|
نجوم
المنصور جعفر
(Al-mansour Jaafar)
الحوار المتمدن-العدد: 2156 - 2008 / 1 / 10 - 11:10
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
هذا مقال يحاول أن يوقد من أنين الرثاء بعض إشراقات الفداء .
في نهايات تبلور العقد الاول من القرن الواحد والعشرين بين آخر سنة 2007 وأول سنة 2008 وتحول الزمان مما كان عليه من فرفرة وتوحش نظام السوق إلى ما هو كائن فيه من تفاقم أزماته أودعت الحياة العلمية والسياسية في السودان والعالم في سماء الوعي ثلاثة نجوم يهتدي بهم إسراء الشعب إلى الإشتراكية في موارد العيش وسلطان قسطه ونظامه وما يتبع ذلك من حرية وسلام.
كان أول من تم توديعه هو المناضل الشيوعي عالم الإقتصاد ورافد الجامعات الجديدة في جوبا وأم درمان الدكتور فاروق كُدُودة الذي جسدت مآثره عمرانية النوبة التليدة في معرفة وحكمة حركة معالم النجوم يعلمون بها عدد السنين وحساب فيوض النيل والأرض ويعمرون الدنيا بأهرامات تاريخ لتراتب الكتاب والحكمة والثقافة وجوهراً مبلوراً لما يخرجه البشر من خفق النيل أو باطن الحجر من خير هو خمج النوب أو الذهب يوم كان السواد دالة الخصب والخير والنماء.
وقد صرف فاروق عمره النضير رافداً لنيل النضال الشيوعي النبيل يمده من لدنه النوبي بذهب المعرفة والجهد أيما كان عليه حال ذلك النضال في فيضه أو في سكينته في آتون الخفاء أو في خضم العلن.
كان فاروق كُدُودة فطناً عظيم العقل، عالي المقام بسيط التعامل، هيناً ليناً ودوداً، مطمئناً عارفاً بعزه، ووئيداً في تحقيق مهامه، وفي فتح آفاقه، وقد وهب نضاله الشيوعي لقيمة التعلم والتعليم فكان هرماً نوبياً شامخاً في علم الإقتصاد السياسي أعاد تجريد عمرانه إلى حيوية أصله السوداني القديم يوم كان النوبة يحسبون خيرهم مقدماً من حركة النجوم ومعدل ترسيب الذهب في جنبات النيل، ولعل من ذلك الإرث الحكيم كان فيض فاروق بــ"إقتصاد السودان" مادة علمية في علم الإقتصاد طالما تاقت إليها الآمال وإنصرفت إلى تحقيقها عبر السنين -ولم تزل- جهود العلماء.
في خضم تحولات الوطن والحزب بين آتون السرية وخضمات العلانية كانت لفاروق كُدُودة مواقف مائزة في علاقة الوطن والحزب بالإشتراكية وعلاقة الوطن والحزب بالديمقراطية ومدى الطبيعة الطبقية والجماهيرية لهذه العلاقة في خضم وجود السودان كهامش وتابع لمراكز النظام الرأسمالي العالمي. وقد رفدت هذه المواقف النقاش العام لأمور الحزب وأمور الوطن بكثير من تفاصيله وفاضت بحيويتها فيه وقت القحط والموات.
النجم الآخر الذي أودعته الحياة العلمية والسياسية في سماء الوعي هادياً لإسراء الشعب إلى الإشتراكية في السلطة والموارد العامة، كان عالم التاريخ وأستاذه الماركسي اللينيني البليغ ونحوه وصرفه وثقافته وذلكم هو أسطونة تاريخ السودان الحديث الدكتور محمد سعيد القدال.
لم يكن الدكتور محمد سعيد القدال مجتر حوادث ومعارك وسجل قادة، بل كان مؤرخاً حقيقياً منقباً يخرج من ركام الزمان النفائس، وكان غواصاً عدنيا في لجج الأحداث والمعارك يخرج من أصدافها اللالئ السوداء والزرقاء والحمراء منها والأورجوانية والبيضاء، لا بضرب تخمين أو هوى، بل بعلم مكين وحساب صرف، اذ تكشف كتبه ومقالاته عن حساب دقيق لكينونات ومفاعيل قوانين الطبيعة في شكلها الخام وفي شكلها الإجتماعي وحكمة للجدل الجامع والقاسط بينهما، يحدد قواها وحاجاتها وضرورات حياتها وأزماتها وجهودها لمواصلة حياتها و إنماءها، وما يتشاكل من ذلك أو يتواشج مؤتلفاً مكوناً نسقاً جديداً من الحياة له تاريخه ومستقبله.
