|
جدل حول قصيدة النثر في بيئة مُسرْطَنة
هاشم تايه
الحوار المتمدن-العدد: 2163 - 2008 / 1 / 17 - 10:03
المحور:
الادب والفن
خصص اتحاد الأدباء في البصرة جلسة الجمعة الصباحية (11/1/2008) المعتادة للسؤال عن قصيدة النثر، هذا الشكل (الغريب) الذي صدم إيقاعنا التليد، وأقلق بحوره الراسخات، وأفزع سفنه، وملاّحيها، بعد أن جرّ إلى ساحته ثلاثة أرباع طاقتنا الشعرية واستأثر بها، وغدا الهوية الحديثة لصورة الشعر عندنا، هذا الهمّ الذي يضربنا في كلّ جنب مع أوجاعنا الكثيرة التي لا نهاية لها. وفي جوّ حامت فوقه سحب لم تمطر، إلاّ بخجل، من الارتياب بقصيدة النثر، والتبرّم من (انفلاتها، وجنوحها، وإثقالها بتجارب ضعيفة لم تكتمل بعد، وتحميلها مسؤولية كساد الشعر، وسوء سمعته، وانصراف جمهوره عنه)، في مثل هذا الجوّ الذي رافقه صراع طبيعيّ من أجل البقاء بين التفعيلة وكارهيها، انطلقت الأسئلة عن هوّية قصيدة النثر، وانتسابها، وشرعية وجودها- أيّة شرعيّة؟- وعن إمكانية أن نعثر لها على جذر في تراب الموروث العربي، وجدارتها، والآثار التي نجمت عن وجودها بيننا حيث تألّقتْ وحيث انطفأت... وغالباً، في أمثال هذه القضايا يُنسى ما هو بديهي، فقصيدة النثر، شأنها شأن أي شكل حديث بزغ في مشرقنا، جاءت استجابة لحاجة داخلية كامنة وجدت فرصتها في الظهور بأثر من الخارج، كأي شيء يقع في حياتنا المستوردة. أثيرت هذه الأسئلة وما سواها في ثلاث أوراق لثلاثة شعراء معروفين هم مجيد الموسوي، وعبد العزيز عسير، وطالب عبد العزيز، وقد تولّى تقديمهم لجمهور الاتحاد الأستاذ الناقد جميل الشبيبي الذي تساءل مع سوزان بيرنار بالقول متى ستكف الصفحة الفلانية عن كونها نثرا كي تشحن بالشعر وتستحق اسم قصيدة، مشيرا الى راية التمرد التي حملتها قصيدة النثر بوجه القصيدة العربية الكلاسيكية مزعزعة قواها من اجل الاطاحة بتخوم الشعر والتأسيس لشعريّة خارقة. وبعد ان عاد الى بيرنار مقتبسا قولها "تريد قصيدة النثر الذهاب الى ما وراء اللغة وهي تستخدم اللغة وتريد ان تحطم الأشكال وهي تخلق اشكالا وتريد ان تهرب من الادب وها هي تصنع ادبا مصنفا" تساءل الشبيبي قائلا ماذا تريد قصيدة النثر العراقية بالتخصيص وما هي إشكالات هذه القصيدة وهموم شعرائها وهل الازمة التي نعيشها في الشعر ام في الشاعر وهل الشكل الجديد للقصيدة ينتج بالضرورة قصيدة جديدة؟ أسئلة أوجدها هذا العدد الهائل من الذين يتزاحمون في فضاء الشعر دون ان يعرفوا شروطه الإبداعية على حد قوله. الشاعر مجيد الموسوي أشار في أول مأخذ له على قصيدة النثر افتقارها إلى آباء جديرين تولّدتْ عنهم، رواد حقيقيين، على حدّ قوله، يقفو الشاعر أثرهم فيكون بوسعه ان يحث خطاه في غابة الشعر، روّاد قادرين على الابتكار والإدهاش والنفاذ بعمق إلى الحقيقة.. لكي يتوفّر لقصيدة النثر أساس متين تحلّق منه. وذهب الشاعر الموسوي الى أنه يجب الإقرار بثلاث حقائق بصدد قصيدة النثر، الأولى تؤكد ان قصيدة النثر تشكلت في أدبنا بعد ترجمة نماذج عالمية من نصوصها الى لغتنا، والثانية تنبّهنا إلى أن قصيدة النثر نشأت في فضاء قصيدة التفعيلة التي بتخليها عن نظام البيت الشعري التقليدي أوجدت الضرورة إلى إعادة تنظيم البناء الشعريّ، وهيّأت الأجواء للوليد الجديد.. والثالثة لا بدّ أن نقرّ بها إذا ما رغبنا بإيجاد سبب تتعلق به قصيدة النثر ويصلها بموروثنا، وأراد بذلك نصوص الأدب الصّوفي التي يمكن اعتبارها بذرتها الأولى. وبعد أن أكد الموسوي حقيقة أن قصيدة النثر غدت واقعة متحققة وظاهرة لا يمكن إنكارها أشار الى أن الجدل الدائر