|
بوح القصيدة في - أخر سفن الغربة - للشاعر صلاح عليوة
أمل فؤاد عبيد
الحوار المتمدن-العدد: 2130 - 2007 / 12 / 15 - 08:27
المحور:
الادب والفن
دوما تنشد الأقلام سر الكينونة في أوج حضورها وأستار تخفيها .. باحثة عن ساحل لاحتضان السيرورة المطلقة .. لتعبر مشقة التخلق من صلب الانسجام مع الوعي والروح في مساحة من البوح الأصيل .. وتحضرنا دوما لفظة الأرض / المدينة / الإنسان عابر حدوده ليقف على مساءلته الذاتية بلا خوف أو قلق .. إنما هو القلق الإنساني الذي يتشعب حتى يأكل ما يتبقى منه ويذيبه في كأس كان مزاجها كافورا .. وما الكتابة / الشعر / القص سوى منطقة لالتحام ما تفكك عبر آليات الحركة خارج الذات .. واسقاط ما تقنع منها بالضرورة ليبقى مساحات من الخلود تخاطر العقل والوجدان بأن هناك دوما أمل بما سوف يكون دون ما هو كائن فقط .. ومن خلال قراءة ما أقرأه من نصوص أبحث عن جدل الفهم المتلبس في الأدب ومحاولة الخروج من عنق القصيدة والقصة لاستقرئها من حيث تفاعيلها الإنسانية .. وأجد في تلك الأبيات بعضا مما أحاول أن التقطه لوضع اليد على تلك التأملات التي تستبطن على بساطتها تراكيب المحاولة الأبدية لوجود الإنسان في أن يخترق جدارات الصمت ويبوح باعتمالات النفس بكثير من المفردات التي تنم عن أصل التفرد ببشريته وهبوطه وصعوده .. ففي قصيدة الشاعر صلاح عليوة المسماة " أخر سفن الغربة " يقول في مطلعها :
نمتْ المدائنُ عند باب قصائدي والعابرونَ توقفوا زمناً ولم يلقوا التحيةْ
نلاحظ في هذه التصوير الفني تطور الإنسان في مناحيه وحياته .. نمو المدائن التي يتخيلها الشاعر وماهي بمدائن عامرة سوى بالغربة دلالة العبور الصامت بلا تحية .. هذا الربط أو هذا التلازم اللفظي بين المدائن والعابرون الواقفون زمنا .. دلالة صريحة على اغتراب الإنسان في المكان فما عاد هناك من وصال حميمي بين المدائن والبشر .. ولربما المقصود بالمدائن دواخل الإنسان ونفسه التي أصبحت كما المدينة تعج بما فيها من فوضى والتماع وجمال وقبح فالمدينة عامرة بمفردات التناقض بكل ما لهذه الكلمة من محتوى نفسي ومادي .. فما عادت النفس البشرية العارمة والتي تعج بما فيها من حضور وبرغم ما تشتمل عليه إلا أنها لم تعد كافية لتشد الانتباه .. ولربما قصد الشاعر هنا نفسه وبمدنه التي يبنيها من خلال قصائده .. هي حلمه .. طموحه .. آماله .. افتراضاته التي يكونها أو يستشعرها من خلال وجوده فيسطرها قصائد .. هي ماعادت تحرك ساكنا في البشر .. اصبحت مدنا صماء .. أو أصبحت مدنا لا تثير من الإبهار او فضول التحية عند أحد .. هذه المدن تماثل في الواقع مدينة الحياة .. تصور مدى اغتراب الإنسان عن أخيه الإنسان أو غتراب الإنسان عما ينجزه .. فشعوره بما ينجز أصبح قاب قوسين أو أدنى من اغتراب الآخر الذي لم يعد مبهورا بما يراه .. وفقدان الانبهار أو الإحساس تشكيلا من الوعي يفرض نفسه لربما لتهميش الإنسان نفسه أو هو نتيجة له .. في حين لا يحضرنا يأس الشاعر جملة إنما مجرد تلميح على أن ما عاد يملك ما كان يملكه .. فهو مدرك فراع خوابي حنطته .. وهناك من الامتداد في المكان ما يجعله يواجهنا ببعض تفاصيل الأمل والنشوة في قدرته على التنبوء أو مجرد الحلم فيقول : فرَغتْ خوابي حنطتي والقصرُ خلف النهرِ يرفلُ في عطاياه السخيةْ وأنا خيالٌ في البلادِ أجاورُ المرعى زماناً ثم يأسرني البنفسجُ في العيونِ الساحليةْ وأنا أوقّعُ غنوتي من خطوِ عابرةٍ وأبني في حكاياها مقاصيري القصيةْ
