قبل أيّام ترأس الرئيس الفرنسي جاك شيراك اجتماعاً وزارياً خاصاً، ورفيع المستوى لأنه ضمّ رئيس الوزراء وعدداً من كبار الوزراء، لمناقشة الإجراءات الواجب اتخاذها من أجل مكافحة العداء للسامية في فرنسا. وجاء هذا الإجتماع الخاصّ في أعقاب إحراق مدرسة دينية يهودية في بلدة "غانيي" شرق العاصمة باريس، وتتويجاً لسلسلة النقاشات الواسعة التي تدور بين مفكرين يهود ومسلمين (فنكلكروت، غلوكسمان، هنري ـ ليفي، ضدّ الداعية والجامعي المسلم طارق رمضان). وكان السفير الإسرائيلي في فرنسا، نسيم زفيلي، قد أسبغ طابعاً دراماتيكياً على هذا النقاش حين قال في مقابلة إذاعية إنّ "اليهود الفرنسيين يتساءلون عن مستقبلهم في هذا البلد".
والواقع أنّ فرنسا تحظى بمكانة خاصة في قلوب الصهاينة، أو هكذا ينبغي أن تكون الحال تاريخياً. ففي نهاية الأمر، هنا في فرنسا كانت قضية الضابط الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس هي الشرارة الأولى التي أشعلت لهيب فكرة الدولة اليهودية في قلب وعقل صحافي نمساوي يهودي يدعي تيودور هرتزل، كان آنذاك في باريس مراسلاً لصحيفة "الصحافة الحرة الجديدة"، أبرز المطبوعات الليبرالية في أوروبا تلك الأيام. صحيح أنّ هرتزل لن يشهد تبرئة دريفوس لأنه توفي عام 1904، ولكنه شاهد بأمّ عينيه وأصاخ السمع عميقاً للحناجر الفرنسية التي كانت تهتف: "الموت لليهود!" على خلفية محاكمة الضابط البريء. مناخات العداء للسامية هذه دفعته إلى كتابة مسرحيته "الغيتو الجديد" وكرّاسه الأشهر "الدولة اليهودية".
والمفارقة المتمثلة في أن دريفوس نفسه كان بعيداً تماماً عن أي تفكير صهيوني، وهكذا ظلّ حتى وفاته عام 1935، لا تغيّر كثيراً من طبيعة الجدل الديناميكي الذي أطلق الحركة الصهيونية. كذلك فإنّ التصريح الذي أطلقه، ذات يوم غير بعيد، نائب وزير الخارجية الإسرائيلي ميكائيل ملكيور، والذي يتهم فرنسا بأنها اليوم البلد الغربي الأسوأ في ميدان العداء للسامية، مثل تصريحات زفيلي وسواه، لا تغيّر من طبيعة وحجم النفوذ الكبير الذي تتمتّع به الأوساط الصهيونية في مختلف ميادين الحياة الفرنسية، السياسية والإقتصادية والثقافية.
ووسائل الإعلام الفرنسية تشهد اليوم، وعلى أساس شبه يومي في الواقع، سجالات محتدمة حول ما إذا كان المرء يستطيع معاداة سياسات الدولة العبرية دون أن يقع تحت محظور العداء للسامية، أو ما إذا كان في وسع يهودي ــ كاتب أو مؤرّخ أو صحافي أو مواطن عادي ــ أن يعترض على بربرية أرييل شارون دون أن يُتّهم، وهو اليهودي كابراً عن كابر، بالعداء للسامية! هل الظاهرة جديدة؟ ليس تماماً في الواقع، وإنْ كانت اليوم تأخذ منحى مختلفاً يكاد يبلغ حدّ إهانة المجتمع الفرنسي بأسره، إذْ ليس من السهل أن يُقال عن فرنسا إنها البلد الغربي الأسوأ في العداء للسامية.
