أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - تباشير فكر النهضة في العراق: 7 بطاطو، والطبقة الوسطى العراقية















المزيد.....

تباشير فكر النهضة في العراق: 7 بطاطو، والطبقة الوسطى العراقية


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 2132 - 2007 / 12 / 17 - 12:01
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لابد، في أثناء الحديث عن المجتمع العراقي، بطبقاته وحركاته السياسية، عدم إغفال المساهمات البحثية النظرية لحنا بطاطو ( 1926 ـ 2000 )، الذي يعد واحداً من أبرز دارسي طبيعة المجتمع العراقي المعاصر وتحولاته الاجتماعية والسياسية، إلى جانب المحاولات الجدية الهامة للدكتور علي الوردي بهذا الصدد. وبطاطو أميركي الجنسية متحدر من أصل فلسطيني مسيحي، ولد في القدس وهاجر إلى أميركا بعد نكبة 1948. درس في جامعة هارفرد وحصل على شهادة الماجستير في مجال الدراسات الروسية، لكنه اختار حقلاً آخر عند دراسته للدكتوراه هو الشؤون المتعلقة بالعالمين العربي والإسلامي. وإذ سعى إلى جعل نطاق بحثه بلدان الشرق الأوسط بادئاً بالعراق، وجد أن المادة المتاحة له عن هذا البلد من الضخامة والثراء بحيث يمكن أن يقصِّر ذلك النطاق على الحالة العراقية وحدها ففعل. وكان عنوان رسالته للدكتوراه التي تقدم بها هو: ( الشيخ والفلاح في العراق ( 1917 ـ 1958 ). وفي المدة المحصورة بين ( 1962 ـ 1982 ) عمل مدرساً في الجامعة الأميركية ببيروت، ومن ثم في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة حتى تقاعده في العام 1994.
كانت زيارته الميدانية للعراق بين عامي 1957 ـ 1958 فجمع وثائق هامة جداً عن الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية. فناهيك عن شهادة الدكتوراه التي حصل عليها في العام 1960، فإنه بقي يجمع الوثائق والمعلومات ويعزز استنتاجاته ويطورها قبل أن ينشرها في العام 1987 في كتاب من ثلاثة أجزاء. ( الجزء الأول؛ الطبقات الاجتماعية القديمة في العراق. والجزء الثاني؛ الشيوعيون من بداية حركتهم وحتى الخمسينيات. أما الجزء الثالث فكان؛ الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار ).
استند بطاطو إلى مناهج علم التاريخ وعلم الاجتماع، وكانت مرجعيته كل من كارل ماركس وماكس فيبر، لكنه في النهاية لم يرضخ للأحكام المسبقة لأنه اختار المنهج التجريبي ( الأمبيريقي ) في التعاطي مع الوثائق والمعلومات التي حصل عليها فضلاً عن المقابلات التي أتيحت له مع شخصيات عراقية بارزة ومؤثرة، والاستبيانات التي وزعها على عينات من الفئات الاجتماعية ليقيس ظواهر وقناعات المجتمع. ولذا صارت لديه مادة ضخمة كان عليه أن يقوم بخطوات علمية وهو يتعامل معها؛ وبحسب الدكتور فالح عبد الجبار؛ "أولها فرز وتصنيف هذه المادة. وثانيها إجلاء غموض العلائق فيما بين مكوناتها. وثالثها قراءة المعنى في هذه العلائق". وتوسل بطاطو في معرض تحليله لبنية المجتمع العراقي بمفهومي الطبقة ( class ) والمكانة ( status ) حيث تتحدد الطبقة من خلال الأساس الاقتصادي والملكية، فيما تتحدد المكانة بعوامل أخرى مثل التعليم والنسب والوجاهة والانحدار العرقي أو الديني. وغالباً ما تتداخل الطبقة والمكانة في المجتمعات الشرقية وتخترق أحداهما الأخرى. وقد ركز على التحليل البنيوي وعلى التغيرات الجارية في إطار البنية. وبرأيه لم يكن المجتمع العراقي مجتمع طوائف ومجتمع طبقات فقط وإنما الاثنين معاً في تداخلهما وتبادلهما التأثير. فما يتعلق بالطبقة يخترق ما يتعلق بالمكانة، وبالعكس.