كان محمد سعيد القدال في سعة نظرية للتراث تواشج أدب تاريخ وإجتماع وتراثيات الشيوخ عبدالله العلايلي وعلي الوردي وهادي العلوي وفي سعة للحداثة تفوق يونان لبيب ورفعت السعيد، على ما في خفق تأملاته من ومض لوهج أستاذ المناهج البطل الشهيد مهدي عامل. ففي تاريخ محمد سعيد القدال وأدبه كانت اللمحات المادية في حياة الناس قرينة بفلسفة معاشهم بما في ذلك من طبيعة الطبيعة وطبيعة البشر، وكانت اللمحات الروحية لحياة الناس قرينة أيضاً بفلسفة معاشهم وبأدب عيشهم، مما واشجه سيد عويس وحيدر إبراهيم علي في إجتماعياتهم ودراساتهم الثرة ولم يألو القدال خطواً وجهداً لعشرات السنين في تأثيل ما في هذين اللونين من اللمحات في لون قديم جديد هو "تاريخ السودان الحديث".
كان القدال ينفذ من سطح الأمور إلى طبيعتها، وكان من درس طبيعتها يخبر بتكوين وحركة معالمها وينفذ إلى أقطارها بسلطان النهج السديد الذي يقدر وضع أوائل الأشياء قبل ثوانيها وثوانيها قبل ثوالثها، بذورها وإصولها قبل فروعها، وأرضها ومياهها ومناخها قبل زراعتها. حكيما بجدل تراتيب العوامل التي هي سنة الكون تخرج الحي من الميت وتفني الحي، في صيرورة هلاك ونماء مرتقية إلى نهاها.
وكان القدال في جهده بتاريخ السودان الحديث بكل عناصره العرقية والسياسية خبيراً بطبيعته الطبقية التي تجعل بعض الناس أعلى عليين وتجعل بعضهم مستضعفين في أسفل سافلين، وفي هذا التراتب الطبقي الزنيم كان خبيراً بالموقع الآني الخاسر لسادة السودان وبالموقع الرابح مستقبلاً للمستضعفين فيه اليوم، فكان أحد الذين كشفوا الموقع العنصري الخاسرالذي حاول بعض المؤرخين أن يضعوا فيه جهادية الدولة المهدية في عهد المهدي أو في عهد الخليفة عبدالله التعايشي، فوزن عهديها بالقسطاس الوطني الطبقي وبمعايير الحكمة والحرية والبطولة الشعبية جهة الغشوم القديم للخلافة الإسلامية العثمانية وجهة الصولجان البريطاني (الجديد) لحكم الرأسمالية والسوق لأمور السودان.
وفي الخلاف الذي عصف بوحدة الحزب الشيوعي السوداني في الستينيات واوآئل السبعينيات من القرن العشرين لم يعرض القدال جانباً واحداً من الرأيين، بل عرض للإثنين معاً – بوزن معين رأه- حيث وضح حجة القائلين باهمية دور الدولة في تغيير قواعد الحياة الإقتصادية والثقافية والإجتماعية ونقل مقاليدها من سجاجيد السادة وملكهم الإقطاعي للأراضي والنفوس مدعومين بسلطان البنوك الأجنبية وتمويلاتها إلى حكم أهل القرى لأمور عيشهم وحياتهم، كما وضح حجة القائلين بأهمية حرية الشعب في تقدير أموره وتدرج أسلوب عيشه وفق ظروف حياته [الطبيعية] من حالة تقدير الشيوخ لأمره إلى حال يزيد فيها تقدير الناس لأمرهم. وفي أدب قيم أومى القدال إلى جوانب القصور والخطأ في الرأيين.
النجم الثالث الذي خفق في سماء إسراء جموع الشعب السوداني والإنسانية وتقدمهم إلى الخير والجمال، كان نجم الشباب والموسيقى بدر الدين عجاج، وقد قتلته يد آثمة جهلت كل معاني التقدم التي نشدها ولم تدرك معنى من معان الجمال الذي بثه في الحياة.
كان بدر الدين من الشباب الذين قدموا بفنهم الباذخ الآلات الجديدة للذوق السوداني، فكما قدم ود الحاوي آلة الأكورديون، وقدم شرحبيل أحمد وزوجته الكريم آلة الجيتار بأنواعها قدم عجاج آلة الأورغ الكهربي بكل إيقاعاتها وفنونها، ولم يكن في في ذلك طالب مال قدر ماكان مبدعاً مجيداً ومربياً فاضلاً لأجيال من الشباب الذي بددوا بقدرات هذه الآلة سطوة الفرق (الكاملة) وغلاء أسعارها بل وكسروا بها هيمنة الموشح والمقام ووشجوا بها الرفيع بالغليظ والقرار، وداخلوا ليون السباعي بدفق الخماسي متناهين إلى ذروة ماهو أقل من ربع الصوت، مما إشتعلت به الأنغام والمشاعر في الثمانينيات، وتدفقت بها التظاهرات الفنية حرية وسنانة ضد صنوف القمع والكبت والإرهاب.