ومنذ سنوات، عللى صفحات "لوموند" وفي مناسبة الذكرى الثانية لاغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، أطلق خمسة من أبرز المفكرين والصحافيين الفرنسسين اليهود ما أسموه "نداء استغاثة" SOS، ليس لصالح الضحية اليهودية الأبدية، وليس في سياق الاستذكار الأبدي السرمدي للهولوكوست، وليس ضدّ سفك الدماء اليهودية على يد "الإرهاب العربي" كما كانت حال السيناريوهات المألوفة، بل... ضدّ سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو في الأساس، ثم استطراداً ضد مواقف "المجلس التمثيلي للهيئات اليهودية في فرنسا"، الـ CRIF.
الموقعون على تلك الإستغاثة هم الصحافيان جاك ديروجي (أحد كبار أساتذة التحقيق الصحافي) وجان ليبرمان، والطبيب النفسي المعروف جاك حسون، والمؤرخ دانييل لندنبرغ، وبيير فيدال ناكيه، الأكاديمي البارز المختص بالعلاقة بين التاريخ والذاكرة. ونداء الإستغاثة كان الثاني من نوعه في الواقع، إذ سبق لهؤلاء أن وقعوا مقالاً لا يقلّ سخونة على صفحات "لوموند" أيضاً، طالبوا فيه يهود فرنسا باتخاذ "مسافة نقدية كافية وصريحة ضد سياسات نتنياهو الإنتحارية": في عرقلة المفاوضات، والتهرّب من تنفيذ التعهدات والاتفاقات، واستئناف بناء المستوطنات في جبل أبو غنيم. وفي ذلك المقال سجّل الخمسة سلسلة احتجاجات على موقف الـ CRIF المؤيد لسياسات نتنياهو، أو الساكت عنها بما يفضي إلى التواطؤ معها.
لكن المقال الثاني احتوى على تفصيل جديد، كان نداء استغاثة بدوره، جاء هذه المرّة من السيدة ليا رابين أرملة اسحق رابين، في صيغة رسالة مفتوحة إلى الخمسة. وليس بغير معنى خاص أن السيدة رابين افتتحت رسالتها تلك بالعبارة الدراماتيكية: "اصمدوا جيداً، نحن بحاجة اليكم"! اصمدوا؟ ضدّ مَنْ؟ اصمدوا ضدّ أقلية إسرائيلية تحكم الدولة العبرية اليوم بمنطق العنف والعدوان، قالت السيدة رابين. اصمدوا هناك لأنكم تساعدوننا هناك، وتساعدوننا هنا أيضاً!
وفي مقطع مشبوب من رسالتها كتبت ليا رابين: "كما تعرفون، أصغت اسرائيل إلى صوت أقلية عنيفة عدوانية، في حين أنّ صوت الأغلبية ــ ولأسباب لا أعرفها ــ يظل صامتاً اليوم. هكذا وقعت المأساة عندنا، وهكذا تمكنت هذه الأقلية من تحريض الناس ضد الرجل والقائد الرائع الذي أراد السلام لشعوب الشرق الأوسط: صديقي وزوجي العزيز اسحق رابين. لقد اغتالوه، ودمروا بعدئذ درب الأمل والإيمان، وزرعوا اليأس والاضطراب في المنطقة بأسرها. وهكذا أردت أن أقول لكم إن المهمة التي تتولونها مقدسة، وأنكم تستحقون العرفان والإعجاب والتشجيع، من جانبي مثلما من جانب الأغلبية الصامتة".