ينقسم المجتمع عمودياً بين الجماعات الاثنية ( العرقية ) والدينية والطائفية، حيثما تكون الدولة/ الأمة غير موجودة، أو ضعيفة فيكون الولاء لتلك الجماعات المستند بحسب بطاطو إلى الدعم العاطفي القوي والحميمية الدافئة والأخلاقيات المعيارية، فيما يظل الولاء القومي ( في إطار الدولة ) مفتقراً لذلك الدعم وتلك الأخلاقيات ما لم تتكوّن الدولة على أسس سيادية حيث لا يمكن للأمة، على وفق ما يرى بطاطو، أن تقوم من غير السيادة السياسية، أو من غير أن يلازمها نظام سياسي حديث. فمع تكوّن الدولة فإن الانقسام العمودي يبدأ بالتلاشي لصالح الانقسامات الأفقية المتمثلة بظهور الولاءات الطبقية بعد تبلور المصالح الطبقية. والدارس لتاريخ العراق الحديث يلاحظ أن الانقسامات العمودية ظلت قائمة وفاعلة، تخفت قوتها حيناً، وتتأكد حيناً، ولاسيما مع تركيز سطوة الدولة أو ارتخاء قبضتها بالتوسل بآليات القمع. إلى جانب أن تلك الانقسامات نفسها أثرت في طبيعة الدولة الناشئة وشكلها وبعض توجهاتها، بصور متفاوتة، مع تبدل الأحوال وتغير القوى الماسكة بزمام السلطة. وقد فشلت الدولة في تبديد الانقسام العمودي، ولذا واجهت ميلاً شديداً لمعاداتها من قبل فئات من المجتمع، كانت تتسع وتضيق، ولا تلتزم ببنود العقد الاجتماعي، غير المكتوب الذي يجب أن يؤسس لأية دولة ناهضة عمادها مبدأ المواطنة المكفول بدستور وقوانين مدنية، وفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية عن بعضها، وحرية الضمير والرأي والمعتقد، والسلم الأهلي، وتداول السلطة سلمياً. وفي ضوء هذه الحقيقة يمكن قراءة الوضع العراقي الحالي، بارتباكه وفوضاه وانقساماته الكارثية.
يُرجع الدكتور فالح عبد الجبار منبع ثراء بطاطو إلى ابتكاره لتوليفة جديدة "هي بمعنى من المعاني ضد المدرسة الجوهرية الخالصة، وضد مدرسة الحداثة الخالصة، سواء بشكلها العربي أو بشكلها الأوروبي". فبطاطو لم يقل بتمايزات جوهرانية ( لا تاريخية ) بين المجتمعات، أو بتشابهات تامة في الطبيعة ومسارات التطور بينها. أي أنه لم يكن من دعاة الخصوصية المحضة، أو العمومية المحضة. وفي رؤيته للتاريخ يرصد ما يجري على السطح، وما يمور في الأعماق.. يقول: "برأيي أن التاريخ ينطوي على عمليات خفية وأحداث برانية، وهي مترابطة. العمليات الخفية تمضي بلا ضجيج، بل دون أن تُلحظ. أما الأحداث البرانية، بالمقابل، فقد تكون رتيبة أحياناً، ومدوية وعاصفة أحياناً، لكنها بيّنة في كل الأحوال". كما أنه لم يكن تاريخانياً يعتقد بالحتمية التاريخية وبوجود غائية خفية للتاريخ تحققها قوانين موضوعية خفية تجعل حركة التاريخ خطياً متصاعداً وتقدمياً. لكنه مال أيضاً إلى التفسير المادي / الماركسي للتاريخ، وركز في دراسته على دور علاقات الدم والقرابة والعصبية في الحياة السياسية في بلدان الشرق ومنها العراق. وباختصار نظر إلى العوامل الاجتماعية والسياسية حتى في تفاصيلها المملة، للتعرف على البنى الاجتماعية التي عدّها المحرك الأساسي للتاريخ.
