في أمريكا اللاتينية، القارة الثورية المتمردة والمفعمة بتاريخ عمالي ونضالي سحيق، شهدت بوليفيا في الأسابيع الأخيرة اضطرابات وأعمال عنف دموية كان من تداعياتها سقوط 63 قتيلاً وعشرات الجرحى من المواطنين برصاص الجيش، وذلك على خلفية الاحتجاجات التي استمرت لأكثر من شهر، ضد سياسات الخصخصة الكارثية التي قادتها الحكومة البوليفية مُلقية اقتصاد البلاد في المربع الرأسمالي الجشع وفي أحضان أساطين المال الإحتكاريين مما نتج عنه رزوح أغلبية الشعب البوليفي في هاوية الفقر المدقع، حتى أطلق على تلك البلاد "المأساة الأفريقية".
بوليفيا الأفريقية
ولمن ليس لدية كامل الإلمام باقتصاديات تلك البلاد فهي بأقتضاب حيز جغرافي يملك موارد ضخمة من الثروة المعدنية ومصادر الطاقة، حيث يستخرج من أراضيها الذهب والزنك والقصدير إضافة إلى اكتشاف احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي. غير أن عائدات تصدير تلك الثروات كانت تذهب لجيوب قلة من برجوازية بوليفيا المتوحشة ذات الأصول الأوروبية، إضافة إلى المستثمرين الأجانب، الأمريكيين منهم بشكل خاص. وفي حين يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 2500 دولار أمريكي سنوياً، فإن 64% من المواطنين - عدد السكان 8.5 مليون نسمة - يقعون تحت خط الفقر ويعيشون بأقل من دولارين في اليوم. وهو مؤشر على اتساع الفجوة في الدخل الفردي واحتدام الصراع الإجتماعي والطبقي الذي نتج عنه احتقان سياسي أدى في النهاية إلى اشتعال ثورة شعبية أطاحت بالحكم الديكتاتوري المتسلط.
ولقد ترافق مع سوء الحالة الاقتصادية والمعاشية لغالبية السكان، اضطهاد كبير مارسته الحكومة ضد سكان البلاد الأصليين، وهم "الهنود الحمر" الذين يشكلون غالبية السكان. فمن الناحية الجغرافية تعتبر بوليفيا من الأراضي التي لم تصلها يد الرجل الأبيض مبكراً. فسلمت من حملات الإبادة الشاملة التي تعرض لها نظراؤهم في مختلف أنحاء القارة الأمريكية على يد المستعمرين الأوربيين والتي بحسب ما ذكره الباحث منير العكوش في كتابه القيم "أمريكا والإبادات الجماعية" أن ضحايا الهنود الحمر في عموم العالم الجديد وعلى الخصوص في الجزء الشمالي قارب 111.5 مليون هندي أحمر!! إلا أن هذا البلد يتعرض الآن لحملة تجويع منظمة على شاكلة الدول الأفريقية الزاحفة على بطنها من الجوع والحرمان جراء عمليات النهب والفساد المنظم وسوء الإدارة.
رهن الثروة
وفي أنغماس سافر وإيغال أكثر في التماهي مع جيوب المبددين للثروات الوطنية فقد وافقت الحكومة البوليفية على منح تراخيص تصدير الغاز الطبيعي الذي ينتج فيها بكميات كبيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عبر تشيلي المجاورة. وهي الجارة والمنافس اللدود لبوليفيا والحليف القوي والقديم للولايات المتحدة التي تسيطر بدورها على اقتصاد تشيلي، وذلك نظراً لفقدان بوليفيا مينائها البحري الوحيد بعد خسارتها للحرب مع تشيلي في عام 1879. ولذلك فإن تصدير الغاز للولايات المتحدة عبر تشيلي يعني ارتهان هذه الثروة للبلدين الأخيرين معاً، وعدم استفادة المواطنين البوليفين منها، فعائدات التصدير السنوية للغاز تبلغ 1.5 مليار دولار يذهب معظمها إلى جيوب المستثمرين الأمريكان وبعض السياسيين الفاسدين أو أصحاب الرساميل المشبوهة في تلك البلاد، وهو ما حدا بالمتظاهرين الذين خرجوا بالآلاف وعلى رأسهم نقابات العمال والفئات الشعبية الكادحة المطالبة بتأميم قطاع الغاز ووقف سياسات الخصخصة المضرة باقتصاد البلاد كما طالبوا أيضاً بإصلاح نظام التقاعد وإقالة الرئيس سانشيز من منصبة.
ديموقراطية الانقلابات
وأمام الغضب الشعبي العارم أعلن الرئيس البوليفي الأحكام العرفية وأيده في ذلك الجيش، الذي قام بقمع الإنتفاضة الجماهيرية المطلبية بالحديد والنار حتى قتل العشرات من المتظاهرين وجرح أضعافهم وحيث أن الجيش يملك سجلاً ملطخاً بالدماء في حماية الديكتاتورية والفساد، فقد تعرضت بوليفيا إلى 200 محاولة انقلابية منذ عام 1825 حتى عام 1982، وكثيراً ما نصب الجيش واجهات برجوازية عميلة للولايات المتحدة وفاسدة في الآن ذاته، بينما بقى الجيش متأهباً دوماً لحماية مصالح المستغلين، كما فعل سابقاً في تاريخ بوليفيا حينما أسر المناضل الثوري "جيفارا" بالتعاون مع المخابرات الأمريكية CIA وأعدمه بخسة ووحشية فقط لأنه حاول تحرير الشعب البوليفي من ربقة الاستعباد والاستغلال. ويبدو أن هذا التعاون لازال قائماً، فقد أيدت الولايات المتحدة الحكومة البوليفية بشكل سافر وأطلقت على المواطنين والمتظاهرين تسمية "عصابات المخدرات"، ولم تشأ تسميتهم بالوطنيين. وهذه مفارقة تفضح أزدواجية المعايير الأمريكية، فالولايات المتحدة تدعم القمع الفاشي في بوليفيا دعماً لرئيس فاسد لا يمتلك قاعدة جماهيرية تذكر، وتعتبره رمزاً للديموقراطية رغم ممارسته للقتل ضد أبناء وطنه حفاظاً على مصالح الرأسماليين من أسياده. ومن جهة أخرى تحرص الولايات المتحدة على إثارة الإضطرابات من خلال أَتباعها داعية لإقالة الرئيس الفنزويلي "شافيز" الذي وصل إلى الحكم من خلال انتخابات حرة ديموقراطية شهد لها العالم والمنظمات الدولية، وهو الذي يحظى بدعم جماهيري واسع، وذلك لأنه انتهج سياسة وطنية حافظت على مصالح بلاده ولأنه يعمل على رفع المستوى المعيشي لأبناء شعبه ورعاية مصالح وطنه وأمته.
