|
رحيل
سعاد جباره
الحوار المتمدن-العدد: 2141 - 2007 / 12 / 26 - 11:39
المحور:
الادب والفن
لنهارها طعم آخر هذا اليوم، ولمسائها, مسائها الذي طرح لنفسه موقعاً فريداً في ذاكرته الغضة، وطرح نفسه قلادة براقة في عنقها، له، لهذا الطفل, لهذا العمر، لهذا المساء رنين آخر قي الذاكرة، لن تعي قسمات وجهها، تفاصيلها المتنكرة بزي الفوضى والانشغال، قد تلمح طيفها العابث ينسل من بين الكلمات، وعلى غفلة من المفردات، ليأخذ قسطاً من الراحة، ويطلق لنفسه العنان في الرحيل مع ساعات الغروب متناسياً فوضاه، وفوضى البشر، لقهوتها رائحة مختلفة هذا الصباح، ابتسم فنجانها اليوم ابتسامة اخترقت روح الحلم، أي حديث هذا الذي أسرته للومنه الداكن، أي حديث هذا الذي أفضى بتلك الابتسامة، وأي عمر تحلم بان تلقيه إليها عقارب الساعات، غابت تفاصيلها خلف ساعات العمل الطويلة، لن تجد على صفحة وجهها تلك التعابير المغتربة، لن تلمح في حديثها أنين حيرة، هجرت تلك التعابير وذلك الأنين مساء أمس، امرأة أخرى تحفر لنفسها مكاناً في بحر عينيك، امرأة أخرى تقرا تصميماً في صوتها أكثر مما تسمع، تطبق جفونها على أمس بعيد جميل حزين، بعيد قريب، دافئ كحلم صيفي، وبارد كليلة شتائية هجرها المطر. تمسك أوراقاً وبعض الدفاتر وتلقي بها في خزانة تؤنس بصوتها المبحوح المهترئ جمود تلك الغرفة، تترك المكان مبتعدة، قد لا تتضح لك معالمها من بعيد، لكنك ستظل قادراً على رؤية ذلك اللون الزاهي الذي اختارته لحقيبتها على غير عادة هذا اليوم، لا يمكنك المراهنة حول ما يخفيه ذلك اللون في طياته، سعادة، ربما؟؟لكن هذا عالم تعلمك أيامه ألا شيء أكيد، تعلمك أن المسلمات في هذا الكون ليست ألا عبثيات، مشرقات، غاربات، تومئ لأحدى السيارات بالوقوف، تستقلها عائدة إلى منزلها، كانت متأكدة من انه تريد الوصول إلى المنزل، وأنها لا تحتاج لشيء أكثر مما تحتاج لسريرها بعد هذا النهار، متأكدة؟، لكن لا شيء أكيد، لا شيء ثابت، كل العبارات خاضعة لفوضى البشر ومزاجيتهم،مر أمس في صفحة ذاكرتها متوحشاً ضارباً في البعد نحو اللانهاية،أمس تذكر عنه الكثير، بل إنها لا تذكر غيره،الحب أمس ،والشوق أمس،والبعد أمس، واللقاء أمس،أمس كاد يضيع على الممرات الجمركية، وأمس أعيدت له الحياة أمس،أومأت له بالوقوف وأخرجت بعض الأوراق النقدية من حقيبتها وردت أخرى إليها،وقررت أن تتابع المسير وحدها غير مصغية لحديث السائق الذي ينطلق هاذياً:" ليس هذا المكان الذي تريدين!........." - " هو ما أريد…هو سريري الذي أريد…هو وسادتي التي أريد."