حظيت دراسة بطاطو عن المجتمع العراقي بطبقاته وحركاته الثورية بتقويم كثر من الباحثين والمفكرين العراقيين والعرب الذين لا يستطيعون تجاوز منهجه أو أفكاره عن الموضوع السياسي والاجتماعي العراقي. فدراسة بطاطو ليست بالتأكيد خالية من النقص والثغرات إلا أنها في الأحوال كلها لا غنى عنها لجديتها واستنادها إلى معلومات واعترافات ووثائق واسعة أخضعها الباحث لمنهج علمي تجريبي، ونظر تفصيلي متأنٍ وصبور.. يقول الدكتور سيار الجميل: " وهنا يبرز أمامنا عمل المؤرخ الراحل حنا بطاطو الذي صرف عليه سنوات طويلة وأخرجه بالرغم من كل أتعابه فيه إلاّ انه عني بالطبقات الاجتماعية ومنتجاتها السياسية من دون فهم الآليات التي كانت تعمل في سياقات متنوعة ليس في السياسة حسب، بل حتى في أصغر الوحدات الاجتماعية المعقدة. إن عمله يكاد يكون أثرى عمل لتاريخ أي مجتمع في منطقة الشرق الأوسط".
يفترق ما قاله بطاطو عن المجتمع العراقي عمّا قاله الوردي عنه، على الرغم من انتمائهما للمدرسة الأميركية في المنهج وطرق البحث التجريبي، فهل كانا يتحدثان عن شيئين مختلفين، أم أنهما كانا ينظران للشيء عينه من زاويتين مختلفتين؟. أظن أن الاحتمال الثاني أقرب إلى الصواب، فبطاطو ركز على مفهوم الطبقات الاجتماعية أكثر من الوردي، كما أنه تتبع مسار ولادة الحركات السياسية الراديكالية ( الثورية ) ونموها وصراعاتها، وهي الموضوعة التي لم يقف الوردي عندها كثيراً، ربما لأنه لم يقع على الأرشيف الخاص السري لتلك الأحزاب مثلما وقع عليه بطاطو لأسباب معلومة وأخرى مجهولة مثلما يلمّح الدكتور سيّار الجميل في إحدى محاضراته. أو لحذر الوردي من التصدي لموضوعة كهذه في ظرف ساده الاستبداد والعنف وانعدام الأمان. بالمقابل ركز الوردي على طبيعة الشخصية العراقية والمجتمع العراقي محاولاً تقصي جذور المشكلات في عمق تاريخي أبعد، وبافتراضات غير تلك التي اعتمدها بطاطو لاختلاف أهداف الباحثين الذين لا غنى لأي دارس عن التعرف على ما توصلا إليه بشأن المجتمع العراقي.
الطبقة الوسطى في العراق:
باتت الطبقة الوسطى اللاعب الرئيس في المجتمعات الحديثة، بفضل التقدم العلمي والتربوي والتقني والإعلامي، وازدهار الإنتاج والأسواق، وبناء دولة المؤسسات، وقيام منظمات المجتمع المدني. وبحسب محمد حسنين هيكل "أصبحت الطبقة الوسطى هي مستودع الحراك الاجتماعي الجديد، ولعلها كانت كذلك طول التاريخ. فإن القلة التي تصعد إلى أعلى السلم الاجتماعي تنفذ منها، كما أن الكثرة المتزاحمة عند أول درجاته تطلب الوصول إليها". فضلاً عن أن توسع الطبقة الوسطى، مثلما يعلمنا التاريخ، يقلل من غلواء التناقضات والصراعات الطبقية، ويزيد من فاعلية الاقتصاد وبقية مؤسسات المجتمع.