فرغم ما يدركه الشاعر من شعور بالفقد والخسارة او اللامبالاة من العابرين مدنه وبرغم قلة زاده فهو مدرك خريطة وجوده .. متطلعا لما هو خلف النهر ولربما النهر دلالة نستوحي منها ان الوصول الى القصر يتطلاب الاغتسال في هذا النهر .. هو ضرورة يستشعرها الشاعر بلا مباشرة .. جاءت عفوية الفطرة تفرض نفسها .. مدركا بالغريزة الشعورية أن النهر ضرورة للوصول .. أو لا بد من عبور هذا النهر إنما ما يفاجئنا به الشاعر وقوفه عند حد النظر الى القصر والنهر الفاصل بينهما إلا أنه لم يأخذ قرارا بعد للوصول .. نستشعر هنا ضعف إرادة أو هو عدم اهتمام للوصول الى هذا القصر واكتفى الشاعر هنا أن يطلعنا فقط على هذا المرسم الشعري البعيد يوقفنا على موقع بالضبط .. ورغم احساسه بعطايا القصر السخية والنهر المار بينه وبين القصر .. ويعترف بنزقه بأنه ورغم هذا المشهد فهو خيال في البلاد ولنتتبع هذه الحركة التي يرصدها الشاعر .. حركة حضوره وشعوره يقول :
وأنا خيالٌ في البلادِ أجاورُ المرعى زمانا ثم يأسرني البنفسجُ في العيونِ الساحليةْ وأنا أوقّعُ غنوتي من خطوِ عابرةٍ وأبني في حكاياها مقاصيري القصيةْ
نجد هنا انتقال الشاعر من وضعية الى وضعية أخرى إذ يأسره البنفسج في العيون الساحلية .. هو مازال يتطلع الى ذات المسألة التي يتحسسها من خلال السطور .. فهو يتطلع الى مرسى في حقيقة الأمر .. وما مرساه البعيد سوى ذلك القصر خلف النهر .. من ناحية أخرى يدخلنا الشاعر عوالم إحساسه وكأنها توقيعات أغنية ويتصور في ذات الوقت .. مقاصير النجاة / العقاب / الإنفلات القصية والتي من خلالها ينتقل الى حالة من الشعور الموازي لمواجهته الشعورية هذه فيقول :
الليلُ بللَ مرفأي ومضتْ قواربُ رحلتي وأنا أحاورُ حارسَ الشطآنِ عن ندمِ التغربِ في دهاليزِ البلادِ وعن بطاقاتِ الهويةْ
إن لفظة الليل في بداية السطر الشعري كانت دلالة على وجهي عملة واحدة .. وذات الالتباس بالكلمة بالبلل هو ارتباط شعوري بالماء وضرورة اجتياز النهر للعبور .. وبما ان خط الحركة يعبر النهر فكلمة البلل هنا جاء لها وقعها الخاص .. فمرفأ الشاعر مبلل بالليل .. مختفيا عن ناظره وما الليل هنا سوى العتامة التي يستشعرها الشاعر في نفسه وحوله .. هذه الظلمة هي نفسية بأكثر مما لها من دلالة مادية .. على الرغم من أن الليل حاضرا موضوعا ومعنى في هذه الرحلة القصية .. ليدخلنا الشاعر بعد هذا التصوير الى عالمه النفسي وحواره الذاتي ليطلعنا على مشاعره وتيار الوعي الحاضر معه عبر تيار الرحلة .. هو يتطلع الى الخلاص بعد الغربة .. الغربة النفسية وتيهه في البلاد .. وقلنا ان تصور المدن / البلاد هي لربما تصور أو مقابل موضوعي للنفس .. فهو بعد أن شعر بقسوة الخلاص ومحاولة قاربه النجاه من ظلمة الليل للوصول الى مرفأه .. يعترف من خلال محاورته حارس الشطآن :
عن ندمِ التغربِ في دهاليزِ البلادِ وعن بطاقاتِ الهويةْ
هنا نتصور أو نقف على حال الإنسان بعد كشف واقع الزيف ودهاليز العوالم التي بلعته في داخلها حتى بات وصوله الى ذلك القصر مسألة مساءلة وندم وتوبة .. وتنقيب في مسألة الهوية .. فأي هوية يتحدث عنها الشاعر هنا في معرض هذه الرحلة .. إنه يبحث عن أو يتساءل عن التي الهوية التي استأثرت به .. هو إلماح جانبي او هامشي ولكنه في صلب أساس التحوير والتحرير الذي يدور حوله الشاعر .. والخلاص مما كان يشغله ويشاغله وهو متغرب في دهاليز البلاد .. لقد شعر في هذه اللحظة عن اغترابه واغتراب بطاقة الهوية .. عند هذا الحد تنتفي بطاقات الهوية وما يبقى من الإنسان سوى هوية أو بطاقة واحدة بطاقة مرور هي إنسانيته والتي يريد أن يشير إليها الشاعر بطريقة غير مباشرة .. فما بقي من رحلته ليس بذات شأن يهتم ببطاقة الهوية .. لنجده يزداد توغلا في ذاته وغربته وكشفه عبر رحلته عن بالغ كشفه للحقيقة فيقول :
مضتْ الليالي فوقَ عمري مثل جيشٍ ضلّ في الوادي وساقتني بلادي عن بلادي فانجرفتُ بغربتي من دون زادٍ أو وصيةْ
