ان خطاب بوش (6 اكتوبر)، وبالاحرى دعوته، حول الديمقراطية ووجوب توسيع الديمقراطية في الشرق الاوسط لهو من اكثر خطاباته تفاهة وسذاجة وضعفاً، بحيث انه قوبل باشد اشكال الهزء والسخرية في معظم الاوساط والمحافل السياسية العالمية والامريكية. لم يأخذ احد ما بحثه بجدية. فلنرى لماذا؟!
قبل ان ابدأ بهذه الـ"لماذا؟"، اود ان اتطرق الى نقطة اساسية في خطاب بوش. ان الخطاب المذكور هو اول خطاب لرئيس امريكي في مجمل تاريخ رؤوساء الولايات المتحدة يتحدث ويخاطب دول المنطقة بصورة مباشرة عن "الديمقراطية" وتوسبعها في الشرق الاوسط. انه يسعى لتصوير هذا الطرح على انه جزء من حركة اشمل وتصور اشمل لتغيير المنطقة نحو "واحة الحرية" والايحاء بان خطتها للمنطقة لاتقتصر على شن الحرب على العراق واحتلاله، بل ان حضورها هو جزء صغير من هدف اشمل يهدف، في المطاف الاخير، خير الشعوب في المنطقة!! بيد ان دلل خطاب بوش على شيء، فانه يدلل على مدى التخبط والمأزق الجدي الذي تمر به السياسة الامريكية في المنطقة. هذه التخبط الذي غدا مبعث احتجاج داخل نفس الهيئة الحاكم والستراتيجيين والمحللين السياسيين. ان هذا الخطاب والتوجه ليسا جزء من استراتيجية، بل دلالة على غياب اي استراتيجية واضحة وفعالة، واي افق سياسي عملي لتخليص رقبتها من هذه الاوضاع المتدهورة والمتفاقمة بشكل سريع ومضطرد.
لقد غدا معلوما للجميع ان حكومة بوش لم تضيق الخناق على الارهاب بوصفه خطوة مهمة واساسية لتوسيع الديمقراطية، بل ان مجمل سياساته بعد 11 ايلول تصب، على وجه التحديد، بتعميق الارهاب واتساعه. لقد اشتد ساعد حركات الاسلام السياسي وارهابها ليغطي بقاع واسعة من المنطقة: ان تفجيرات مجمع المحيا في السعودية، تنامي المخاوف حول تفشي اعمال ارهابية في البحرين، تنامي هذه التيارات في السلطة الحكومية في الكويت، جموح حزب الله في لبنان، تفجير معبدين يهوديين في اسطنبول، اتساع الاعمال الارهابية لحماس والجهاد، تصاعد العمليات العسكرية للقاعدة بوجه الامريكيين في افغانستان، واهمها تحول العراق الى ساحة اساسية لصراع التيارات الاسلامية والقومية مع امريكا والتراجع الامريكي المضطرد في العراق، هذا التراجع الذي بات يذكر الساسة الامريكيين بـ"ورطة فيتنام"، ان كل هذه ما هي الا دليل مباشر وملموس على كل ما اكدنا عليه في الحزب الشيوعي العمالي في ان "حرب الارهاب" لن يوقف الارهاب، بل سيؤجج ويبث الروح في منظمات وتيارات الاسلام السياسي وارهابها. من ما يبعث على السخرية فعلاً، ان امريكا كانت تتحدث بعد (11) ايلول) عن استئصال الارهاب، ولكن اليوم وبعد مرور اكثر من عامين تطالعك كل وسائل الاعلام الامريكية والغربية بالحديث عن ان هناك مخطط للهجوم على الرئيس الامريكي في زيارته المقبلة لبريطانيا. ان امريكا قد جعلت العالم اكثر انعداما للامن. انها اطلقت مرة اخرى ايادي ارهاب الاسلام السياسي المتازم قبل (11) ايلول واعطته زخماً جديداً للحياة، والاسوأ من هذا زخماً جديداً في التضييق والتطاول على حياة الجماهير وبالاخص النساء والشباب والتحررين في المنطقة والعالم.