لا نجانب الصواب إذا ما قلنا أن مشروع النهضة هو مشروع الطبقة الوسطى الصاعدة، وهذه الطبقة ترعرعت وأخذت بالاتساع، حجماً ونفوذاً، في العراق منذ عشرينيات القرن العشرين على خلفية ثلاثة عوامل أساسية هي: نشوء الدولة العراقية الفتية ودخول أفراد من المجتمع في مؤسساتها، أي توسع شريحة الموظفين الحكوميين. والازدهار النسبي للتعليم وقيام المعاهد والجامعات. وأيضاً انتعاش الحياة الاقتصادية وارتفاع مستوى المعيشة لشرائح واسعة مع نمو في مستويات الدخل القومي وبالتالي الدخل الفردي بعد اكتشاف النفط، منذ العام 1928 واستثماره. غير أن التحولات الاجتماعية والحراك الاجتماعي في العراق، عموماً، كانت، وكما يرى حنا بطاطو نتيجة زج العراق في حركة السوق الرأسمالي العالمي والمنظومة الإمبريالية بعد الاحتلال البريطاني للعراق في العام 1917. على الرغم من إمكانية تأشير عوامل أخرى بهذا الصدد، منها دخول التقنيات الجديدة في الحياة العامة قبل ذلك أيضاً، وكما ينوه بطاطو، مثل دخول السفن البخارية النهرية ( 1859 ) والبرق الكهربائي ( 1861 ) إلى جانب فتح المدارس الحكومية ( 1869 ) وأخيراً تطور الصحافة بعد 1908. وإثر ذلك تعزز القطاع الخاص ونشطت التجارة فحصل حراك اجتماعي ملموس.. هذه الطبقة الوسطى أخذت على عاتقها مهمة قيادة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ومع تحسن وضعها المادي توضحت أبرز سماتها ونقاط ضعفها، فكانت حاملة أحلام كبيرة وأوهام كبيرة.
كانت الطبقة الوسطى العراقية ضعيفة جداً، مثلما يلاحظ حنا بطاطو قبل ثورة 14 تموز 1958 وهو يرى أن حقبة ما بعد الثورة هي حقبة هذه الطبقة الفعلية التي راحت تنمو نمواً خطياً متصاعداً بعد هذا التاريخ. غير أن الوقائع فيما بعد أثبتت عدم دقة حكم بطاطو فيما يتعلق بتقوية أسس وتطور الطبقة الوسطى العراقية.. يقول الدكتور فالح عبد الجبار؛ "أن التجربة الأخيرة لبعض البلدان العربية (وغيرها) يشير إلى الطبيعة المهزوزة، المتقلبة للاقتصاد الريعي - الدولتي، لا يسمح باطراد نمو هذه الطبقات، بل يؤدي، عند نقاط معينة، إلى انهيار مراتب واسعة منها (مثال العراق، أو السودان)، وانحدار الفئات المعتمدة على الراتب منها انحداراً شديداً إلى مرتبة بروليتارية متعلمة، تحمل تطلعات الطبقات الوسطى الحديثة (بفضل التعليم) وتعجز عن تلبية هذه التطلعات في سوق العمل، المتخم. الواقع أن هذه الفئات تشكل الفضاء الاجتماعي لنمو الحركات الإسلامية الاحتجاجية". وسبق لبطاطو أن أومأ إلى أنه منذ العام 1914 لم تستقر الطبقات الاجتماعية في العراق على حال بسبب عوامل داخلية وخارجية.وأن الطبقة الوسطى هي أكثر الطبقات وضوحاً في البلاد وإن لم تكن بنيتها مستقرة. وهذا ما تبين بجلاء فيما بعد. فبدءاً من ثمانينيات القرن الماضي واندلاع الحرب العراقية الإيرانية صارت هذه الطبقة تخسر مواقعها ودورها رويداً رويداً. فالنظام الحاكم آنذاك بات أكثر توتاليتارية وبالتالي صار أبناء هذه الطبقة مجرد تروس صغيرة لا حول لها في الآلة الجهنمية للدولة، أي أنها لم تعد قادرة على إصدار قرارات هامة في المجرى السياسي والاجتماعي ولاسيما بعد ضرب الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني في الصميم منذ النصف الثاني من السبعينيات بخاصة. أي أن مشروعها النهضوي صار في مهب الريح.