نجد هنا أن الشاعر ينهي سر الفوضى والغربة .. أو هو يقرر خاتمة لوعيه ويدخلنا حيز جديد يتفرد بمنطوق " البلاد " وكأن سر غربته واغترابه ليس هو عيبا فيه بقدر ما هو نتيجة منطقية لاغتراب البلاد .. ولربما توظيف الشاعر لكلمة " بلادي " ماهو إلا معادل موضوعي لداخله او ذاته , أي أن الذات هي بلاد لكل إنسان يرتع فيها ويتحرك ويلبي نداءها وحاجاتها وايضا اكثر الولاءات حضورا وحقيقة عند الفرد هو ولائه لنفسه .. فنفس الإنسان هي بلاده الأصلية .. وتصور الشاعر ان نفسه كما البلاد .. هو إشارة غير مباشرة بما يحتويه الشاعر من كل التناقضات كما تم الحديث عنه سابقا .. وكلما كان هناك توافقا بين الإنسان وبلده الحقيقي كان إحساسه ناجحا في احتوائه والعطاء له .. وكلما كان هناك تنافرا كان اغتراب الإنسان في وطنه الأصل أكثر حضورا و كان دلالة على اغتراب الشعور والاحتواء .. لذا هذه الجدلية التي أقامها الشاعر بين " البلاد " بحضورها المادي والمعنوي وبين " البلاد " بمحتوى الشعور هو ارتباط يقيس مدى التحام شعور الإنسان بالأرض / المكان وما يلحق بهما من شعور بالانتماء / والتحول / والحركة / والانزلاق/ والثبات / والتغير / والموت / والحياة .. من ناحية أخرى يمكننا تصور البلاغة الشعورية والمنطقية في قوله :
وساقتني بلادي عن بلادي فانجرفتُ بغربتي من دون زادٍ أو وصيةْ
بأن بلاده " الذات " قد ابعدته عن بلاده " الأصل " فأخذه الانجراف عنها فاغترب في المكان / الزمان دون زاد أو وصية .. أو هو العكس وكأن بلاده " الأصل / المكان " قد جرفته بعيدا عن البلاد " الذات " مما اصبح معه مغتربا عن نفسه فبات في غربته بلا زاد ولا وصية .. بمعنى انه تساوت عنده الحالتين " الموت و الحياة " .. او تساوى لديه العدم و الوجود .. فلا زاد ولا امتداد .. في الختام نقول أن الشاعر استطاع الغوص بنا الى حدود صدى البوح بغربته الحقيقية .. معلنا أنها آخر السفن .. سفن الغربة .. لربما هي آخر رحلة .. فمعنى أنها آخر السفن فهي دلالة تتضمن إشارة إلى أنها آخر رحلة .. وهي الرحلة الحقيقية النهائية والتي تخايلت للشاعر فتصورها .. هي رحلة الكشف في غور " البلاد " " المدن " عن ساحل / بر نجاة لا يبلله الليل المظلل مرافئنا ..
النص الاصلي " آخـر سفن الغربة " صلاح عليوة
نمتْ المدائنُ عند باب قصائدي والعابرونَ توقفوا زمناً ولم يلقوا التحيةْ فرَغتْ خوابي حنطتي والقصرُ خلف النهرِ يرفلُ في عطاياه السخيةْ وأنا خيالٌ في البلادِ أجاورُ المرعى زماناً ثم يأسرني البنفسجُ في العيونِ الساحليةْ وأنا أوقّعُ غنوتي من خطوِ عابرةٍ وأبني في حكاياها مقاصيري القصيةْ الليلُ بللَ مرفأي ومضتْ قواربُ رحلتي وأنا أحاورُ حارسَ الشطآنِ عن ندمِ التغربِ في دهاليزِ البلادِ وعن بطاقاتِ الهويةْ مضتْ الليالي فوقَ عمري مثل جيشٍ ضلّ في الوادي وساقتني بلادي عن بلادي فانجرفتُ بغربتي من دون زادٍ أو وصيةْ
#أمل_فؤاد_عبيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة تشريحية للقصيدة الدائرية .. أنا خطأ العالم واعتذاره لل
...
-
مفاعيل الذاكرة واستنطاق الكلمات في نص - ترمل ذاكرة - للكاتبة
...
-
بين انغلاق النص وانفتاح المعنى في - الخطايا العشر - للكاتب إ
...
-
شفافية 3
-
شفافية 4
-
شفافية 5
-
شفافية 6
-
وسيم ..
-
قد تقترب ساعة .. الملاذ
-
سورة الكهف .. مشاكلة الهدم واعادة البناء
-
تشوف ..
-
من يسكنون .. انبعاثي
-
من مفاهيم الإيمان .. الإيمان والتقوى والإحسان
-
خلفية الستارة
-
شفافية .. 2
-
وجع .. امرأة 4
-
وجع .. امرأة 5
-
شفافية ..
-
وجع .. امرأة 2
-
وجع .. امرأة 3
المزيد.....
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|