ان امريكا لاتبغي انهاء واستئصال مصادر الارهاب. انها تبغي حل شكلي وسطحي لهذه المعضلة. ان جذور الارهاب تكمن في: عدم حل مسالة فلسطين بصورة عادلة ودفاعها المستميت وغير المشروط عن اسرائيل في ظلمها واحتلالها وشوفينيتها القومية-الدينية تجاه جماهير فلسطين، دعم الحكومات الرجعية والاستبدادية في المنطقة، الوقوف بوجه الحركات التحررية والداعية للرفاه والانسانية والتقدم. ان ارهاب اليوم، وفي جزء كبير، منه نتاج سياسات امريكا في المنطقة. ان الدول التي طالبها بوش في خطابه بتوسيع الديمقراطية (مصر، السعودية، الاردن، البحرين، الكويت) هي نفسها اقرب حلفاء امريكا ودافعت امريكا عن مجمل اعمال القتل ومصادرة الحريات السياسية والحقوق المدنية، وانتهاك ابسط الحقوق الاساسية للانسان في هذه البلدان.
ولهذا لايمكن ان نستنتج من الديمقراطية التي يتحدث عنها بوش سوى شيء واحد: انعدام صلة الديمقراطية بشكل تام بتحرر الانسان وحرياته وحقوقه. ان منح مداليات الديمقراطية لتلك البلدان التي تخلق نوع من التغيير الطفيف، وبالحقيقة زحزحة البنية الفوقية الحكومية قليلاً لتشمل قطاع اوسع سواء من الساخطين، اي يجب ان لاتكون السلطة الحاكمة في السعودية مثلاً مقتصرة على حكم عائلة واحدة او حفنة عوائل. ان المعنى العملي لذلك في الاردن ومصر توسيع الحقوق التمثيلية والانتخابية لكي تمتص النقمة السياسية القائمة في تلك البلدان او اعطاء حقوق اكثر قليلا للمراة في الكويت، او قيام البحرين بانتخابات بين مجموعة افراد من الطبقة الحاكمة اوغيرها. ولكن ماهو القانون والدستور الذي يسير البلد، وماذا يترك القانون من مكانة للمراة والشباب والملحد، ماهي مكانة حرية التنظيم وتاسيس الاحزاب، ماهو مكانة الدين ودوره في التطاول على حقوق الافراد، هل تبقى عقوبة الاعدام عبر قطع الراس بالسيف وقطع يد السارق اليمنى في السعودية، فهذه امور ليست مهماً في عرف ديمقراطية بوش. ان الديمقراطية التي يتحدثنا عنها بوش ليست لها ادنى صلة بالديمقراطية الليبرالية او الديمقراطية الغربية او ما تعارف عليه بوصفه مرتكزات الديمقراطية. بل انها في تناقض جدي معها لسبب بسيط ان الديمقراطيات الليبرالية والغربية قد اقرت بنوع من الحقوق بوصفها مسلمات. بيد ان ديمقراطية بوش تتنكر لكل شيء.
ان حديث بوش عن ان الديمقراطية تاخذ عدة اشكال، ولاتعني بالضرورة نمط واحد (وقصده ان الديمقراطية التي يهديها بوش لشعوب المنطقة لاتعني "الامركة" او"التغريب" والتي لاتهدف الا الى امتصاص انتقاد القوميين والاسلاميين سلفاً ومساومته لهم) وحديثه عن عدم اعتقده بان هناك تناقض بين الديمقراطية والاسلام (!!) والخ ما هو الا اعطاء امتياز لتيارات الاسلام السياسي لابقاء سيفها شاهراً بوجه اليسار والعامل والتحرر والرفاه. ان هذه هي رسالة لتيارات الاسلام السياسي بان ديمقراطيته التي ينشدها للجماهير في المنطقة هي ديمقراطية لاتستبعد الاسلام السياسي، بل القسم المناهض لامريكا ومصالحها، اي ما يطلق عليه القسم "الارهابي"، "الاصولي" و"المتطرف". انها ديمقراطية تغازل الدين ولايهمها اية ماساة يجلبها الدين للجماهير. انها ديمقراطية راضية ببعض الاصلاحات السياسية الطفيفة حتى تلجم غضب الناس الجياش وامتصاص نقمتها. انها ديمقراطية يتمثل كل هدفها برفع صمام الامان لكي لاتنفجر الاوضاع بشكل تام ويهدد مصالح الراسمال في المنطقة باجمعه للخطر.