ولأن الحرب أنهكت الاقتصاد تضاءل الدخل الحقيقي للأفراد ولاسيما عند المنتمين للطبقة الوسطى ( حيث مصدر دخل غالبيتهم هو رواتبهم التي يتقاضونها من الدولة ) ثم جرى تفكيك للقطاع العام من غير أن يزدهر القطاع الخاص، ولاسيما في قطاع الإنتاج. كما أن شريحة واسعة من التجار اهتز مركزها المالي والتجاري بعد أن احتكر أبناء السلطة المفاصل الأساسية في هذا القطاع فغادر قسم منهم ( التجار ) البلد وهاجر قسم آخر وهرّب قسم ثالث أمواله حتى جاء الحصار في أعقاب غزو الكويت في العام 1991 ليطيح بشريحة واسعة من الطبقة الوسطى ويزعزع مواقعها. وهنا حدث متغير خطير إذ تراكمت الثروة في الريف وأفقرت المدينة حين راحت الدولة تشتري المحاصيل الزراعية من الفلاحين بأسعار مرتفعة فحصل زحف غير مسبوق لأبناء الريف إلى المدينة إذ راحوا يقتنون العقارات والمحال التجارية ناقلين معهم قيمهم وتقاليدهم إلى وسط المدينة. ( هنا تغيرت المفردات المتداولة في اللغة اليومية، وكذلك الأزياء والاهتمامات، وصار من المناظر المألوفة في مراكز المدن الكبيرة نصب سرادق تسوية المنازعات الأهلية على وفق العرف العشائري/ الفصل، بعد ضعف سلطة الدولة وعدم ثقة المواطن بالقضاء الذي استشرى فيه الفساد ).
بالمقابل بدأ عدد كبير من أبناء الطبقة الوسطى المدينية يبيعون عقاراتهم ليستقروا في الضواحي الفقيرة ( للاستفادة من فرق السعر ومواجهة أعباء العيش ). وخلال سنوات قليلة تشوهت البنية الاجتماعية للمدينة وتبدلت قيمها وتقاليدها وأشكال علاقاتها وطبيعة لغتها المتداولة، حتى بدت مراكز المحافظات والأقضية أشبه ما تكون بقرى كبيرة. فيما ارتكس سكان المدن، الذين يقبع أغلبهم في أدنى سلم الطبقة الوسطى، نحو المحافظة الدينية، والتأثر بالتأويلات المتطرفة للدين. فيما عبرت أعداد هائلة، ممن يقبعون في درجة أعلى من السلّم المذكور آنفاً، من أبناء الطبقة الوسطى ( تجار وصناعيون وأساتذة جامعات وصحافيون وكتّاب وأطباء ومهندسون وإداريون وفنيون في مختلف الاختصاصات ) الحدود، في مشهد غير مسبوق، لهجرة العقول والكفاءات هرباً من ضغط واقع الحصار الذي فرضه مجلس الأمن على العراق، والذي استغلته السلطة لصالحها..
وبحسب طروحات المفكر علي الوردي تحمل الطبقة الوسطى مرض الازدواجية أكثر من غيرها. هذه الطبقة التي يسميها بطبقة الأفندية عاشت الصراع بين المثل والقيم العليا التي راحت تدّعيها قولاً والواقع الاجتماعي بمساوئه وأمراضه التي كانت تعيشها. وبرأيه فهي طبقة متحذلقة مغرورة. وجدت في العهد العثماني إلاّ أنها باتت تتسع مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة مطلع عشرينيات القرن الماضي.. فبدءاً من هذه المرحلة كما يقول الوردي أصبحت هذه الطبقة: " تستوعب أفراداً من أبناء العامة، لم يكونوا يحلمون بأنهم في يوم من الأيام سيصبحون من الطبقة الحاكمة. إن هذا الصعود المفاجئ إلى مراتب الحكام والضباط، نفخ فيهم شعوراً زائفاً بالعظمة أو العبقرية أو المقدرة على المعجزات.. إن النجاح المفاجئ يؤدي إلى الشعور بالمقدرة الخارقة والبطر، ولهذا نجد أغنياء الحرب لا يُحتملون وأصحاب الشهادات في مجتمع جاهل لا حد لتحذلقهم وغرورهم". وأعتقد أن الوردي يشير هنا إلى نقاط الضعف الكامنة في نسيج الطبقة الوسطى العراقية، أو فئات منها، فضلاً عن تزعزع وضعها النفسي والأخلاقي، نتيجة السياق المختل الذي تكونت فيه. ذلك السياق الذي من الممكن، عبره، فهم علل تكوّن النخب الثقافية والسياسية العراقية ( المنتمية، غالباً، للطبقة الوسطى الناشئة، والمتحدرة، غالباً، من أصول ريفية ) ومواطن قصورها، ومحدودية أفقها الثقافي والسياسي.
