقولة " اجترار التاريخ الثقافي الذي كتبه أجدادنا" بتحليل علمي لظاهرة تخلف الفكر الاجتماعي العربي ." أن الموروث التاريخي العربي والغربي هو بمثابة مادة خام فكرية يغرف منها الوعي العربي الحديث السائد ويصوغ ما يغرفه منها وفق بنيته وقدرته ومقاصده. لكن عملية الصوغ في هذه الحال لا تتعدى في جوهرها الانتقاء. ومع ذلك فحتى الانتقاء هو في النهاية نوع من الصوغ، نوع من الإنتاج الذهني. وبمعنى آخر فإن العملية المذكورة ليست في الواقع عملية اجترار وتكرار، ولا هي عملية خلق وإبداع ، وإنما هي عملية انتقاء واختزال وتبسيط وتسطيح . ومن ثم فإن صورة التاريخ الثقافي العربي الحديثة في الوعي العربي الحديث السائد لا يمكن أن تكون مماثلة لصورته القديمة، وإن كانت الصورتان تشتركان في الكثير من العناصر" (6) يرد في كتابات الدكتور غصيب وآخرين مفهوم " الوعي العربي السائد" إشارة إلى وجود وعي مقهور، غير مرغوب فيه لأنه نقدي تنويري، يدل على بديل التقدم والتحرر والتنمية، أي البيئة الاجتماعية التي ينتعش فيها العلم التجريبي ومنهجيته العلمية. وبصفته هذه فهو مطارد في ميادين والسياسة والاقتصاد، مطرود من رحاب الجامعة ومعاهد العلم. أزمة أقطارنا العربية جزء من الأزمة البنيوية للرأسمالية المتوحشة، أزمة تسخير العلم من أجل الأرباح القصوى. والتحرر من التبعية وانتزاع حق التطور الوطني المستقل ، ضمن حركة العولمة الإنسانية المتطلعة لتسخير العلم لخير البشرية ، في انتزاع العلم من قبضة الرأسمال تجد البشرية ، والشعوب المقهورة والمصفدة بقيود التبعية ، خلاصها. ___________________________________ 1- أنظر كتابه المترجم إلى العربية"الأولياء والمزارات في فلسطين" ترجمة نمر سرحان،تحرير د.حمدان طه،منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية بالتعاون مع دار الناشر –فلسطين، رام الله 1998 2- د. هشام غصيب ــ دراسات في تاريخية العلم ،عمان دار التنوير العلمي للنشر والتوزيع 1993، ص35 3- د. هشام غصيب ـ هل هناك عقل عربي؟ دار التنوير للنشر والتوزيع، عمان 1993،ص 52. 4- د.حامد عمار. مواجهة العولمة في التعليم والثقافةـ الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة 2006، ص56 5- أنظر" الإنسان الحائر بين العلم والخرافة"،ط2، عالم المعرفة 235تموز1998 6- د.هشام غصيب، هل هناك عقل عربي؟دار التنوير العلمي 1993،ص173
#سعيد_مضيه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكم الشوكة والأمن القومي
-
صوت التوحش المتقحم من أدغال الليبرالية الجديدة
-
هل تدشن زيارة بوش مرحلة تفكيك المستوطنات؟
-
فهلوة مرتجلة
-
جردة حساب عام ينقضي
-
بؤرة التخلف الاجتماعي
-
العجز عن الارتقاء
-
منبرللتنوير والديمقراطية ومناهضة العولمة
-
أخلاقية النضال التحرري وتحديث الحياة العربية
-
إشهار أخلاقية النضال التحرري وتحديث الحياة العربية
-
بعض ظاهرات الإعاقة في الحياة العربية
-
إسرائيل : وقائع التاريخ تنقض الإيديولوجيا
-
نظام شمولي محكم يسود الولايات المتحدة الأمريكية
-
المحافظون الجدد ينتهكون حرمة الحياة الأكاديمية
-
تمويه سياسات التوحش بالتبذل الإيديولوجي
-
حكم القانون
-
من المتآمر في تفجيرات نيويورك
-
اكتوبر شمس لا تغيب - مبادئ أكتوبر شبكة الإنقاذ من وحشية العو
...
-
ثقافة الديمقراطية ـ ديمقراطية الثقافة
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|