من جهة اخرى، يمكن فهم دعوة بوش هذه في خضم وضع امريكا في المنطقة: وتحديدا مسالتي العراق وفلسطين. ان النزعة القومية العربية الحاكمة، ومن ضمنها جامعتها العربية، قد عبرت مراراً وتكراراً عن امتعاضها من سياسات امريكا تجاه هاتين المسالتين، ووقفت في احيان كثيرة بوجه سياسة امريكا بهذا الصدد ادراكاً منها لعدة حقائق: اولها ان سياسات امريكا ودعمها لاسرائيل سوف يبقى الباب مفتوحاً بوجه تنامي تيارات الاسلام السياسي والارهاب كعتلته الرئيسية، وثانيا ان استمرار اوضاع العراق على هذه الشاكلة وتحوله الى بؤرة لعدم الاستقرار وتصفية حسابات بين اطراف دولية ومحلية كثيرة، وبالتالي، من الوارد جداً ان تنتقل هذه البؤر الى بلدانها نفسها وبالاخص انها تدرك هشاشة وضعها الداخلي وعمق ازمتها الشاملة. ان تفجيرات السعودية واسطنبول التركية هي خير دليل على هذه المخاوف. في هذا الصراع بين حكومات المنطقة وامريكا حول مسائل المنطقة، تعد ورقة الديمقراطية ذات اهمية بالغة بالنسبة للولايات المتحدة لشهرها بوجه "خصومها". انها تدرك جيداً نقطة ضعف هذه الحكومات، سخط الجماهير على الهيئات السياسية الحاكمة وعلى مجمل بنيتها الحكومية والسياسية والاجتماعية، ولهذا تستخدمه امريكا كوسيلة ابتزاز مؤثرة بوجه حكومات المنطقة، ابتزازها من اجل فرض التنازلات عليها. كذلك، انه ذر الرماد في عيون جماهير المنطقة على ان امريكا غير راضية بما يجري تجاه شعوب المنطقة من سلب حرياتها وحقوقها وبالاخص حقها في المشاركة في الحياة السياسية لبلدان المنطقة. لن ينطلي مثل هذا التباكي على احد، هذا التباكي الذي وصل لحد الوقاحة حين قال بوش منتقدا سياسة الدول الغربية والامريكية السابقة: "ستون عاما قامت خلالها الدول الغربية بتبرير الافتقار الى الديمقراطية في الشرق الاوسط والتسامح معه لم تفعل اي شيء لتجعلنا امنين لان الاستقرار على المدى الطويل لايمكن شراؤه على حساب الحرية"(!!). ان امريكا ترى الحركات الجماهيرية المتنوعة المطالبة بضرورة التغيير الشامل في كل مناحي الحياة ونيل الحقوق الاساسية لانسان يعيش في القرن الحادي والعشرين. انها تسعى لاحتواء التطلع العظيم للجماهير المليونية في المنطقة والمتعطشة للحرية والمساواة وقولبة هذا التطلع وافراغه من محتواه في ديمقراطية بائسة ليست لها ادنة صلة باحداث تغيير حقيقي وجدي في حياة الناس وامالها بحياة افضل.
ليس بوسع بوش انقاذ راسه من النفق المظلم الذي يمر به. ليس بوسع "الديمقراطية في الشرق الاوسط" ان تقدم اي دواء لدائه المتضخم والمستفحل سريعاً، وهو المطوق بضغط المازق العراقي، تنامي ارهاب الاسلام السياسي، فشل سياساته في المنطقة وعلى الصعيد العالمي، تداعي اماله بقيادة امريكا نحو عالم جديد يطأطأ الجميع واولهم خصومها الاوربيين لامريكا وغطرستها، الاحتجاجات الداخلية و"سوء الادارة" و"جلب انعدام الامان بدل الامان" للمواطن الامريكي واهمها الانتخابات الامريكية المقبلة وموعده مع الناخب الامريكي وهو في حالة يرثى لها!! انقلب السحر على الساحر!