حاليا حولها يتمحور حول ثلاثة توجهات، توجّه ينكرها جملة وتفصيلا باعتبارها ظاهرة طارئة، وآخر يراها ظاهرة فنية جديدة يمكن أن توجد في أدب أية امة من الأمم بوصفها شكلا من أشكال الاستجابة لروح العصر، وتوجه أخير يعتبرها الشكل الوحيد النهائي الذي يمكن ان يحتوي الشعر المعاصر ويعبّر عن حداثته. الشاعر عبد العزيز عسير بدأ ورقته بالحديث عن المفاهيم المتطرفة -الديكتاتوريّة- التي تنعكس في تزمّت المحافظين، وتمرّد الثائرين، فالتطرف ينسف المفهوم القديم بمفهوم جديد، وهذا غير صحيح، فالأولى أن تتعايش مفاهيم كثيرة، مشيرا الى ان الاختلاف حول مفهوم الشعر لم يقتصر على الفكر العربي وحده ومؤكدا ان رواد الحداثة فصلوا بين الشعر وبين نظمه، وأن خصوصية أية تجربة شعريّة تولّد شكلها الخاص. وعن الإيقاع في القصيدة الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة الذي يرى كثيرون أنّه مفروض عليها من الخارج قال الشاعر عبد العزيز عسير إن الإيقاع من ثوابت اللاشعور الجمعيّ، وهو جزء من الإشراقات الباطنية للشاعر، فلماذا يقصيه الشاعر بعد أن تسرّب لا شعورياً إلى قصيدته. إنّ الإيقاع يصبح غريبا ومفتعلاً وبارداً متى ما جاء متأخراً عن ولادة القصيدة ومقحماً عليها. ومن جانب آخر إذا كانت لحظات الشعر تتدفّق بهدوء بإيقاعها المتحرر الخاص فلماذا يقحم عليها الشاعر بعد ذلك الوزن أو الإيقاع. أمّا الشاعر طالب عبد العزيز فقد فضّل الحديث عن تجربته الشعريّة التي جعلها خالصة لقصيدة النثر متذكرا الراحل سرجون بولص الذي حظر عليه النظام السابق الكتابة بلغته الآشورية فكتب قصيدة النثر في موقف اعتبره ضد النظام. وذكر طالب عبد العزيز، في إشارة لا تخلو من دلالة، إلى أنه مغرم بلغته العربيّة، وأنه وجد الشعر أقصر الطرق لحبّها. ثمّ عرّج على بدايات سفره في فضاء الشعر، منوّهاً بأستاذه الشاعر عبد العزيز عسير الذي يسّر له سبل التعرّف على العروض، وبحور الشعر التي عزف عنها لأنّها تثقل لغته الشخصيّة، وأنه حين ينصرف لتعلمها فإن كثيرا من الشعر سيفوته. وخلص طالب، بعد أن أشار إلى قراءاته الأولى وتعرّفه على جيل رواد الحداثة الشعرية ومن جاءوا بعدهم، إلى أن كتابة قصيدة النثر صارت قضية جوهرية خلال حرب الثمانينيات، وأن الوزن أصبح من ماضي الشعر. وأن الحديث عن قصيدة النثر لتعريفها وإضفاء الشرعية عليها هو إسهام في تنكيرها بعد رسوخها. فلم تعد الدراسات تتحدث عن شرعيتها بل عن حضورها وهي فن مجاور. وأكد الشاعر طالب عبد العزيز أن مشكلة الشعر لدينا تكمن في انه استخدم كدعامات للأنظمة السياسية والدينية والقبلية معززاً رأيه باقتباس من أدونيس الذي يرى أن قصيدة النثر أسهمت في خلخلة هذه الأنظمة. وعاب طالب عبد العزيز على القصيدة الموزونة استجابتها للصوت، في حين جاءت قصيدة النثر لتسترد بعض ما افتقده الشعر العربي، لأنها قصيدة تهمس. واختتمت أوراق الشعراء بتعقيبات أهمها ما ذكره القاص محمود عبد الوهاب الذي نبّه على ضرورة وصف قصيدة النثر بأنها شكل وليست نصّاً لأن النص هو ما اشتمل على خصائص معينة تجعل منه نصّا. وأكّد أن الاختلاف على قصيدة النثر ، إنما جاء بسبب الاسم والتجنيس، فلو لم تكن تسميتها مجانسة للتسمية الفرنسية لما أثارت هذا الإشكال. وأن قصيدة النثر هي جنس خاص تولّد في حداثة ثانية بعد شعر التفعيلة. صباحية قصيدة النثر لم تفت من دون منغصات فقد دُعيَ الحاضرون الذين فرغوا،بعد ساعات من الجدل حول قصيدة النثر، إلى جلسة أخرى جانبية استمعوا خلالها إلى معلومات خطيرة أدلى بها خبير البيئة الدكتور قيس السلمان