كان بدر الدين عجاج علماً في الإبداع الفني للحون، ذاخراً ونابعاً بالجديد المثير فقد كان شاباً ألقاً في تفتيح الألحان وفي تنسيق المشاعر والأذواق حدائقاً للمتعة والجمال، ولعل لذلك صلة بنشأته في أواسط علم وثقافة في بلاد نيلية ثرة تخومها من طبول بداوة الغابة وحداء بداوة الصحراء.
وإذ قدم بدر الدين المتون والصوافي سلسبيلا فقد كان في ذلك عشقاً لجمال الوطن قدم اناشيده لحوناً شجية، وفرهد قضايا شبابه في رحاب فنه فكانت لحونه كغناء محمد الأمين ووردي ومصطفى سيدأحمد وعقد الجلاد ولوحات عبدالله بولا وبطولات يوليو 1971 شعاعاً للوطن في ينابيع الجمال وقبساً للجمال في شمس الوطن.
كان بدرالدين في همه بحركة التقدم والشباب نيلاً صاحب ذوق وشغف من تواشيح الغناء وتراتيل القرءآن وجماليات التصوف وطربه، يلين بآلته الحروف العاصية ويقصر بمفاتيح اصواتها المعاني الطويلة بخفقة حرف موسيقي ونون، وقد كان في حسن فنه وديع اللحون، خفيف الصدى، رنين الغناء، شذي الهما، طويل الجمال قصير اللغى، ذرب المعاني هفيف السنا.
والان إذ تترى مقالات الرفاق تمجد خصالهم النضالية ومآثرهم الفردية والشخصية معددة مكارمهم وأعمالهم وجليل صناعتهم وعظيم جدلهم وجلدهم وبسالتهم ومزياتهم العلمية والفنية فإن الحزن الذي يلف رثائهم اليوم يضرم ويتقد مع حرارة ملايين الشموس التي تشع من مآثر وعِبر ملايين الشهداء والمستضعفين في جنوب وغرب وشرق وشمال السودان ووسطه، ليتقد من تواشج هذا الفداء صبح ونهار جديد.
إن حياتهم التي هدهدها النضال وهدها لأجل حياة الشعب ستبقى معانيهم نجوماً خالدة في مسيرة الشعوب والإنسانية وتقدمها بالعلم والفن والثورة من أفق الفردية والتكالب إلى أفق الإشتراكية والنماء.
وإذ يذكر هذا المقال جانبا من مغازى حياتهم فمع خالص التقدير والإجلال والمجد لآل كُدُودة وآل القدال وآل عجاج وعموم الطبقة العاملة والحزب الشيوعي السوداني على ما قدمه آبناءهم ورفاقهم الأفذاذ من نور علم وجمال للمستضعفين في مشارق الارض ومغاربها في هذا الوطن المظلوم المهمش السودان.
#المنصور_جعفر (هاشتاغ)
Al-mansour_Jaafar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحفارين وأهل الطبقات
-
الحوار المسلح (2)
-
يا حفيد رسول الله (ص) لا تدعو إلى حرية الإستثمار!
-
وقائع موت مُعلن للإنسان
-
نقاط صغيرة في تجديد العملية الثورية
-
الأزمة الإمبريالية في جذورها وفي محاولات حلها
-
كيف تعزز السوق الحرة ضرورة ديكتاتورية البروليتاريا لحياة الن
...
-
نقاط في مشروع دستور ولائحة وبرنامج الحزب
-
بعض مفارقات حقوق الشعوب وحق الدول في الحفاظ على وحدة أراضيها
-
ثلاثة أخطاء قاتلة
-
تخلف الأحزاب عن طبيعة الصراع الوطني يفاقم العنصرية والإستعما
...
-
حُمرة أنغام الخريف
-
نقاط في تاريخ الماسونية... من السودان وإليه
-
عن أزمة النظام الرأسمالي ودولته السودانية في الجنوب
-
التأميم والمصادرة ضرورة للوحدة والتنمية ومكافحة العنصرية
-
الكلمات المتقاطعة والطرق الفرعية
-
شذرات
-
أطلقوا سراح البلد
-
نقاط من تاريخ الثقافة الرأسمالية في بريطانيا، بعض تفاعلات ال
...
-
دراسة لأحد ملخصات المناقشة العامة
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|