الهروب للأسياد
ولما وجد الرئيس البوليفي أن الغضب الشعبي قد تفاقم اضطر لوقف برنامج خصخصة وتصدير الغاز للولايات المتحدة وتنحى عن الحكم ليصار بعد ذلك إلى تنظيم استفتاء شعبي حول طريقة استثمار تلك الثروة الوطنية لمصلحة المواطنين، تبع ذلك فرار الرئيس سانشيز إلى ميامي في الولايات المتحدة مع عدد من أفراد أسرته ومعاونية من شلة الفاسدين، وذلك خشية من المطالبة بمحاكمته على جرائمه التي اقترفها بحق وطنه ومواطنيه وما تسببت به سياساته خلال فترة حكمه منذ عام 1993 من ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، واتساع التفاوت في المداخيل بين المواطنين حتى بلغ حد إملاق وجوع فئات واسعة من الطبقة الوسطى ، مما أدى إلى تحول بوليفيا إلى واحدة من أفقر دول أمريكا اللاتينية ، وهي البلد الذي تكتنز أرضه ثروات معدنية متعددة. بينما كون الرئيس لنفسه ومعه المحيطون به من الفاسدين ثروة طائلة نتيجة الفساد والنهب المنظم لثروات البلاد.
تغيير الشكل وبقاء الجوهر
وقد تولى الحكم بعد استقالة الرئيس وهروبه نائبه كارلوس وهو صحفي أنقد نفسه من غضب الشعب حين أبدى علانية عدم دعمه لسانشيز بسبب قمع المتظاهرين باستخدام الأسلحة الثقيلة. وقد حاول كارلوس فور توليه الحكم امتصاص نقمة الجماهير فقال أنه سيقوم بمحاكمة المتسببين في قتل المتظاهرين وسيجري استفتاء حول استثمار حقول الغاز وسيدعو إلى إجراء انتخابات حرة في أقرب وقت. بينما أكدت القوى السياسية الشعبية أنها ستطالب بإجراءات أكثر عدالة وإشاعة المساواة وأنها ليست ضد بيع الغاز للولايات المتحدة لكنها تريد شروطاً أفضل تحافظ من خلالها على حقوق الشعب البوليفي في ثرواته.
ورغم أن ذلك ربما يشكل تغييراً في الشكل لا الجوهر، لكنه مؤشر هام لانتصار كبير للقوى الجماهيرية والشعبية في معركتها الاجتماعية في عالم بدأ مرة أخرى يفتح عينيه من جديد على عصر من الثورات الوطنية ضد مراكز الرأسمالية المتوحشة وقوى الاستغلال وعصابات النهب المنظم.
ما حدث في بوليفيا من انتفاضة شعبية يدعونا – في الدول العربية والنامية – لوقفة مراجعة موضوعية لسياسات العولمة وتابعتها الخصخصة التي كثيراً ما تعبث بمصائر الشعوب، كونها وصفات فوقية من منظمات اقتصادية عالمية تفرض على الدول النامية طريفاً وأسلوباً محدداً لإدارة التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها. استناداً على نظريات اقتصاد السوق كمفهوم اقتصادي عالمي. على الرغم مما يعتريه من مساوئ ليس أقلها ما ينتج من عمليات التخصيص التي يكتنفها الكثير من الأضرار بشرائح اجتماعية وعمالية واسعة دللت عليها الأرقام الموثقة لازدياد حدة الفقر وتفاقم معدلات البطالة في الدول النامية ومنها أغلب الدول العربية، بالنظر للوعود والأحلام الوردية التي صاحبت نشر وفرض اقتصاد السوق باعتباره منقذاً لاقتصاديات الدول النامية. مع اختلاف المعايير ومزايا العوامل الاقتصادية الناظمة لتلك الاقتصاديات مثل الشفافية، مستويات الفساد، الحكم الجيد والنظم الإدارية المتقدمة بين الدول النامية والدول الغنية التي قطعت أشواطاً كبيرة في هذا المجال.
وهكذا فإن عدداً من الدول المتقدمة مثل فرنسا، بريطانيا، وبعض الدول الاسكندنافية قد بدأت مؤخراً في إعادة النظر في بعض أوجه الانعكاسات السلبية لاقتصاد السوق وعمليات التخصيص بعد أن برزت للسطح شواهد على إخفاقات وتأزمات عمالية وإجتماعية وإقتصادية فرضت بدورها سياسات إعادة تقييم تتحقق بموجبها المصالح الوطنية العليا لتلك الدول وشعوبها على عكس ما هو قائم حالياً في دولنا العربية والشرق أوسطية.
عــبدالـــهادي مـــرهــــون
النائب الأول لرئيس مجلس النواب
Mhadi1122@ hotmail.com