المياحي، تتعلّق بالبيئة العراقيّة الملوّثة التي ستتحوّل إلى كارثة إنسانيّة حقيقيّة بالغة الخطورة خاصّة في محافظة البصرة، إذا لم تُتّخذ إجراءات عاجلة وفاعلة تتوحّد خلالها جهود مؤسسات الدولة المعنيّة ومنظمات البيئة والمجتمع المدنيّ، ووسائل الإعلام، وتنعكس في عمل جاد كبير مدروس لوقف مخاطر البيئة القادمة، وإنقاذها من آفاتها الرّهيبة، بعد أن يتمّ التمهيد له بمؤتمر دولي تشرف عليه منظمة الأمم المتحدة وتتضافر فيه جهود الدول الإقليمية وخبراء البيئة. الدكتور قيس السلمان أطلق صرخة البيئة العراقية الملوّثة في أكثر من مكان داخل العراق وخارجه... ألّف كتاباً فيها، وأجريت له مقابلات في أكثر من صحيفة في دول الخليج، وخارجها، ودعا، خلال ذلك، إلى حمايتها مشخّصاً آفاتها، مشيراً إلى كوارثها القادمة، التي لن تنحصر في العراق وحده، وإنّما ستتجاوزه إلى بعض البلدان التي تجاوره، ممّا يتطّلب تدارك مخاطرها بمسؤولية تُحشّد لها قوى المجتمع كلها، وإلاّ فإنّ وباءها المهلك سيصيب الملايين من الناس الغافلين، خاصّة في مدينة البصرة التي يرجّح الدكتور السلمان أن نصف سكّانها سيصابون بالسرطان في العام 2020 إذا بقيت الأمور على ما هي عليه.. ولم يفت الدكتور السلمان أن يشير، بعجالة خلال الوقت القصير الذي وجده في جمعة اتحاد أدباء البصرة، إلى آفات بيئة البصرة الملوّثة الكامنة في مياهها وتربتها، المتمثلة بالمواد المُسرطِنة التي نشأت من الألغام المزروعة بعد أن غمرتها المياه فتفاعلت معها وأنتجت فيها تلك المواد المسببة للسرطان. وانتقلت هذه المواد إلى أنسجة الأحياء المائيّة بما فيها الأسماك، وعبر حركات المدّ والجزر حملت مياهنا موادها المسرطنة إلى مياه الخليج، وأصابت أحياءها. غير الألغام هناك إشعاعات اليورانيوم المنضب المنبعثة من قذائف الحروب الطويلة، والمواد التي يستخدمها أهل الأهوار في صيد الطيور والأسماك وهي تدخل مهربة في شحنات عبر حدودنا، ومواد كيمياويّة أخرى تستخدم في أغراض شتى من دون ضوابط، إلى الحدّ الذي لا يخلو فيه الأمر من نوايا خبيثة تورّطت فيها جهات معينة وهدفها الانتقام من أهل هذه الأرض التي أعطت دمها وثروتها من دون أن تحصل على شيء حتى من أقرب أقربائها... إنّني أقرأ كلمات الدكتور قيس السلمان في ضوء نُذُر الوباء القادم التي أجدها في ضحايا السرطان الذين تزداد أعدادهم في مدينتي البصرة، في نسائنا المعانيات اللواتي يقرض أجسادهن الجميلة هذا الداء الخبيث، وفي أطفالنا الذين تتيبّس أغصانهم على الأسرة، وتجف دماؤهم ويذوون منطفئين في حضرة الأمهات والآباء، ويموتون بصمت بارد وبلا اكتراث من أحد. دعوة مخلصة أطلقها خبير بيئة مهتمّ يجب الإسراع إلى الإنصات لها بوعي وبمسؤولية، وعدم ادخار أيّة طاقة، وأية ثروة من أجل إنقاذ إنسان هذه الأرض، وحتى لو افترضنا أنّ المعلومات التي أدلى بها الدكتور السلمان صحيحة بنسبة 25% فإنّها تستحق بذل كلّ جهد.
#هاشم_تايه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سليلة الملائكة
-
عصفور آب
-
معرض أطفال العراق في حفل زواج
-
الشعراء العراقيّون يغزون أمريكا
-
كيسُ القُبَل
-
نُزهة قاتلة
-
على مفرق الحجر
-
سياحة عمياء
-
بعيداً عن الوحل خذني
-
حوار مع الفنان العراقي هاشم تايه
-
ميثولوجيا عراقية
-
مصالحة في الهواء الطلق
-
ذُعْر لا يقوى على حمله الهاتف
-
كلاسيك
-
المربد ... الصوت والصدى
-
ضيف الحجر
-
أجراس
-
من أجل أمّي
-
مَنْ يحلب القيثارة السومريّة في لندن ؟
-
كولاج الألم
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|