وسواء أكانت تلك الشريحة الإسرائيلية "أغلبية" و"صامتة" أم لم تكن، والتساؤل من عند المثقفين الخمسة وليس من عندنا، فإن الإنشقاق داخل الصفّ اليهودي لا يبدو مسألة عابرة أو غير دالة بعمق على وضع عالق، ينتج القلق ويعيد إنتاجه يومياً، في أوروبا والولايات المتحدة والدولة العبرية، إن لم يكن من أجل درب السلام العربي ـ الاسرائيلي، فعلى الأقل من أجل درب السلام اليهودي ـ اليهودي. الشقاق هنا ليس أزمة بل مأساة كما تقول ليا رابين، والإنشقاق هنا ليس ترفاً فكرياً، بل حاجة عاجلة ملحّة تسقط أمامها أيّ وكلّ اعتبارات التضامن البروتوكولي العريق بين يهودي ويهودي.
بالطبع، الجوهري هنا أنّ المناسبة كانت اغتيال اسحق رابين، والخلفية وجود أو عدم وجود منطق متحرك وراء معادلة أقليّة عنيفة عدوانية/أغلبية صامتة مسالمة. في عبارة أخرى: المنطق المتحرك يقتضي وجود علاقات قوّة تبادلية، سياسية انتخابية وثقافية إيديولوجية ودينية عقائدية، تدور حول معركة الوجود أو العدم في غمار ذلك كله. إنه المعنى الذي أراده تيو كلاين، الرئيس السابق لمنظمة الـ CRIF الفرنسية دون سواها، حين قال: "الذين يحاولون تدمير أوسلو سوف يتحملون مسؤولية إضعاف اسرائيل، ثم مسؤولية تدمير اسرائيل الديمقراطية تحديداً".
وذات يوم وقف بنيامين نتنياهو أمام عدسات الـ CNN، أي أمام الملايين في العالم بأسره، ليعتصر ما تيسّر له من أحزان على اغتيال اسحق رابين، وقال: هذه جريمة ألفيّة، ولم يحدث ليهودي أن قتل أخـــــاه اليهودي منذ ألفي سنة. بالطبع، كان نتنياهـو يمارس الكذب الفاحش والعلني، ويصدّره إلى العالـــم دونما كبير اكتراث بالتاريخ، العزيز على الذاكرة اليهودية. وكان الصحافي الأمريكي المختص بالاسرائيليات غلين فرانكل قد كذّب نتنياهو مسبقاً إذا صحّ القول، وفي صحيفة "واشنطن بوست" بالذات، إذْ حين كانت التعليقات الرثائية تضرب كفاً بكفّ وهي تتساءل: أيعقل ليهودي أن يقتل أخاه اليهودي؟ قال فرانكـــل: يعقل جداً... جداً! ليس في التاريخ التوراتي الحافل باقتتال وخيانات الأخوة الأعداء فحسب، بل أيضاً (وهذا هو الأهم) في التاريخ الأحدث الذي أفضى إلى ولادة اسرائيل.
وبالفعل. في عام 1924 سقط الحاخام جاكوب اسرائيل دوهان، زعيم مجموعة دينية يهودية متشددة، صريع طلقات مجهولة أثناء مغادرته للكنيس الواقع في شارع يافا غربي القدس. ولم يعرف قاتله حتى اليوم، ولكن الشائع والثابت أنه اغتيل بأوامر مباشرة من قيادة عصابات الهاغاناه بسبب معارضته لسياسات الحركة الصهيونية في فلسطين. وفي عام 1943 كان إلياهو جلعادي، زعيم حركة "المقاتلون من أجل حرّية اسرائيل" أو عصابات الـ "شتيرن" كما هي معروفة بصفة أفضل، قد انخرط عملياً في التخطيط لاغتيال دافيد بن غوريون وعدد آخر من الصهاينة المعتدلين في نظره. وبدل أن يتعشّى بهم، تغدّوا به! في العام ذاته اخترقت ظهره رصاصات قاتلة على مقربة من الشاطىء جنوب تل أبيب، وكانت المفارقة الدالة أن الأمر صدر عن رفيقه في السلاح اسحق شامير، الذي اعترف بدوره في تنظيم العملية في احدي فصول مذكراته التي صدرت قبل سنوات. وفي عام 1948، وبعد أيام من الولادة الرسمية للدولة العبرية، أصدر بن غوريون تعليمات صريحة إلى قائد عسكري شاب وواعد يدعي اسحق رابين (نعم!) بفتح النار على سفينة "ألتالينا" الراسية في ميناء تل أبيب والتي تحمل شحنة أسلحة إلى مجموعة مناحيم بيغن المنشقة. وقد دامت المعركة عشر ساعات قتل خلالها 51 يهودياً من الجانبين، ولم تتوقف إلا باستسلام قوات بيغن.