وقفت أمام أحد المقاهي هاذية بهذه العبارات ولم تلبث، كأنهاً حتى دخلت، لم تعد تفاصيلها كما في السابق كأن أمراً عكر صفوها، كان مكانها الذي صار بيتاً لغيرها، طاولتها التي علمها الهجر أن تصير مضيفة لكل عابر سبيل، أخذت طاولة أخرى مكتفية بالنظر إلى بيتها المهجور المأهول، وغابت ملامحها في صورة بيتها ذاك:"هناك التقينا أول مرة…وهناك افترقنا آخر مرة، لم ادر انه اللقاء الأخير …لم ادر انه الوداع الأخير…لم اعرف انه الرحيل…لم ادر انه رحيل طويل…"مر النادل على الزبائن كافة، في كل مرة يمر كأن مروره الاعتذار، حذراً لا يرغب في إخراجها من تلك الصومعة، كأنه عرفها، كأنه عرف تلك النظرات المحملة بشوق وألم وحب، وكأنها تلمس مما في عيونه من حذر، وتعود شاكرة لطفه:"هنا التقينا منذ عام، عامين، ثلاث، وهنا تحدث ساخراً:عفواً سأذهب في رحلة لن تطول وأخاف أن أضيع هذه الخواتم…أبقها لديك ريثما أعود" قالها وهز أوتاره ضاحكاً ضحكات رتيبة رنانة، تذكر تماماً ما قالته يومها:"لن يضيع إذا كان في يدك"رد بصلابة قهرت رنين ضحكاته:" سيتعب إن صار في يدي"تحرك حقيبتها باحثة عن تلك الخواتم مسترجعة صوتها الذي جمد حين سمع تلك العبارة المبهمة:"يتعب؟إذن دعه يرحل"أخرج علبة السجائر ونفث شيئاً من الدخا، كأنهه تعمد إحداث تلك السحابة لتكون ستاراً يستتر خلفه ويخفي ذلك الخوف والترقب ليبتسم قائلاً:"هو ضيف لديك…متى مللت مكوثه فحرريه"صلبة كانت كلماته وسريع كان رحيله بعدها،رحل ذات مساء…على غفلة من اللقاء مخلفاً صورتها خلف زجاج النافذة وفي عينيها يربض انتظار،المرأة الأولى التي يخلف فيها لقاءه المقدس معها،المرة الأولى التي يتركها فيها تحدث المقاعد،الطاولة وفنجان القهوة،كان له موعد مع القضبان،موعد سرقه منها،وسرقها منه،موعد طال وطال وطال. يلتمعان في يدها كأنهما ياقوت ومرجان، طفلان صغيران، حبان ضائعان، ترسل نظ، لولطاولتها المهجورة المأهولة، تبارك تلك الوجوه الرقيقة وتختار الرحيل عله يكسر لوعة الانتظار لطيف لن يأتي، لم تكترث بعجلات السيارات، بنواقيسها، بصوتها المرهق، تابعت سيرها تلك الساعة، متنشقة ذكرى أمس في كل زاوية من المدينة، لائمة لنفسها ذلك التخلي عن تلك الدوائر الذهبية في أيامها الراحلة، لامت في نفسها اليأس والقنوط، عابت فيها الخذلان، هجت فيه قلة الوفاء:"كيف فعلت ذلك؟…كيف حاولت البحث في الوجوه عن بديل لحلم آمنت انه لن يتكرر لو تكرر العمر، ولو صار العمر عمرين"تجتاز منزلها هادئة غير آبهة بعقارب الساعة، بما تشير إليه من الوقت. فكت رباط شعرها، تركته يستنشق عبق حياة جديدة لامرأة جديدة، امرأة عادت تستضيف ضيفها بحب وسكينة قلبها قبل حقيبتها …فتحت نافذتها مترقبة سرباً من الطيور يمر سريعاً في المكان وأسرت:"لا باس حتى لو لم يلتفت إلى مكانه احد، لا باس لو لم يتذكر احد قضباناً تقتل قلوباً وأعماراً لا باس إن صرت خارج دائرة اهتمامهم …ستظل داخل دائرة اهتمامي، وأظل داخل دائرتك الذهبية.
#سعاد_جباره (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صدى الذاكرة
-
سنابل تحترق بصمت
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|