وبمرور الوقت، بالتزامن مع تشكّل مؤسسات الدولة، نجد، بتعبير محمد أركون، وكما هو الحال في بقية البلدان العربية، أن: "أشباه المثقفين الذين نتجوا عن تعليم مدرسي سريع، وحصلوا على مواقع اجتماعية، ووظائف سياسية عالية جداً بفضل نشاطاتهم النضالية والحزبية، قد أصبحوا عديدين جداً وأقوياء إلى حد أنهم يشكلون اليوم عقبة جدية في وجه كل فكر نقدي". ويمكن إضافة؛ في وجه قيام مؤسسات دولة حديثة ومجتمع مدني فاعل ومنتج. لقد حلّت الإيديولوجيا بصيغها الراديكالية وقوامها الدوغمائي التبسيطي محل المعرفة العلمية والنقدية، وتلكأت مهمة بناء الدولة على قاعدة مبدأ المواطنة والقانون، وعادت الولاءات للهويات والانتماءات الأولية العشائرية والطائفية للانتعاش مرة أخرى.
المصادر:
1ـ كتب حنا بطاطو ( جرت الإشارة إليها في متن البحث ).
2ـ محمد حسنين هيكل (الزلزال السوفيتي ).
3ـ الاقتباسات من الدكتور فالح عبد الجبار ( مجلة الثقافة الجديدة/ العدد 298 ). ومن الدكتور سيّار الجميل ( محاضرته في لندن بتاريخ 20/9/2005).
4ـ محمد أركون ( تاريخية الفكر العربي الإسلامي ).



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تباشير فكر النهضة في العراق: 6 فكر النهضة؛ السرد والصحافة وع ...
- تباشير فكر النهضة في العراق: 5 الشعراء والنهضة ( الرصاقي وال ...
- تباشير فكر النهضة في العراق: 4 الشعراء والنهضة ( الزهاوي مثا ...
- تباشير فكر النهضة في العراق: 3 السياق المصري (من محمد عبده إ ...
- تباشير فكر النهضة في العراق 2 السياق المصري: الطهطاوي والأفغ ...
- تباشير فكر النهضة في العراق: 1 السياق التركي
- دلال الوردة: كسر المألوف وصناعة الصور
- فقراء الأرض
- أخلاقية الاعتراض
- شيطنات الطفلة الخبيثة: رواية الحب والخيانة والغفران
- ما حاجتنا لمستبد آخر؟
- قصة قصيرة: بنت في مساء المحطة
- سعة العالم
- -قل لي كم مضى على رحيل القطار- فضح لخطايا التمييز العنصري
- في التعبير عن الحب
- -البيت الصامت- رواية أجيال وآمال ضائعة
- -صورة عتيقة-: رواية شخصيات استثنائية
- حكم الضمير
- مأزق المثقفين: رؤية في الحالة العراقية
- في ( بذور سحرية ): نايبول يكمل مسار ( نصف حياة )


المزيد.....




- ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه ...
- هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
- مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي ...
- مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
- متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
- الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
- -القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من ...
- كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
- شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
- -أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - تباشير فكر النهضة في العراق: 7 بطاطو، والطبقة الوسطى العراقية