على مستوى التمثيل الإيديولوجي الذي يسوّغ هذه الوقائع فإن التفاصيل تبدو أدهى وأكثر دلالة، ولعلها تلك التي راودت ذهن ليا رابين وأذهان المثقفين الفرنسيين اليهود حين أطلقوا صرخات الإستغاثة. والمستوى الإيديولوجي تختصره تلك العلاقة الاستقطابية المحمومة الناجمة عن هيمنة الديانة (في شكلها المتشدد تحديداً) على السياسة العامة أو السياسات اليومية في الدولة العبرية، وما تخلقه من احتقان حاد بين راديكالية دينية متشددة ومعادية للصهيونية (كحركة قومية علمانية بهذا الشكل أو ذاك)، وبين التيارات الصهيونية وما بعد ـ الصهيونية على اختلاف خطوطها وألوانها. أين الأقلية وأين الأغلبية؟ أين علاقات القوّة في هذا المشهد، وهل تتحرّك أم تتجمّد بين انتخابات وأخرى؟ وأين المجتمع من هذين الإنقسامين؟
إنها الأسئلة التي انبثقت وستظل تنبثق من واقع ذلك الإستقطاب الذي يهدد الوجود السياسي والمؤسساتي (الدولة، الدولة الديمقراطية تحديداً)، ويهدد الوجود الاجتماعي والمجتمعي، بل و... الإثنولوجي أيضاً! أليس هذا التهديد الثالث هو حجر الأساس في العقيدة الكاهانية التي تدعو إلى "مجابهة شاملة لا تُبقي ولا تذر مع اليهود الهيللينيين"، أي أولئك الذين نقلوا الثقافة الغربية إلى التوراة، وجلبوا أوبئة الليبرالية والاشتراكية والرأسمالية؟ ألم تكن أفكار الحاخام مئير كاهانا بمثابة الصيغة القصوى لذلك الإنصهار الإعجازي بين الكفاحية اليهودية القومية الصرفة، وبين النزوعات القيامية الخلاصية، حيث شاءت المعجزة أن تلتقي العلمانية الصهيونية المتشددة بالنزعة الدينية المتشددة؟ أين الأقلية، إذاً؟ أين الأغلبية؟ ألا ينفرط العقد، اليوم، بين فريق ظافر وآخر متقهقر؟ بل ماذا تبقى من العقد أساساً؟
وكما استسهل المؤرّخ الإسرائيلي الجديد بيني موريس أمر الإنقلاب على تسعة أعشار الخلاصات التي توصّل إليها في أعماله، ونراه اليوم يوجّه أصابع الإتهام إلى الفلسطينيين والعرب إجمالاً، معتبراً أنهم لا يسعون إلى شيء آخر سوى قذف إسرائيل في البحر، كذلك يستسهل الإسرائيليون أمر الإنقلاب على فرنسا بما تمثّل من صداقة طويلة للدولة العبرية، وبما قدّمت من خدمات ثمينة للحركة الصهيونية (من فكرة الدولة إلى تكنولوجيا السلاح النووي). ولا مناص، طبعاً، من أن ينقلبوا على حفنة من اليهود الفرنسيين الشرفاء، ممّن تعجز ضمائرهم الحيّة عن هضم مشاهد البربرية الإسرائيلية.
هذا، بدوره، جزء من منطق انفراط العقد ذاته!